ما حكم إعادة تأجير العين المستأجرة بعلم صاحبها؟ فهناك رجلٌ يَعمل في تأجير الدراجاتِ الناريةِ في المصايف في فصل الصيف، لكن ليس لديه مالٌ ليشتري به تلك الدراجات التي يؤجِّرها، فيذهب إلى أحد الأشخاص الذين يملِكونها ويؤجِّرونها للغير، ويَعمل عقدَ إيجارٍ لعددٍ كبيرٍ منها لمدةٍ معينةٍ، ويستلمُها، ومِن ثَمَّ يؤجِّرها بثمنٍ أكثرَ مما استأجرها به، وفرق ثمن الإجارة الأُولى والثانية هو رِبحُه في هذا العمل، والمالِك الذي يستأجِرُ منه يَعلم أنه يفعلُ ذلك، فهل هذا جائز شرعًا؟
حكم إعادة تأجير العين المستأجرة بعلم صاحبها
يجوز شرعًا لمستأجر الدرَّاجات النارية من مالكها أن يؤجِّرها في المصايف بأجرةٍ زائدةٍ عنِ الثمنِ الذي استأجَرَها به أوَّلًا، ويأخذ هذه الزيادة على سبيل الربح له، ما دام أن المالِك على علم بهذا التصرُّف منه أو لَمْ يَتَّفِقَا على خلاف ذلك.
التفاصيل ....المحتويات
- بيان الحكمة من مشروعية الإجارة
- مفهوم الإجارة وبيان حكمها ودليلها
- حكم إعادة تأجير العين المستأجرة بعلم صاحبها
- نصوص فقهاء المذاهب في هذه المسألة
- موقف القانون من هذه المسألة
- الخلاصة
بيان الحكمة من مشروعية الإجارة
شَرَع اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الإِجَارَةَ؛ لحاجة الناس الشديدة إليها، إذ قد لا يَقْدِرُ بعضُ الناس على شراء كلِّ ما يريد، فَيَسْتَعِينُ على ذلك بِالإِجَارَةِ التي تُمَكِّنُهُ من الانتفاع بالشيء دون الحاجةِ إلى شرائِه، كما أنَّ بعض النَّاس مِن أصحاب الأملاك ليسوا في حاجةٍ إلى استخدام بعض أملاكهم، فيقومون بتأجيرها والانتفاعِ بالأُجرةِ، فأباحها الشرعُ؛ لِمَا فيها من تيسيرِ أمورِ الناسِ، وقضاءِ مصالحهم، وتبادُلِ المنافع فيما بينهم.
مفهوم الإجارة وبيان حكمها ودليلها
الإِجَارَةُ في اللغة: ما أُعْطِيَتْ من أجرٍ في عملٍ، كما في "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي (6/ 173، أ ج ر، ط. دار الهلال).
وشرعًا: بَيْعُ منفعةٍ معلومةٍ بأجرٍ معلومٍ. يُنظر: "تبيين الحقائق" للإمام فخر الدين الزَّيْلَعِي الحنفي (5/ 105، ط. الأميرية)، و"المختصر الفقهي" للإمام ابن عَرَفَة المالكي (8/ 159، ط. مؤسسة خلف)، و"مغني المحتاج" للإمام شمس الدين الخطيب الشِّرْبِينِي الشافعي (3/ 438، ط. دار الكتب العلمية)، و"كشاف القناع" للإمام أبي السعادات البُهُوتِي الحنبلي (3/ 642، ط. دار الكتب العلمية).
والأصلُ في جوازها ومشروعيتها قولُ الله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: 6]، وعن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".
وأجمَعَ أهلُ العلم على جواز الإِجَارَةِ، كما في "المغني" للإمام ابن قُدَامَة (5/ 321، ط. مكتبة القاهرة).
حكم إعادة تأجير العين المستأجرة بعلم صاحبها
الصورةُ المسؤولُ عنها -مِن تأجيرِ العينِ المُسْتَأجَرَةِ (الدرَّاجات النارية) مع زيادةِ ثَمَنِ الأجرةِ الثانيةِ- جائزةٌ شرعًا عند جمهور الفقهاء مِن الحنفيةِ والمالكيةِ والشافعيةِ، والحنابلة في الأصح، والقول بالجواز هو المروي كذلك عن سعيد بن المُسَيِّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والنخعي، والشعبي، ومجاهد، وعكرمة، وابن سيرين، والثوري.
