ما حكم اشتراط صاحب المال على المضارب أن يعمل في سلعة بعينها؟ فقد اتفقت مع صديق لي يعمل في مجال الاستيراد على أن أدفع له مبلغًا من المال، واشترطت عليه أن يتَّجِرَ بمالي والربح بيننا مناصفة، وذلك في نوعٍ معينٍ من التليفونات؛ لعلمي أنَّ الربح في هذا المجال وفير؟
حكم اشتراط صاحب المال على المضارب المتاجرة في سلعة معينة
الاتفاق الذي حصل بينكما على الاتجار في نوعٍ معينٍ من التليفونات صحيح شرعًا، ويجب على المضارِب الالتزام به وعدم مخالفته، على أن يراعى في ذلك كله القوانين واللوائح المعمول بها في هذا الشأن، ودار الإفتاء المصرية تهيب بالمواطنين ضرورةَ الانتباه لخطورة قيام الأفراد بجمع الأموال من غيرهم من أجل استثمارها أو توظيفها، وزيادة الوعي بالعمل تحت سياج المؤسسات والشركات المالية الرسميَّة المقنَّنة، التي تحظى برقابة الدولة والحماية المطلوبة للمتعاملين فيها.
التفاصيل ....المحتويات
- شروط العقود العامة
- نصوص الفقهاء في حكم تقييد المضاربة لصالح صاحب المال
- حكم اشتراط صاحب المال على المضارب أن يعمل في سلعة بعينها
- موقف القانون من جمع الأموال من الأفراد من أجل استثمارها
- الخلاصة
شروط العقود العامة
المعاملات الجارية بين الناس يراعى فيها ابتداءً تحقُّقُ شروط العقود عامة من أهلية المتعاقدين، وحصول الرضا بينهما، وانتفاء الغرر، وكذلك خلو المعاملة من الشروط الممنوعة شرعًا، وقد جاء في الحديث الشريف أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» أخرجه الدَّارَقُطْني والبَيْهَقِي في "السنن الكبرى".
نصوص الفقهاء في حكم تقييد المضاربة لصالح صاحب المال
الصورة المسؤول عنها هي من قبيل المضاربة أو القِراض، وهو من العقود المشروعة؛ حيث تحقق فيها -أي صورة السؤال- أن صاحب المال قد أعطى غيره ماله ليتَّجر فيه ويكون الربح بينهما على ما شرطا من الربع أو الثلث أو غيره.
والمضاربة قد تكون مطلقة بلا شرط، وقد تكون بشرطٍ؛ وهذا الشرط قد يتعلق بالزمان أو المكان أو الأشخاص، وقد يكون مقيدًا بنشاطٍ معينٍ أو سلعةٍ معينةٍ، والناظر في نصوص الفقهاء يجد أنهم قد أجازوا تقييد المضاربة في الجملة، إلا أنهم اختلفوا في مجال هذا التقييد ومشمولاته ما بين مُوسِّع ومُضَيِّقٍ:
قال العلامة ابن مَوْدُود الموصلي الحنفي في "الاختيار" (3/ 21، ط. الحلبي) في أنواع الشروط الخاصة في المضاربة: [الثالث: أن يخصه بنوعٍ من أنواع التجارات بأن يقول له: على أن تعمل به مضاربةً في البَزِّ أو في الطعام أو في الصَّرْف ونحوه، وفي كلِّ ذلك يتقيد بأمره ولا يجوز له مخالفته؛ لأنه مقيد] اهـ.
وقال الإمام الخَرَشي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (6/ 213، ط. دار الفكر): [(ص) واشتراطه أن لا ينزل واديًا أو يمشي بليلٍ أو ببحرٍ (ش) يعني أنه يجوز لرب المال أن يشترط على العامل أن لا ينزل واديًا أو لا يسير بالمال في الليل؛ لِمَا فيه من الخطر، أو لا ينزل بالمال في البحر الملح أو الحلو؛ لما فيه من الخطر، (ص) أو يبتاع سلعة (ش) عطف على ينزل مع تقدير لا؛ أي أنه إذا شرط رب المال على العامل أن لا يبتاع سلعة عيَّنها له، وكان ذلك لغرضٍ صحيحٍ من قلةِ الربح فيها أو حصول الوضيعة فيها فإنه يعمل بشرطه؛ لأنه شرط جائز] اهـ.
