بيان حرمة التطاول على الصحابة الكرام رضي الله عنهم

تاريخ الفتوى: 22 يوليو 2025 م
رقم الفتوى: 8715
من فتاوى: فضيلة أ. د/ نظير محمد عياد - مفتي الجمهورية
التصنيف: الفرق
بيان حرمة التطاول على الصحابة الكرام رضي الله عنهم

نرجو بيان خطورة التطاول على الصحابة الكرام رضي الله عنهم، أو انتقاصهم، وما يترتب على ذلك شرعًا.

الصحابةُ الكرام رضي الله عنهم هم أفضلُ الخلق بعد الأنبياء، وخيرُ هذه الأمة، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ونقل دينه، ونصرة دعوته، وتبليغ شريعته، وقد زكاهم الله في كتابه، وأثنى عليهم في مواضع كثيرة، فقال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100]، وقال جل شأنه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29].

والتطاول أو الطعن في الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هو في حقيقته تطاوُلٌ وطعنٌ في الدِّين نفسه، وعداوةٌ صريحةٌ لمن نَصَرَ اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو معصيةٌ كبيرةٌ من كبائر الذنوب والآثام، ومسلكٌ من مسالك أهل الأهواء والضلال، وعلامةٌ بارزةٌ من علامات النفاق، ودليلٌ على فساد الطاعن وسوء سريرته، وعلى المؤمن أن يُمسك عمَّا شجر بينهم، وأن يُثني عليهم بالجميل، ويترضَّى عنهم، ويقتدي بهم، كما أمر اللهُ تعالى ونبيُّه صلى الله عليه وآله وسلم، فهُم حملة هذا الدِّين، وأئمة الهدى والرشاد، ونَقَلَةُ الوحي، وخيرة الخلق بعد الأنبياء، وقد ارتضى الله صحبتهم لخير خلقه، فمن أساء الظنَّ بهم فقد اتَّهم الشريعة في أصل نقلها ووقع في خطرٍ عظيم.

المحتويات

 

بيان فضل الصحابة ومنزلتهم رضي الله عنهم

الصحابةُ الكرام رضي الله عنهم هم أفضلُ الخلق بعد الأنبياء، وخيرُ هذه الأمة، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ونقل دينه، ونصرة دعوته، وتبليغ شريعته، وقد زكاهم الله في كتابه، وأثنى عليهم في مواضع كثيرة، فقال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100]، وقال جل شأنه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29].

وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ العِبَادِ، فَوَجَدَ قَلبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ خَيرَ قُلُوبِ العِبَادِ، فَاصطَفَاهُ لِنَفسِهِ، فَابتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ العِبَادِ بَعدَ قَلبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصحَابِهِ خَيرَ قُلُوبِ العِبَادِ، فَجَعَلَهُم وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ» أخرجه الإمامان: أحمد، والطبراني في "المعجم الكبير".

وقد أجمع أهل السنة والجماعة على عدالتهم، فهم خِيرة الخِيَرة، وصفوةُ الصَّفْوَة، وعدالتهم ثابتة بنصوص الكتاب والسُّنة، وبإجماع من يُعتدُّ به من الأئمة.

قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 162، ط. دار الكتب العلمية): [اتفق أهل السُّنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة. وقد ذكر الخطيب في "الكفاية" فصلًا نفيسًا في ذلك، فقال: عدالة الصحابة ثابتةٌ معلومةٌ بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم] اهـ.

وقد تلقَّى علماء الأمة ما ورد في الكتاب والسُّنة من النصوص المتكاثرة من توقير الصحابة الكرام وتعظيمهم بالتسليم والإجلال، وبنَوا على دلالتها موقفًا قاطعًا في تحريم الطعن في الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وبيان حكم التطاول عليهم أو الانتقاص من شأنهم؛ تحصينًا لجنابهم، وصيانةً لأعراضهم، وتحذيرًا من المساس بعدالتهم التي بها يُحفظ الدِّين، وتُصان المرويات.

قال الإمام أحمد بن حنبل: "ومن الحجة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن ذكر مساويهم والخلاف الذي شجر بينهم".

وقال أيضًا في شأنهم أنهم: "خير الناس، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئًا من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيبٍ ولا بنقصٍ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبُه وعقوبتُه"، كما في "طبقات الحنابلة" (1/ 30، ط. دار المعرفة) لابن أبي يعلى نقلًا عن أبي العباس أحمد بن يعقوب الإصطخري.

وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (7/ 580، ط. دار الوفاء): [وسب أصحاب النبي عليه السلام، وتنقُّصُهم أو أحد منهم من الكبائر المُحرَّمة، وقد لعن النبي عليه الصلاة والسلام فاعل ذلك، وذكر أنه من آذاه وآذى الله فإنه لا يقبل منه صرفٌ ولا عدل] اهـ.

بيان حرمة التطاول على الصحابة الكرام رضي الله عنهم

التطاول على الصحابة الكرام رضي الله عنهم لا يُعدُّ مجرد خطأ عرَضي في التعبير، ولا يقف عند حد الإساءة إلى أفراد بعينهم، بل يتعدى ذلك ليكون اعتداءً على ثوابت الدِّين، وطعنًا في مصادره، وجرأةً على مقامٍ عظيمٍ أجمعت الأمة على توقيره، وتتبين خطورة هذا المسلك من وجوه عدة، يكشف كل واحدٍ منها عن مدى الانحراف العقدي والسلوكي الذي ينطوي عليه هذا الفعل، وذلك على النحو الآتي:

أولًا: التطاول على الصحابة تكذيب لله تعالى، وردٌّ لشهادته فيهم، فقد أثنى الله عز وجل عليهم في مواضع كثيرة من كتابه، وزكَّاهم في دِينهم وعدالتهم، وشهد لهم بالخيرية والفضل على سائر الناس، فقال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، والخطاب فيهما متوجِّه ابتداءً إلى الصحابة الكرام الذين كانوا موجودين وقت نزول الوحي، فهم أول من شملته هذه الخيرية، ثم تتبعهم فيها سائرُ الأمة ممن استقام على هديهم وسَلَك سبيلهم، كما في "تدريب الراوي" للإمام السُّيُوطي (2/ 674، ط. دار طيبة).

فإذا شهد الله تعالى لهم بأنهم خير الأمم، وجب على كل مؤمن اعتقادُ ذلك والإيمانُ به، وإلا كان مكذبًا لله تعالى في إخباره، إذ لا شيء يعدل شهادة الله لهم؛ لأنه تعالى أعلم بعباده وبما انطوت عليه نفوسهم من الخيرات وغيرها، كما في "الصواعق" لشيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي (2/ 604، ط. مؤسسة الرسالة).

وقال جل شأنه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾، إلى قوله تعالى: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح: 29].

فقوله تعالى: "﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ﴾ وهو الجنة ﴿وَرِضْوَانًا﴾ وهو رضا الله عنهم، وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور"، كما في "زاد المسير في علم التفسير" للإمام ابن الجوزي (4/ 138، ط. دار الكتاب العربي).

قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (16/ 297، ط. دار الكتب المصرية) عند تعليقه على الآية الكريمة: [فمن نقص واحدًا منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردَّ على الله رب العالمين] اهـ. أي: أنه كذَّب شهادة الله في كتابه، حيث زكَّى صحابةَ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي عنهم، وأثنى عليهم، وأشاد بفضلهم، فمن خالف ذلك فقد ردَّ حكم الله وخالف مقتضى نصوصه سبحانه.

ثانيًا: التطاول على الصحابة الكرام يُعد مخالفةً صريحةً للنصوص القرآنية التي أثبتت لهم الفضل والسبق والمكانة العالية، فهم الذين بايعوا تحت الشجرة، وهاجروا، وجاهدوا، وأنفقوا في سبيل الله، وآوَوا، ونَصروا، ونالوا شرف الصحبة والرضا الإلهي، وقد أثنى الله تعالى عليهم في غير ما موضع، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: 72]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 74].

قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (15/ 519، ط. دار إحياء التراث العربي): [واعلم أن هذا ليس بتكرار؛ وذلك لأنه تعالى ذكرهم أولًا ليبين حكمهم وهو ولاية بعضهم بعضًا، ثم إنه تعالى ذكرهم هاهنا لبيان تعظيم شأنهم وعُلُو درجتهم، وبيانه من وجهين: الأول: أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم، وذلك يدل على الشرف والتعظيم. والثاني: وهو أنه تعالى أثنى عليهم هاهنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾، فقوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ يفيد الحصر، وقوله: ﴿حَقًّا﴾ يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدِّين.. وثانيها: قوله: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ وتنكير لفظ المغفرة يدل على الكمال.. والمعنى: لهم مغفرة تامة كاملة عن جميع الذنوب والتبعات. وثالثها: قوله: ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ والمراد منه الثواب الرفيع الشريف. والحاصل: أنه تعالى شرح حالهم في الدنيا وفي الآخرة] اهـ.

وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100].

قال الإمام ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (4/ 178، ط. دار الكتب العلمية): [فقد أخبر الله العظيم أنَّه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبَّهم أو أبغض أو سبَّ بعضهم] اهـ.

