ما مدى صحة ما يُتداول بين الناس مِن أحاديث نبويَّةٍ عن فضل الجند الغربي؟ وهل المقصود والمخصوص بهذا الفضل هم جنود الجيش المصري؟
إن ما يتداول من الأحاديث النبوية عن فضل الجند الغربي، وأنَّ الجيش المصري وجنده هم المعنيون بهذا الشرف والفضل -أحاديث صحيحة المعاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سبيل للطعن في صحتها أو مضمونها بوجهٍ مِن الوجوه، وقد وردت في خطبة عمرو بن العاص إلى أهل مصر، وهي خطبة ثابتة مقبولة صحيحة بشواهدها، رواها أهل مصر وقبلوها، ولم يتسلط عليها بالإنكار أو التضعيف أحد يُنسَب إلى العلم في قديم الدَّهر أو حديثه، ولا عبرة بمن يردُّها بمحض الجهل والهوى.
المحتويات
أنعَمَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا على أرض مصر وأهلها بنعمة الأمن والمكرُمَة، فجعلها أرض أنبيائه، وملاذ أوليائه، وتتجلى فيها مظاهر نعمائه، فقال جلَّ وعلا على لسان نبيه سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [يوسف: 99].
قال الإمام أبو زهرة في "زهرة التفاسير" (7/ 3861، ط. دار الفكر العربي): [ادخلوا حال كونكم آمنين بمشيئة اللَّه من الخوف والقحط والشدة.. مطمئنين تجدون سهلًا، وأهلًا، وعزَّةً، وكرامَةً] اهـ.
ومما قاله سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه لأهل مصر في خطبته الشهيرة: "اعلموا أنكم في رباطٍ إلى يوم القيامة، لكثرةِ الأعداءِ حولكم وتشوِّق قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزَّرع والمال والخير الواسع والبركة النامية" أخرجه الإمامُ الحافظ ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 166-167، ط. مكتبة الثقافة الدينية).
قد اشتملت السنَّة النبوية المشرَّفة على ثلَّةٍ من الأحاديث التي خصَّت الجندَ الغربي بالفضل والمكرمة والسلامة من الفتن، والتزام جانب الحقِّ إلى قيام الساعة.
فعن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَزَالُ أَهلُ الغَربِ ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» أخرجه الإمام مسلم.
كما خصَّت طائفةٌ مِن الأحاديث النبويَّة الشريفة جندَ أهل مصر البواسل بأنهم خير أجناد الأرض، فهم خواصُّ مِن خواصَّ، وهم صفوةُ جندِ الأرض في زمانهم؛ لأنهم في رباطٍ وثباتٍ إلى يوم القيامة، ولأنَّ عنصرهم ومَدَدَهم مِن أهل مصر الطيِّبةِ، ممَّن أوصى بهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّ لهم ذمَّةً ورحمًا وصهرًا؛ فقد بوَّب الإمام مسلم في "صحيحه" بابًا أسماه: "باب وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مصر"، وأخرج فيه عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّكُم سَتَفتَحُونَ أَرضًا يُذكَرُ فِيهَا القِيرَاطُ، فَاستَوصُوا بِأَهلِهَا خَيرًا، فَإِنَّ لَهُم ذِمَّةً وَرَحِمًا»، أو قال: «ذِمَّةً وَصِهرًا».
وخصوصية الجيش المصري وجنده بمعاني الفضل والخير مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وتتابع على ذكره وإثباته أئمة المسلمين ومحدثوهم ومؤرخوهم عبر القرون سلفًا وخلفًا، فمن ذلك حديث عَمرِو بنِ الحَمِقِ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «سَتَكُونُ فِتنَةٌ، أَسلَمُ النَّاسِ فِيهَا -أَو قَالَ: لَخَيرُ النَّاسِ فِيهَا- الجُندُ الغَربِيُّ». قال ابنُ الحَمِقِ -راوي الحديث-: "فَلِذَلِكَ قَدِمتُ مِصرَ". أخرجه الأئمة: البزار في "المسند"، والطبراني في "المعجم الأوسط"، والحاكم في "المستدرك" وصحَّحه.