وقال العلامة الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (3/ 401، ط. دار الكتب العلمية): [ويشترط أن لا يُضَيِّق المالك على العامل في التصرف، (و) حينئذ (لا يجوز أن يشرط عليه شراء) -بالمد بخطه- (متاع معين) كهذه الحنطة أو هذا الثوب، (أو) شراء (نوع يندر وجوده) كالخيل البُلْق والياقوت الأحمر والخَزِّ الأدكن، (أو) شرط عليه (معاملة شخص) بعينه كـ"لا تَبِعْ إلا لزيد"، أو "لا تشتر إلا منه"، لإخلاله بالمقصود؛ لأن المتاع المعين قد لا يربح، والنادر قد لا يجده، والشخص المعين قد لا يعامله، وقد لا يجد عنده ما يظن أن فيه ربحًا.. تنبيه: أفهم كلام المصنف أن النوع إذا لم يندر وجوده أنه يصح، ولو كان ينقطع كالفواكه الرطبة، وهو كذلك لانتفاء التضييق، وكذا إن ندر، وكان بمكان يوجد فيه غالبا، قاله الماوَرْدِي والرُّوياني. ولو نهاه عن هذه الأمور صح؛ لأنه يمكنه شراء غير هذه السلعة] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي في "المغني" (5/ 49، ط. مكتبة القاهرة): [والشروط في المضاربة تنقسم قسمين: صحيح، وفاسد، فالصحيح: مثل أن يشترط على العامل أن لا يسافر بالمال، أو أن يسافر به، أو لا يتجر إلا في بلد بعينه، أو نوع بعينه، أو لا يشتري إلا من رجل بعينه. فهذا كله صحيح، سواء كان النوع مما يعم وجوده، أو لا يعم، والرجل ممن يكثر عنده المتاع أو يقل] اهـ.
حكم اشتراط صاحب المال على المضارب أن يعمل في سلعة بعينها
إذا عُلِم ذلك فإن الحكم فيما ورد في مسألتنا من اشتراط صاحب المال على المضارب أن يعمل في سلعة بعينها مبني على ما قرره الفقهاء في مدى صحة هذا الشرط ومشروعيته، حيث اختلفوا على قولين:
القول الأول: ذهب الحنفية والحنابلة إلى صحة المضاربة مع هذا الشرط، ولا يجوز للمضارب أن يتجاوز هذا الشرط؛ بناء على كون المضاربة نوع وكالة في التصرف في المال؛ والتقييد من حقِّ صاحب المال حينئذ.
قال الإمام فخر الدين الزَّيْلَعِي الحنفي في "تبيين الحقائق" (5/ 59، ط. الأميرية): [إذا خصَّ له رب المال التصرف في بلد بعينه أو في سلعة بعينها، أو في معاملة رجل بعينه، لا يجوز له أن يتعدَّاه، فإن تعدَّى صار ضامنًا؛ لأن المضاربة توكيل، وفي التخصيص فائدة من أمن خطر الطريق وخيانة المضارب ومن نفقته من ماله، وكذا الأسعار قد تختلف، فبالتقييد تحصل الفائدة فتعتبر] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي في "الكافي" (2/ 153، ط. دار الكتب العلمية): [ويصح أن يشرط على العامل أن لا يسافر بالمال، ولا يتجر به إلا في بلد بعينه، أو نوع بعينه أو لا يعامل إلا رجلًا بعينه؛ لأنه إذن في التصرف فجاز ذلك فيه كالوكالة] اهـ.
والقول الثاني: ذهب المالكية في المعتمد، والشافعية في الأصح إلى أنَّه إذا اشترط صاحب المال على المضارب القيام بالمضاربة من خلال سلعة معيَّنة يقلُّ وجودها في الأسواق أو يَندُر فإنَّ هذا الشرط يفسد المعاملة، فإن كانت هذه السلعة موجودة فالشرط صحيح وجائز، وذلك منعًا للتضييق على المضارِب أو التحجير عليه.
قال العلامة عِلِيش المالكي في "منح الجليل" (7/ 329، ط. دار الفكر): [(أو) قِرَاضٌ شَرَط رب المال على العامل فيه أن يتجر (فيما) أيِّ نوعٍ من السلع (يَقِلُّ) -بفتح التحتية وكسر القاف وشد اللام- وجوده فلا يجوز وإن نزل فسخ، وإن عَمل فله قراض مثله في ربحه، ونصُّها: قال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: لا ينبغي أن يقارض رجلًا على أن لا يشتري إلا البَزَّ إلا أن يكون موجودًا في الشتاء والصيف فيجوز، ثم لا يعدوه إلى غيره. الباجي: فإن كان يتعذر وجوده لقِلَّته فلا يجوز] اهـ.