وقال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18]، و"الرضا يكون معه إدخال الجنة، كما قال تعالى: ﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المجادلة: 22]"، كما في "مفاتيح الغيب" للإمام الرازي (28/ 79).

قال الإمام ابن حزم في "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (4/ 116، ط. مكتبة الخانجي): [فمن أخبرَنا اللهُ عز وجل أنه علم ما في قلوبهم رضي الله عنهم وأنزل السَّكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، ولا الشك فيهم البتَّة] اهـ.

إلى غير ذلك من الآيات التي أثنت عليهم، وزكَّتهم، وشهدت لهم بالفضل والإيمان، والصدق والفلاح، وحسن الختام.

ثالثًا: التطاول على الصحابة الكرام يناقض ما أمرنا الله عز وجل ورسولُه صلى الله عليه وآله وسلم به من توقيرهم وتعظيمهم، بل هو في حقيقته منافٍ لتوقير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياهم؛ إذ إن من تمام إجلاله وتوقيره صلى الله عليه وآله وسلم توقيرَ أصحابه وتعظيمَ منزلتهم، قال تعالى: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: 9]، ومن تمام توقير النبي صلى الله عليه وآله وسلم: توقير أصحابه رضي الله عنهم.

وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهَ اللهَ فِي أَصحَابِي، اللهَ اللهَ فِي أَصحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُم غَرَضًا بَعدِي، فَمَن أَحَبَّهُم فَبِحُبِّي أَحَبَّهُم» أخرجه الإمامان: أحمد، والترمذي.

قال الإمام شرف الدين الطِّيبي في "شرح المشكاة" (12/ 3845، ط. مكتبة نزار) في شرح الحديث: [التقدير: أذكركم الله وأنشدكم في حق أصحابي وتعظيمهم وتوقيرهم، كما يقول الأب المشفق: الله الله في حق أولادي] اهـ.

وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمِع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، فقال: «أَكرِمُوا أَصحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم» أخرجه الإمام النسائي، وفي رواية أخرى: «احفَظُونِي فِي أَصحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم» أخرجها الإمام ابن ماجه.

قال القاضي عياض في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (2/ 52-53، ط. دار الفكر): [ومِن توقيره وبِره صلى الله عليه وسلم: توقيرُ أصحابه، وبِرُّهم، ومعرفةُ حقهم، والاقتداءُ بهم، وحُسنُ الثناء عليهم، والاستغفارُ لهم، والإمساكُ عما شجر بينهم، ومعاداةُ من عاداهم، والإضرابُ عن أخبار المؤرخين وجهلة الرواة وضلَّال الشيعة والمبتدعين القادحة في أحد منهم، وأن يلتمس لهم فيما نُقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسنَ التأويلات، ويخرج لهم أصوب المخارج؛ إذ هم أهل ذلك، ولا يُذكَر أحد منهم بسوء، ولا يغمص عليه أمر، بل تُذكَر حسناتُهم وفضائلهم وحميد سيرهم، ويُسكَتُ عما وراء ذلك] اهـ.

وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في "الاقتصاد في الاعتقاد" (ص: 131، ط. دار الكتب العلمية): [اعلم أن كتاب الله مشتمل على الثناء على المهاجرين والأنصار، وتواترت الأخبار بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بألفاظ مختلفة، وما من واحد إلا وورد عليه ثناء خاص في حقه يطول نقله، فينبغي أن تَستَصحِب هذا الاعتقادَ في حقهم، ولا تُسيء الظن بهم، كما يُحكى عن أحوالٍ تخالف مقتضى حسن الظن، فأكثر ما يُنقَل مخترَعٌ بالتعصب في حقهم ولا أصل له، وما ثبت نقلُه فالتأويل مُتَطَرِّق إليه، ولم يَجُز ما لا يتسع العقلُ لتجويز الخطأِ والسهو فيه، وحَملُ أفعالهم على قصد الخير وإن لم يصيبوه] اهـ.

وقال في "إحياء علوم الدين" (1/ 93، ط. دار المعرفة) في بيان ما يجب على المسلم اعتقادُه: [وأن يحسن الظن بجميع الصحابة، ويثني عليهم كما أثنى اللهُ عز وجل ورسولُه صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين، فكل ذلك مما وردت به الأخبار، وشهدت به الآثار، فمن اعتقد جميع ذلك مُوقِنًا به كان من أهل الحق وعصابة السُّنة، وفارَق رهط الضلال وحزب البدعة] اهـ.