ويظهر من فعل راوي الحديث حين قدم مصر أنَّ المراد بالجند الغربي هم جند أهل مصر، بل قد روي زيادة التصريح بقوله لأهل مصر: "وأنتم الجند الغربي"؛ فقد أخرج الحديثَ "مُحَمَّدُ بن الرَّبيع الجيزي فِي "مُسند الصَّحَابَة الَّذين دخلُوا مصر"، وَزَاد فِيهِ: "وَأَنتُم الجند الغربي"، فَهَذِهِ منقبةٌ لمصر فِي صدر الملَّة واستمرَّت قَليلَة الفِتَن معافاة طول الملَّة، لم يعترها مَا اعترى غَيرهَا مِن الأقطار وَمَا زَالَت مَعدن العلم وَالدِّين، ثمَّ صارت في آخر الأمر دَارَ الخلافَةِ ومحطَّ الرِّحَالِ، وَلَا بَلَدَ الآن فِي سَائِر الأقطار بعد مَكَّة وَالمَدينَة يظهر فِيهَا من شَعَائِر الدّين مَا هُوَ ظَاهرٌ فِي مصر"، كما قال الإمام السيوطي في "الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج" (4/ 514، ط. دار ابن عفان).
ومنها ما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِذَا فَتَحَ عَلَيكُم مِصرَ؛ فَاتَّخِذُوا فِيهَا جُندًا كَثِيفًا؛ فَذَلِكَ الجُندُ خَيرُ أَجنَادِ الأَرضِ»، فقال أبو بكر الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «لِأَنَّهُم وَأَزوَاجَهُم وَأَبنَاءَهُم فِي رِبَاطٍ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ»، وغير ذلك مِن الروايات التي تدور في فلك معاني الثناء والوصية بأهل مصر وجندها وأنهم خير أجناد الأرض.
لا يقدح في صحة تلك الأحاديث وثبوتها ضعفُ بعض أسانيدها؛ فإنَّ في أحاديثها الصحيح والحسن والضعيف المُنجَبِر الذي احتجَّ به العلماء، وقد اتفق المؤرخون على إيراد هذه الأحاديث والاحتجاج بها في فضائل مصر من غير نكير.
وجلُّ هذه المعاني مذكورة ومرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه الشهيرة التي خطب بها أهلَ مصر المحروسة على أعوادِ منبر مسجِدِه العتيق بفسطاط مصر القديمة، وكان ذلك في أواخر فصل الشتاء، بعد أيام قليلةٍ مِن (حميم النصارى) وهو "خميس العهد" عند المسيحيين؛ حيث كان يحضُّ النَّاس في أواخر شهر مارس أو أوائل شهر إبريل على الخروج للربيع، وكان يخطب بذلك في كلِّ سنة. وقد سمعها منه المصريون وحفظوها، وتداولوها جيلًا بعد جيلٍ، ودوَّنوها في كتبهم ومصنفاتهم، وصدَّروا بها فضائل بلدهم، وذكروا رواتَها في تواريخِ المصريين ورجالِهم كابرًا عن كابرٍ، وأطبقوا على قبولها والاحتجاج بها في فضائل أهل مصر وجندها عبر القرون؛ لا ينكر ذلك منهم مُنكِرٌ، ولا يتسلط على القدح فيها أحدٌ يُنسَبُ إلى علمٍ بحديثٍ أو فقهٍ؛ بل عدُّوها من مآثر خُطَب سيدنا عمرو رضي الله عنه ونفيس حديثه، ولم يطعن فيها طاعن في قديم الدَّهر أو حديثه.
وقد أسند عمرو بن العاص رضي الله عنه في هذه الخطبة الحديثَ المرفوع في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مصر خيرًا، عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إِنَّ اللهَ سَيَفتَحُ عَلَيكُم بَعدِي مِصرَ، فَاستَوصُوا بِقِبطِهَا خَيرًا، فَإِنَّ لَكُم مِنهُم صِهرًا وَذِمَّةً».
وأسند أيضًا الحديثَ المرفوع في فضل جند مصر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِذَا فَتَحَ عَلَيكُم مِصرَ فَاتَّخِذُوا فِيهَا جُندًا كَثِيفًا؛ فَذَلِكَ الجُندُ خَيرُ أَجنَادِ الأَرضِ»، فقال أبو بكر الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «لِأَنَّهُم وَأَزوَاجَهُم وَأَبنَاءَهُم فِي رِبَاطٍ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ».
وقد روى هذه الخطبةَ قاضي مصر الإمامُ الحافظ عبد الله بن لهيعة، ورواها عنه الإمامان الحافظان: أبو نُعيم إسحاق بن الفرات التُّجِيبيُّ، وأبو زكريا يحيى بن عبد الله بن بُكَير المخزومي.