ومَحِلُّ كون ذلك جائزًا هو ما إذا كانت العينُ المُسْتَأجَرَةُ لا يَتَفَاوَتُ الناسُ في الانتفاع بها، بمعنى أنَّ العينَ المُستَأجَرَة إذا كانت بحالةٍ بحيث لا يختلف استعمال الناس لها جاز للمُؤجِّر تأجيرها لغيره، كمن استأجر ثوبًا ليلبسه مثلًا، فليس له أن يُؤجِّره لغيره؛ لاختلاف الناس في الانتفاع به، كذا إذا لم يكن هناك ضررٌ على العينِ المُسْتَأجَرَةِ يَنْشَأُ من خلال الإيجار الثاني لها، كأنْ تكون العينُ المُؤَجَّرَةُ دارًا مثلًا، فَيَسْتَأجِرُهَا شَخْصٌ عاديٌّ، ثمَّ يؤجِّرُها إلى حدَّادٍ، فإنَّ استعمال الشخص العادي للدار يختلف في الغالب عن استخدام الحدَّاد لها.
وعلةُ الجوازِ هنا: أنَّ المُسْتَأجر امتلك بالإجارة الأُولى منفعةَ العينِ المُسْتَأجَرَةِ، والمِلْكُ كما يقع على العين فإنه يقع كذلك على المنفعة، والِملْكُ هنا واقعٌ على المنفعة، فجاز له أنْ يتصرف فيها، وتأجيرُها إنَّما هو نوعُ تصرفٍ يدخل ضمن التصرفات المأذون له فيها باعتباره مُسْتَأجِرًا مالكًا للمنفعةِ، كما أنَّه لَمَّا كان المستأجِرُ مالكًا للمنفعة، جاز له أن يستوفيها بنفسه ونائبه، ولَمَّا كانت الإجارة إنما هي لتمليك المنفعة، صحَّتِ الإجارةُ الأُولى مِن صاحب العين المستأجَرة؛ لأنه يَملِك المنفعةَ، فجاز كذلك للمستأجِر تأجيرُ العين المستأجَرة؛ لأنَّه المالكُ للمنفعة حينئذٍ، علاوةً على ذلك فإن الإجارة كالبيع، وبيعُ المبيع جائزٌ بعد قبضه، فكذلك إجارةُ العين المُسْتَأجَرةِ تجوز بعد القبض، ما لم يتفق العاقدان على غير ذلك، أو يترتب على الإيجار الثاني ضررٌ بالعين المستأجَرة.
كذا أجازوا أنْ تكون الإجارةُ الثانيةُ بثمنٍ أقلَّ أو مساوٍ أو أكثرَ من ثمن الإجارة الأُولى، غير أنَّ الحنفية اشترطوا في حال كون ثمن الإجارة الثانية أكثرَ مِن الأُولى أن يُحدث المستأجِر الذي يؤجِّر ثانيًا بالعين المُؤَجَّرَةِ شيئًا يكون مقابِلَ الزيادة التي سيأخذها، وإلا فَيَتَصَدَّقُ بالزيادة، مع جواز الإجارة وصحتها ونفاذها.
نصوص فقهاء المذاهب في هذه المسألة
قال الإمام علاء الدين الكَاسَانِي الحنفي في "بدائع الصنائع" (4/ 206، ط. دار الكتب العلمية): [وللمستأجر في إجارة الدار وغيرها من العقار أنْ ينتفع بها كيف شاء، بالسُّكنى، ووضع المتاع، وأنْ يَسْكُنَ بنفسه، وبغيره، وأنْ يُسْكِنَ غيره بالإجارة... ولو أجَّرَها المستأجِرُ بأكثر مِن الأجرة الأُولى.. لا تطيب له حتى يزيد في الدار زيادةً من بناءٍ أو حفرٍ أو تطيينٍ أو تجصيصٍ، فإنْ لم يزد فيه شيئًا فلا خير في الفضل، ويتصدق به، لكن تجوز الإجارة] اهـ.
وقال الإمام برهان الدين ابن مَازَه الحنفي في "المحيط البرهاني" (7/ 429، دار الكتب العلمية): [قال محمد رحمه الله: وللمستأجِر أن يؤاجِر البيتَ المستأجَر مِن غيره، فالأصل عندنا: أن المستأجِر يَملِكُ الإجارة فيما لا يتفاوت الناس في الانتفاع به؛ وهذا لأن الإجارة لتمليك المنفعة، والمستأجِرُ في حق المنفعة قامَ مَقامَ الآجِر، وكما صَحَّت الإجارةُ مِن الآجِر تَصِحُّ مِن المستأجِر أيضًا] اهـ.
وقال الإمام شمس الدين الحَطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (5/ 417، ط. دار الفكر): [وقال في "العمدة"... ومَن اكترى دارًا فله أنْ يَسْكُنَهَا، أو يُسْكِنَهَا، أو يُؤَجِّرَهَا من مُؤَجِّرِهَا، أو أجنبي، مثل الآجر، أو أقل، أو أكثر. انتهى.. وقال في كتاب الدُّور مِن "المدونة": ومَن اكترى دارًا فله أنْ يَكْرِيَها مِنْ مثله بأكثر من الكراء أو بأقل، ومن اكترى حانوتًا للقصارة فله كراؤه مِن حدادٍ أو طحانٍ أو غيره، إلا أنْ يكون ذلك أكثر ضررًا بالبنيان فَيُمْنَعُ، وله ذلك في المُسَاوِي] اهـ.
