ما حكم من لم يستطع أداء السعي حتى انتهت المناسك؟ فلي صديقٌ ذهب لأداء فريضة الحج، وقد انتهى مِن طواف الإفاضة، غير أنَّه لم يستطع أن يسعى بين الصفا والمروة، فماذا عليه أن يفعل؟ علمًا بأنه سيجلس في مكة مدة بعد الانتهاء من الحج.
السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة من المسائل الخلافيَّة بين الفقهاء التي يجوز الأخذ فيها بقول أيٍّ من المجتهدين، وما دام صديقك سينتظر مدة بمكة ويستطيع أن يذهب للسعي بين الصفا والمروة فعليه العودة والقيام بالسعي بين الصفا والمروة، ولا يضر الفصل بين السعي وطواف الإفاضة حينئذ وإن طال؛ إذ المختار أنَّ الموالاة بين الطواف والسعي سنَّة.
المحتويات
مِن شعائر الإسلام في فريضة الحج التي أراد لها الشرع الشريف أن تتضح وتتجلَّى: السعي بين الصفا والمروة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158].
قال الإمام أبو محمد ابن عطية في تفسيره المسمى بـ"المحرر الوجيز" (1/ 229، ط. دار الكتب العلمية): [﴿مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ معناه: من معالمه ومواضع عبادته] اهـ.
والسعي لغةً: العَدْوُ مِن غيرِ شَدٍّ، وهو فوق المشي، ومنه أُخِذَ السعي بين الصفا والمروة؛ كما في "تاج العروس" للإمام أبي الفَيْض الزَّبِيدِي (38/ 279، ط. دار الهداية).
وشرعًا: المشي بين جَبَلَي الصفا والمروة سبعةَ أشواطٍ بعد طوافٍ في نُسُكِ حجٍّ أو عُمرةٍ.
قد اختلف الفقهاء في حكم السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة على ثلاثة أقوال: فذهب المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة في الصحيح من المذهب إلى أنَّ السعي ركن من الأركان الذي لا يتم الحج والعمرة إلا به، ولا يُجبَر تركُه بدم، وعلى مَن تركه أو ترك بعضه الرجوع إلى مكة والإتيان به، حتى لو كان تركه بعذرٍ كأن يكون جاهلًا أو ناسيًا.
قال الإمام الحَطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (3/ 84، ط. دار الفكر): [ما ذكره المصنف من أن السعي ركن هو المعروف من المذهب، فمَن ترك السعي أو شوطًا منه أو ذراعًا من حج أو عمرة صحيحتين أو فاسدتين رجع له من بلده] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 76، ط. دار الفكر): [السعي ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلَّا به، ولا يجبر بدم ولا يفوت ما دام صاحبه حيًّا، فلو بقي منه مرة من السعي أو خطوة لم يصح حجه ولم يتحلل من إحرامه حتى يأتي بما بقي، ولا يحل له النساء وإن طال ذلك سنين، ولا خلاف في هذا عندنا] اهـ.
وقال الإمام المَرْدَاوِي الحنبلي في "الإنصاف" (4/ 58، ط. دار إحياء التراث العربي): [أما السعي: ففيه ثلاث روايات، إحداهن: هو ركن، وهو الصحيح من المذهب] اهـ.
واستدلوا على ركنيَّة السعي بحديث صَفِيَّةَ بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبي تُجْرَاةَ أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفا والمروة يقول: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيُ فَاسْعَوْا» أخرجه الإمام الشافعي والإمام أحمد في "المسند"، وصححه ابن خزيمة في "صحيحه".
ووجه الدلالة من الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صرَّح بكتابة هذا الفعل على المكلفين من أمته، وكتب بمعنى أوجب.
قال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 99، ط. أوقاف المغرب): [وكتب بمعنى أوجب كقول الله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183]، وكقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمس الصلوات: «كتبهنَّ الله على العباد»] اهـ.
بينما ذهب الحنفية إلى أن السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة واجبٌ، وهو أحد الأقوال عند الحنابلة، ورجحه ابن قدامة، وهو مذهب الحسن والثوري.
قال الإمام برهان الدين المرغيناني الحنفي في "الهداية" (1/ 163، ط. دار إحياء التراث العربي): [(ومَن ترك السعي بين الصفا والمروة فعليه دم وحجه تام)؛ لأنَّ السعي من الواجبات عندنا، فيلزم بتركه الدم دون الفساد] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة الحنبلي في "المغني" (3/ 352، ط. مكتبة القاهرة): [قال القاضي: هو واجبٌ، وليس بركن، إذا تركه وجب عليه دم. وهو مذهب الحسن، وأبي حنيفة، والثوري. وهو أولى] اهـ.