فأخرجها مستوفاةً من طريق إسحاقَ بن الفرات عن ابن لهيعة كلٌّ من:
الإمامُ الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم [ت: 257هـ] في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 166-167)، وحافظُ عصره الإمامُ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني [ت: 385هـ] في "المؤتلف والمختلف" (2/ 1003-1004، ط. دار الغرب الإسلامي)، ومن طريق الإمام الدارقطني أخرجها الإمامان الحافظان: أبو عبد الله النميري [ت: 544هـ] في "الإعلام بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام" (ص: 83، ط. دار الكتب العلمية) حيث ساق أولها، وأبو القاسم بن عساكر [ت: 571هـ] في "تاريخ دمشق" (46/ 162، ط. دار الفكر) حيث ساقها بتمامها، وأخرجها مختصرةً: الإمام الحافظ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي الحنفي [ت: 321هـ] في "شرح مشكل الآثار" (8/ 228، ط. مؤسسة الرسالة)، وأخرجها مستوفاةً من طريق يحيى بن بُكَير عن ابن لهيعة: الإمامُ المؤرخ أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق الليثي الفقيه [ت: 387هـ] في "فضائل مصر وأخبارها" (ص: 83، ط. مكتبة الخانجي)، وأخرجها الإمام الحافظ المؤرخ أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي [ت: 347هـ] في "تاريخ مصر"؛ حيث عزا إليه العلامة المقريزي في "إمتاع الأسماع" (14/ 185، ط. دار الكتب العلمية) تخريج الحديث المرفوع في فضل جندها، وعزا إليه الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 610، ط. دار الكتاب العربي) تخريج الحديث المرفوع في الوصية النبوية بأهلها، كما أخرجها مختصرةً: الإمام الحافظُ أبو القاسم بن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 161).
ومدار إسناد هذه الخطبة على الإمام الكبير؛ قاضي مصر وعالمها، ومحدثها وفقيهها، العلامة أبي عبد الرحمن عبد الله بن لَهِيعة بن عقبة الحضرمي، وكان من أوعية العلم وبحوره، وهو مقدَّمُ أهل مصر في الحديث والفقه والفتوى مع الإمام الليث بن سعد [ت: 175هـ] رحمهما الله تعالى، وكانا في الحديث كفرسَيْ رِهانٍ، بل إن ابن لهيعة فاق الليث في كثرة من أدركهم من التابعين؛ فقد كان طَلّابًا للحديث جَمَّاعةً له، وهو صاحبُ حديث المصريين وأعلمُ الناس به، وقد وثَّقه أهل مصر وهم أدرى الناس به، وكان كبار المحدِّثين يتمنَّونَ الأخذَ عنه.
فكان ابن لهيعة مشتغلًا بحديث المصريين وكل من ورد على مصر؛ حتى كان يقول: "كانت لي خريطة أضع فيها القراطيس والدواة والحبر، وأدور على القبائل والمساجد؛ أسأل رجلًا رجلًا: ممن سمعتَ؟ ومَن لَقِيتَ؟" اهـ أسنده المنتجالي في "تاريخه" عن قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة، ونقله الحافظ مغلطاي في "إكمال تهذيب الكمال" (8/ 148، ط. الفاروق الحديثة).
وقال رَوحُ بن صلاح: "لقي ابن لهيعة اثنين وسبعين تابعيًّا، ولقي الليث بن سعد اثني عشر تابعيًّا" خرَّجه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 141).
والإمام ابن لهيعة قد وثَّقه المصريون وحمِدوا روايته، ودفعوا دعوى اختلاطه، وصرَّحوا بأن الضعف إنما هو ممن روى عنه لا منه، كابن وهب، ويحيى بن حسان، والنضر بن عبد الجبار، وعثمان بن صالح، وسعيد بن أبي مريم، وأحمد بن صالح، وهم من كبار محدِّثي مصر وثقاتهم.
وهؤلاء هم أهل بلده، وقد تقرر عند المحدثين والمؤرخين أن أهل بلد الراوي أعلمُ الناس به، قال حماد بن زيد: "بلَدِيُّ الرجل أعرف بالرجل"، أخرجه الخطيب في "الكفاية" (1/ 275، ط. دار ابن الجوزي).
ومما يدل على صحة رواية ابن لهيعة وأن الضعف إنما هو من جهة الرواة عنه: ما أخرجه ابن عساكر (32/ 147) عن إبراهيم بن الجنيد قال: قال لي يحيى بن معين: "قال لي أهل مصر: ما احترق لابن لهيعة كتاب قط، وما زال ابن وهب يكتب عنه حتى مات" اهـ.
وهذا يدل على استواء أمره طيلة حياته وأن المعوَّل في قبول روايته على صحة الرواية عنه؛ فإنه لا نزاع بين المحدِّثين في قبول رواية عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة، وابن وهب لم يزل يكتب عن ابن لهيعة حتى مات، ولم يَرِدْ أنه ترك الرواية عنه في وقت من الأوقات، وهذا ما قرره الحافظ ابن عدي في "الكامل" (5/ 253)، حيث قال فيه: [حديثه حسن، كأنه يستَبان عمَّن روى عنه، وهو ممن يُكتب حديثُه] اهـ.