وقال الإمام أبو إسحاق الشِّيرَازِي الشافعي في "المهذب" (2/ 258، ط. دار الكتب العلمية): [وللمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها؛ لأن الإجارة كالبيع، وبيع المبيع يجوز بعد القبض، فكذلك إجارة المستأجر... ويجوز أن يؤجرها برأس المال وبأقل منه وبأكثر] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة الحنبلي في "المغني" (5/ 354-355): [ويجوز للمستأجر أنْ يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها، نصَّ عليه أحمد، وهو قول سعيد بن المسيب، وابن سيرين، ومجاهد، وعكرمة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والنخعي، والشعبي، والثوري، والشافعي وأصحاب الرأي، وذكر القاضي فيه رواية أخرى أنه لا يجوز... والأول أصح؛ لأن قبض العين قام مقام قبض المنافع، بدليل أنه يجوز التصرف فيها، فجاز العقد عليها، كبيع الثمرة على الشجرة.. إذا ثبت هذا فإنه لا تجوز إجارته إلا لمن يقوم مقامه، أو دونه في الضرر... ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الأجر وزيادة، نص عليه أحمد... ولنا أنَّه عقدٌ يجوز برأس المال، فجاز بزيادةٍ، كبيع المبيع بعد قبضه، وكما لو أحدث عمارة لا يقابلها جزءٌ من الأجر] اهـ.
وقال الإمام أبو السعادات البُهُوتِي الحنبلي في "كشاف القناع" (3/ 664): [(وتصح إجارةُ مستأجِر) العين المؤجَّرة (لمن يَقوم مَقامَه) في استيفاء النَّفْع (أو) لمن (دُونَه في الضرر)؛ لأن المنفعة لَمَّا كانت مملوكةً له جاز له أن يستوفيها بنَفْسه ونائبه] اهـ.
ومعلومٌ أن الدرَّاجات النارية التي يتم تأجيرها في المصايف لا يختلف الناس في استعمالها غالبًا، ولا يترتب على التأجير الثاني لها أيُّ ضررٍ خارج عن المألوف في استعمالها خاصةً مع عِلم المالِك المؤجِّر لها أوَّلًا بهذا التأجير، كما أنَّ المستأجِر الأول قد نَقَلَها مِن مكانها لدى مالِكها إلى المكان الذي سيتم التأجير الثاني لها فيه، وهذا بمثابة إضافةٍ حُكميةٍ للعين المُسْتَأجَرَةِ يستحِلُّ بها المؤجِّر زيادةَ ثمنِ الإجارةِ الثانيةِ عن ثمن الإجارة الأُولَى كما سبق بيانُه مِن مذهب الحنفية.
موقف القانون من هذه المسألة
على ذلك جرى القانون المدني المصري الصادر برقم (131) لسَنَة 1948م، حيث نصَّ في مادته رقم (593) على أنَّ: [للمستأجِر حق التنازل عن الإيجار، أو الإيجار مِن الباطن، وذلك عن كلِّ ما استأجَرَه أو بعضِه، ما لَمْ يَقْضِ الاتفاقُ بغير ذلك] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك: فإنه يجوز للمستأجرِ شرعًا تأجيرُ العينِ المستأجَرَةِ، ولا حرجَ عليه في ذلك شرعًا، مع مراعاةِ كونِ الإيجارِ الثاني لها لا يَنْشَأُ عنه إضرارٌ بالعينِ المستأجَرةِ، كما يُراعَى كونُ العينِ المستأجَرَةِ مما لا يختلف الناسُ في الانتفاعِ به، كما يجوز أنْ تكون الإجارةُ الثانيةُ بثمنٍ أكبر من أُجْرَةِ الإجَارَةِ الأُولَى، مع استحباب أن يكون المستأجِرُ قد أضاف للعين المُسْتَأجَرَةِ زيادةً تُسوِّغ له طَلَبَ الزيادة على الإيجار الأوَّل؛ خروجًا مِن خلاف مَن اشترط ذلك مِن الفقهاء، وذلك كلُّه مشروطٌ بألَّا يكون هذا الفعلُ منه مخالفًا للاتفاق الذي بينه وبين المالك.
وفي واقعة السؤال: ما يفعله الرجل المذكور مِنْ تأجير الدرَّاجات النارية مِن مالِكِها، ومِن ثَمَّ يؤجِّرها في المصايف بأجرةٍ زائدةٍ عنِ الثمنِ الذي استأجَرَها به أوَّلًا، ويأخذ هذه الزيادة على سبيل الربح له، والمالِك على علم بهذا التصرُّف منه أو لَمْ يَتَّفِقَا على خلاف ذلك -أمرٌ جائز شرعًا، ولا إثم عليه في ذلك ولا حرج.
والله سبحانه وتعالى أعلم.