والواجب عند الحنفية يُجبَر تركُه من غير عذر بدَمٍ، ولو ترك معظمَه كذلك، أمَّا لو ترك ثلاثة أشواط أو أقل من ذلك فعليه لكلِّ شوطٍ نصف صاع من حنطة، هذا إذا كان الترك من غير عذر، والصاع عند الحنفية: 3.25 كيلو جرام، فنصفه: 1.625 كيلو جرام، وإن كان لعذرٍ فلا شيء عليه.
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني في "المبسوط" (2/ 407، ط. إدارة القرآن والعلوم الإسلاميَّة- كراتشي): [وإنْ ترَكَ السعيَ فيما بين الصفا والمروة رأسًا في حجٍّ أو عُمرةٍ فعليه دم، وكذلك إن ترك منه أربعة أشواط، وإن ترك ثلاثة أشواط أطعَمَ لكلِّ شوطٍ مسكينًا نصفَ صاعٍ من حنطة] اهـ.
وقد استدلوا على وجوب السعي وعدم ركنيته بقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 158].
وقالو: إنَّ الحديث الوارد عن السيدة صَفِيَّةَ -من قسم الآحاد التي يثبت بها الوجوب لا الركنيَّة كما هو مقرر في أصولهم؛ حيث جاء في "كشف الأسرار شرح أصول البزدوي" للإمام علاء الدين البخاري (1/ 84، ط. دار الكتاب الإسلامي): [الأدلة السمعية أنواع أربعة: قطعي الثبوت والدلالة كالنصوص المتواترة، وقطعي الثبوت ظني الدلالة كالآيات المؤولة، وظني الثبوت قطعي الدلالة كأخبار الآحاد التي مفهومها قطعي، وظني الثبوت والدلالة كأخبار الآحاد التي مفهومها ظني، فبالأول يثبت الفرض وبالثاني والثالث يثبت الوجوب وبالرابع يثبت السُّنَّة والاستحباب ليكون ثبوت الحكم بقدر دليله] اهـ. وينظر: "الاختيار" للعلامة ابن مودود الموصلي (1/ 148، ط. الحلبي).
وذهب الإمام أحمد في رواية إلى أنَّ السعي سُنَّة لا شيء على مَن تركه؛ وهو قول جماعة من فقهاء الصحابة والتابعين كابن عباس، وابن الزبير، وأنس بن مالك، وابن مسعود، وأبيِّ بن كعب، ومجاهد، وابن سيرين، وعطاء، وإسحاق.
قال الإمام الجصاص في "أحكام القرآن" (1/ 116، ط. دار الكتب العلمية): [ذَكَر أبو الطفيل عن ابن عباس: أن السعي بينهما سنة وأن النبي عليه السلام فعله. وروى عاصم الأحول عن أنس قال: كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية، والطواف بينهما تطوع.
وروي عن عطاء عن ابن الزبير قال: مَن شاء لم يطف بين الصفا والمروة. وروي عن عطاء ومجاهد أن مَن تركه فلا شيء عليه] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في "تفسيره" (2/ 183، ط. دار الكتب المصرية): [اختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة... وروي عن ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين أنَّه تطوع] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة في "الكافي" (1/ 518، ط. دار الكتب العلمية): [وعنه: أنه سُنَّة لا شيء على تاركه] اهـ.
واستدلوا على ذلك بعدة أدلة منها قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158].
حيث أخبر سبحانه وتعالى برفع الحرج والجناح عمن يطوف بهما، وهو أسلوب مستعمل فيما كان مباحًا كالقصر؛ قال تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ [النساء: 101].
والآية أوكد من خبر الواحد الذي يُستدل به على الركنية أو الوجوب، فكان العمل بها واجبًا. كما أنَّ ابن مسعود وأُبيًّا وابن عباس يقرؤون: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِ أَن لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾. وهي قراءة ثلاثة من الصحابة، وظاهرها رفع الإثم عمن ترك السعي بين الصفا والمروة. ينظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 155، ط. دار الكتب العلمية)، و"تفسير القرطبي" (2/ 183).