رابعًا: التطاول على الصحابة الكرام معصيةٌ صريحةٌ؛ لما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النهي الجازم عن سبهم أو أذيتهم، والتحذير الشديد من التعرض لهم بسوءٍ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في: «لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِن أَصحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُم لَو أَنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدرَكَ مُدَّ أَحَدِهِم وَلَا نَصِيفَهُ» متفق عليه من حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه.

و"في هذا الحديث ما يدلُّ على تشديد التحريم لنيل الصحابة بسبٍّ أو قذعٍ أو أذًى، ولقد أتى في هذا النطق ما يخبر أن درجاتهم لا تبلغ تقليل، وأنَّ أحدهم لا يقال له قليل، حتى إنَّ أحدنا لو أنفق مثل الأرض ذهبًا لما بلغ من جنس الإنفاق ما يكون مقداره مُدًّا واحدًا من الصحابة أنفقه أحدهم، ولا نصف ذلك المد، وهذا إنَّما ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلًا في النفقات، فيقاس عليه: الصلوات والصيام والحج والجهاد وسائر العبادات؛ فإنها في معناه"، كما قال الإمام ابن هُبَيرَة في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (8/ 70-71، ط. دار الوطن).

وقال الإمام النَّوَوِي في "شرح صحيح مسلم" (16/ 93، ط. دار إحياء التراث العربي) في شرح هذا الحديث: [واعلم أن سَبَّ الصحابة رضي الله عنهم حرامٌ من فواحش المُحرَّمات.. قال القاضي: وسَبُّ أحدهم من المعاصي الكبائر] اهـ.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه السابق: «اللهَ اللهَ فِي أَصحَابِي، اللهَ اللهَ فِي أَصحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُم غَرَضًا بَعدِي، فَمَن أَحَبَّهُم فَبِحُبِّي أَحَبَّهُم، وَمَن أَبغَضَهُم فَبِبُغضِي أَبغَضَهُم، وَمَن آذَاهُم فَقَد آذَانِي، وَمَن آذَانِي فَقَد آذَى اللهَ، وَمَن آذَى اللهَ فَيُوشِكُ أَن يَأْخُذَهُ».

قال الإمام شرف الدين الطِّيبي في "شرح المشكاة" (12/ 3845): [أي: اتقوا الله ثم اتقوا الله في حق أصحابي، لا تنقصوا من حقهم، ولا تسبوهم] اهـ.

خامسًا: التطاول على الصحابة الكرام علامةٌ على النفاق، ودليلٌ على خبث الطوية وسوء القصد؛ فقد جعل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم محبَّتَهم آيةً على الإيمان، وبُغضَهم آيةً على النفاق.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «آيَةُ الإِيمَانِ: حُبُّ الأَنصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ: بُغضُ الأَنصَارِ» متفق عليه.

والأنصار من خيار الصحابة الكرام، ومحبتُهم داخلةٌ في محبة الصحابة عمومًا، لا سيما وأنهم رمز النصرة والتضحية في سبيل الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فدل الحديث على أن بُغضهم إنما يستدل به على نفاق صاحبه وفساد سريرته، كما أفاد الإمام النَّوَوِي في "شرح صحيح مسلم" (2/ 64).

قال الإمام الطحَاوي في عقيدته المشهورة المسماة "العقيدة الطحاوية" (ص: 81-82، المكتب الإسلامي): [ونحبُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرطُ في حبِّ أحدٍ منهم، ولا نتبرأ من أحدٍ منهم، ونُبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخيرٍ، وحُبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ] اهـ.

سادسًا: الطعن في الصحابة الكرام والتطاول عليهم طعنٌ في الدِّين كله؛ إذ هم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الأمة، ومن خلالهم وصل إلينا القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة وسائرُ أحكام الشريعة وعلومها، "ولولاهم ما وصل إلينا من الدِّين أصل ولا فرع، ولا علمنا من الفرائض والسُّنن سُنةً ولا فرضًا، ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئًا"، كما قال الحافظ الذهبي في "الكبائر" (ص: 237، ط. دار الندوة الجديدة).

فالصحابة رضوان الله عليهم نقلة الدِّين، وحملة الوحي، فإذا زالت الثقة فيهم زالت فيما نقل عنهم، وهي طريقة أهل البدع والأهواء في التشكيك في الأصول من خلال الطعن في الرعيل الأول الذي تلقَّى الوحي وبلَّغه.

قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (16/ 297): [فمن نقص واحدًا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين] اهـ. أي أن الطعن في الصحابة يُفضي إلى هدم الدِّين من أصله؛ لأنهم هم مَن نقلوا الشريعة إلى مَن بعدهم: قرآنًا، وسُنة، وبيانًا، فبإسقاط عدالتهم تسقط الثقة في كل ما بلغنا من الوحي، وهذا يؤدي إلى نقض الشريعة من أساسها.