وقال الإمام الرَّافِعِي الشافعي في "الوجيز" (6/ 12-13، ط. دار الكتب العلمية) وذلك في سياق ذكره لشروط المضاربة من ناحية عمل المضارب: [الأمر الثاني: ألا يكون مضيقًا عليه بالتعيين، فلو عين نوعًا للاتجار فيه، نُظِر إن كان مما يندر وجوده كالياقوت الأحمر، والخَزِّ الأدكن، والخيل البُلْق، والصيد حيث يوجد نادرًا فسد القراض، فإن هذا تضييقٌ يُخلُّ بمقصوده، وإن لم يكن نادر الوجود، نُظِر إن كان يدوم شتاءً وصيفًا، كالحبوب والحيوان والخَزِّ والبَزِّ، صح القِراض، وإن لم يدم كالثمار الرطبة، فوجهان: أحدهما: أنَّه لا يجوز.. وأصحهما -وبه قال أبو إسحاق-: أنه يجوز] اهـ.
ويظهر من ذلك أنَّ محل اتفاق جمهور الفقهاء على صحة الاشتراط في المضاربة وتقييدها بنوعٍ محددٍ من السلع دون غيره متحققٌ في حالة كونها متوفرة وموجودة في مكان ممارسة المضارِب لعمله، فـ"المراد بعموم الوجود حالة العقد في الموضع المعين للتجارة، ولا يعتبر عموم وجوده في سائر الأزمان والأمكنة" كما قال العلامة ابن الرِّفْعَة الشافعي في "كفاية النبيه" (11/ 114، ط. دار الكتب العلمية)، لكن محل اختلافهم واقع في حالة ندرة وجود السلعة.
موقف القانون من جمع الأموال من الأفراد من أجل استثمارها
هذا، ومما ينبغي التنبه إليه ومراعاته أنَّ إعطاء المال أو تَلَقِّيه للاتجار فيه ينبغي أن يراعى فيه القوانين واللوائح المنظمة، لأن تقيد الحاكم لنطاق عمل عقد من العقود هو من الأمور المشروعة، فقد كان التقييد لمصلحة راعاها ولي الأمر، وتقييده يرفع الخلاف ويصير الأمر ممنوعا إلا في حدود هذا التقييد.
وقد حظر القانون المصري على الأفراد جمع الأموال من غيرهم من أجل استثمارها أو توظيفها؛ حيث نصت المادة الأولى من القانون رقم 146 لسنة 1988م على أنه: [لا يجوز لغير شركة المساهمة التي تطرح أسهمها للاكتتاب العام والمقيَّدة في السجل المُعَدِّ لذلك بالهيئة أن تتلقى أموالًا من الجمهور بأية عملة وبأية وسيلة وتحت أي مسمى لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة بها سواء أكان هذا الغرض صريحًا أو مستترًا. كما يحظر على غير هذه الشركات توجيه دعوة للجمهور بأية وسيلة مباشرة أو غير مباشرة للاكتتاب العام أو لجمع هذه الأموال لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة بها] اهـ.
فهذا النصُّ يحدد كيف أنَّ الدولة حدَّدت على سبيل الحصر من يُسمح له بتلقي الأموال من الجمهور، كما رتَّب عقوبة على كلِّ من يخالف أحكام هذا القانون بالحبس والغرامة وفقَ تفاصيلِ المخالفات المرتكَبة، وعليه فكلُّ تلَقٍّ للأموال على خلاف أحكام هذا القانون يعَدُّ مخالفة لولي الأمر الذي نظَّم التعاملات في هذا الباب بشكل مفصل؛ حفظًا لأموال الناس من الضياع.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فالاتفاق الذي حصل بينكما على الاتجار في نوعٍ معينٍ من التليفونات صحيح شرعًا، ويجب على المضارِب الالتزام به وعدم مخالفته، على أن يراعى في ذلك كله القوانين واللوائح المعمول بها في هذا الشأن، ودار الإفتاء المصرية تهيب بالمواطنين ضرورةَ الانتباه لخطورة قيام الأفراد بجمع الأموال من غيرهم من أجل استثمارها أو توظيفها، وزيادة الوعي بالعمل تحت سياج المؤسسات والشركات المالية الرسميَّة المقنَّنة، التي تحظى برقابة الدولة والحماية المطلوبة للمتعاملين فيها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.