الحاصل أنَّ السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة من المسائل الخلافيَّة بين الفقهاء التي يجوز الأخذ فيها بقول أيٍّ من المجتهدين؛ إذ من القواعد المقررة في التعامل مع المسائل الخلافية شرعًا أنَّه "لا يُنكَر المختلفُ فيه وإنما يُنكَر المجمع عليه" كما في "الأشباه والنظائر" للإمام جلال الدين السيوطي (ص: 158، ط. دار الكتب العلمية).
لكن إذا كان الحاج ما زال بمكة ولم يغادر منها بعد الانتهاء من مناسك الحج، فإن الأولى له والأجدر به أن يؤدي السعي بين الصفا والمروة، خروجًا من خلاف الفقهاء، إذ قد تقرر أن "الخروج من الخلاف مستحب"، كما في "الأشباه والنظائر" للإمام جلال الدين السيوطي (ص: 136)، فيكون إيقاع الحاج عبادته على نحوٍ يصححه كل المجتهدين أَولَى من أن يفعل ذلك فيصح عند بعضهم دون البعض.
ولا يضر كون الحاج فَصَلَ بين الطواف والسعي بفاصل؛ إذ المختار أنَّ الموالاة بين الطواف والسعي سنَّة، وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية في قولٍ والشافعية في المذهب والحنابلة:
قال الملا علي القاري الحنفي في "المسلك المتقسط في المنسك المتوسط" (ص: 241، ط. المكتبة الإمدادية): [(إذا فرغَ من الطواف) أي: الطواف الذي بعده سعي، (فالسنة أن يخرجَ للسعي على فَوْره) أي: ساعته من غير تأخير؛ (فإن أخره لعذر) أي: لضرورة، (أو ليستريحَ) أي: ليحصل له الراحة وتعود إليه القوة (فلا بأس به) أي: لا يكون مسيئًا، (وإن أخره لغير عذر) أي: من استراحة وغيرها (فقد أساء) أي: لتركه الموالاة التي هي سنة بين الطواف والسعي (ولا شيء عليه) أي: من الجزاء بالدم أو الصدقة] اهـ.
وقال العَلَّامة المنوفي المالكي في "كفاية الطالب الرباني" (2/ 460، ط. مطبعة المدني) في كلامه عن سنن السعي: [وأما سننه فثمانية: الأولَى: اتصاله بالطواف إِلَّا الشيء اليسير] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (3/ 90، ط. المكتب الإسلامي): [الموالاة بين الطواف والسعي سنة، فلو تخلل بينهما فصل طويل، لم يضر] اهـ.
وقال العَلَّامة البُهُوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 567-568، ط. دار الكتب العلمية): [(وله) أي: للساعي (تأخيره) أي: السعي (عن طوافه بطواف أو غيره، فلا تجب الموالاة بينهما) أي: بين الطواف والسعي، (فلا بأس أن يطوف أول النهار ويَسْعَى آخره)، أو بعد ذلك، لكن تُسَنُّ الموالاة بينهما] اهـ.
بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فما دام صديقك سينتظر مدة بمكة ويستطيع أن يذهب للسعي بين الصفا والمروة فعليه العودة والقيام بالسعي بين الصفا والمروة، ولا يضر الفصل بين السعي وطواف الإفاضة حينئذ وإن طال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما صفة إحرام الرجل والمرأة؟
ما حكم تغطية المرأة وجهها بالكمامة وهي محرمة؟ فقد أحرمت امرأة بالنسك، وتريد أن تضع على وجهها كمامةً طبيةً للتحرُّز من العدوى؛ فهل يجوز لها ذلك شرعًا؟ وهل يكون عليها فدية؟
هل تجوز زيادة مساحةِ الرقعة المخصصة لوقوف الحجيج على عرفة بما يُعرَف بامتداد عرفة؛ لاستيعاب العدد المتزايد من الحجاج؟
سائلة تقول: أمتلك مالًا يكفي للحج ولكن صحتي لا تمكنني من أدائه بنفسي، فهل لي أن أوكِّل مَن يحج عني؟
ما حكم من أحرم بالحج ثم مات بعد الوقوف بعرفة؟ فقد توفي أحد الحُجَّاج أثناء أدائه حَجَّةَ الفريضة، وذلك بعد الوقوف بعرفة وقبل إكمال باقي أعمال الحج، ولا يستطيع ذَوُوه أن يُكمِلوا الحَجَّ عنه، فما حُكمُه؟ وهل يجب عليهم في تركته شيءٌ؟