قال الإمام أبو زُرعة الرازي -وهو من كبار المحدثين- كما رواه عنه الخطيب البغدادي بسنده في "الكفاية" (ص: 49، ط. المكتبة العلمية): [إذا رأيتَ الرجلَ ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زِنديق؛ وذلك أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ، والقرآنَ حقٌّ، وإنما أدى إلينا هذا القرآنَ والسُّننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليبطلوا الكتابَ والسُّنةَ، والجرحُ بهم أَولى، وهم زنادقة] اهـ.

وقال الحافظ الذهبي في "الكبائر" (ص: 238) في بيان حكم سبِّ الصحابة وخطورة الطعن فيهم والتطاول عليهم، وأن ذلك طعنٌ في أصل الدين ومنقوله، بأن الصحابة هم: [أرضى الوسائل من المأثور، والوسائط من المنقول، والطعنُ في الوسائط طعنٌ في الأصل، والازدراءُ بالناقل ازدراءٌ بالمنقول، هذا ظاهرٌ لمن تَدَبَّرَهُ وسَلِمَ من النفاق ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته، وحسبُك ما جاء في الأخبار والآثار من ذلك] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ذلك: فإن التطاول أو الطعن في الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هو في حقيقته تطاوُلٌ وطعنٌ في الدِّين نفسه، وعداوةٌ صريحةٌ لمن نَصَرَ اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو معصيةٌ كبيرةٌ من كبائر الذنوب والآثام، ومسلكٌ من مسالك أهل الأهواء والضلال، وعلامةٌ بارزةٌ من علامات النفاق، ودليلٌ على فساد الطاعن وسوء سريرته، وعلى المؤمن أن يُمسك عمَّا شجر بينهم، وأن يُثني عليهم بالجميل، ويترضَّى عنهم، ويقتدي بهم، كما أمر اللهُ تعالى ونبيُّه صلى الله عليه وآله وسلم، فهُم حملة هذا الدِّين، وأئمة الهدى والرشاد، ونَقَلَةُ الوحي، وخيرة الخلق بعد الأنبياء، وقد ارتضى الله صحبتهم لخير خلقه، فمن أساء الظنَّ بهم فقد اتَّهم الشريعة في أصل نقلها ووقع في خطرٍ عظيم.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

هل يأخذ المصحف المكتوب بطريقة برايل نفس أحكام القرآن الكريم من حيث احترامه وتنزيهه ومس المحدث له ونحو ذلك؟


ما رأي فضيلتكم في اختلاف الآراء في المذاهب الفقهية؟


هل يمكن للعين أن تصيب الإنسان بالحسد وتضره، وإذا كان الحسد موجودًا وللعين تأثير على الإنسان؛ فما هي كيفية الوقاية منه؟


إذا عطس العاطس وجرى تشميتُه ثم عطس مرات بعد التشميت؛ فهل يظل تشميته مرة واحدة أم بعد كل عطسة؟


ما هي كفارة الحلف بالمصحف؟ فقد سأل أحد الدكاترة قائلًا: منذ سنتين لمرض خاص أقسمت على الكتاب الكريم ألا أشتري الدخان. قد بطلت التدخين فعلًا؛ فزاد وزني حتى خفت على القلب من السمنة، فصرت ألهث إذا ما جريت أو سرت مسرعًا أو تحدثت مسرعًا وقد خاف إخواني الأطباء عاقبة ذلك حتى نصحوا لي بالعودة إلى التدخين. فهل من كفارة من ذلك اليمين يوصي بها الدين الحنيف غير صيام الثلاثة أيام؟


ما مدى صحة دعوى أنَّ أئمة الفقه ليسوا من أهل السنة في باب العقيدة؟ فهناك معهد من المعاهد غير الرسمية يُدَرِّس الفقه على أحد المذاهب الأربعة، ويدَّعون إعطاء إجازة لمن يجتاز الاختبارات، لكنهم يقولون لنا: إنَّ مشاهير أئمة المذاهب الفقهية كانوا أشاعرة، والأشاعرة ليسوا من أهل السنة في باب العقيدة؛ لذا فإنَّنا نأخذ منهم الفقه فقط، فهل هذا صحيح في المنهج العلمي أن يكون هناك فصل بين علم الفروع وعلم العقيدة؟


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 22 أغسطس 2025 م
الفجر
4 :54
الشروق
6 :26
الظهر
12 : 58
العصر
4:33
المغرب
7 : 29
العشاء
8 :50