والتحقيق الذي عليه جماهير المحدِّثين ومحققوهم قديمًا وحديثًا: أن حديثه صحيح أو حسن إذا لم يكن الراوي عنه ضعيفًا، فإذا أضيف إلى ذلك كون هذه الرواية في الفضائل والأخبار فإنها تكون في محل القبول، ولا وجه لردها؛ فإنَّه مِن المقرَّر أنه يُكتفى في أحاديث الفضائل بأقل شرائط القبول في الرُّواة ليكون الحديث مقبولًا حسنًا، وذلك باتفاق المحدثين؛ لأنه لا يترتب على الفضائل أحكام، فلا أقلَّ من العمل برواية من روى عنه واحد ولم يثبت فيه جرح ولا ما يُترَك حديثُه لأجله، وتلقى الأئمة روايته بالقبول، بل تكون روايته صحيحة؛ لتلقي الأئمة لها بالقبول، على أن الخلاف في قبول من هو أقل من ذلك ممن لم يرو الأئمة روايته قد جرى فيه احتياطًا لأحكام الدين وأمور الشريعة، والأمر في الفضائل لا يستوجب هذا الاحتياط؛ لعدم ترتُّب الأحكام الشرعية عليها.
فنقل الحافظ السخاوي في "فتح المغيث" (1/ 350) عن الإمام ابن مهدي قولَه: [إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحلال والحرام والأحكام شدَّدنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال] اهـ، وقولَ الإمام أحمد بن حنبل: [الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم] اهـ، وقولَ الحاكم: [سمعت أبا زكريا العنبري يقول الخبر إذا ورد لم يحرم حلالًا ولم يوجب حكمًا وكان في ترغيب أو ترهيب أُغمض عنه وتُسوهل في رواته] اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 39، ط. أوقاف المغرب): [وأحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى ما يحتج به] اهـ.
وهذا الصنيع من المُحَدِّثين في سياقتهم لخطبة عمرو بن العاص رضي الله عنه وجزمهم بروايتها يبين أنهم لم يتعاملوا مع رواتها كالأسود بن مالك الحميري تعاملهم مع المجهول الذي تُرَدُّ روايتُه، وهو ما يقتضي أنَّ تفرده بروايتها لا يطعن في ثبوتها.
وهذه الخطبة قد قَبِلها أهل مصر من المحدثين وأصحاب التواريخ والتراجم، ورووها في كتبهم من غير نكير، كما تقدَّم بيانه في ذكر تخريج الخطبة.
إنَّ الحديث المذكور يشهد له من الكلام النبوي الشريف وسائر الأحاديث ما يرجح صحته وقوَّته:
- فمن ذلك ما رواه أبو يعلى في "مسنده" (3/ 51، رقم 1473، ط. دار المأمون للتراث)، وعنه ابن حبان في "صحيحه" (15/69، رقم 6677، ط. مؤسسة الرسالة)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (ص: 22، ط. مكتبة الثقافة الدينية) من طُرقٍ عن أَبي هانئٍ حميد بن هانئٍ الخَولاني، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلِيَّ، وهو عبدُ الله بن يزيد، وعمرَو بن حُرَيث، وغيرَهما يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّكُم سَتَقدَمُونَ عَلَى قَومٍ جُعدٌ رُؤُوسُهُم، فَاستَوصُوا بِهِم خَيرًا، فَإِنَّهُم قُوَّةٌ لَكُم، وَبَلاغٌ إِلَى عَدُوِّكُم بِإِذنِ اللهِ» يعني: قبط مصر، وسنده صحيح على شرط مسلم. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 64، ط. مكتبة القدسي): [رجاله رجال الصحيح] اهـ.
- ومن الشواهد أيضًا ما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" عن أم المؤمنين أم سلَمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى عند وفاته، فقال: «اللهَ اللهَ فِي قِبطِ مِصرَ، فَإِنَّكُم سَتَظهَرُونَ عَلَيهِم، وَيَكُونُونَ لَكُم عُدَّةً وَأَعوَانًا فِي سَبِيلِ اللهِ» قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 63): [رجاله رجال الصحيح] اهـ. وأخرجه ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 21-22) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرفوعًا.
- وأخرج ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 21) عن مسلم بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «استَوصُوا بِالقِبطِ خَيرًا، فَإِنَّكُم سَتَجِدُونَهُم نِعمَ الأَعوَانُ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُم». وإسناده حسن؛ مع وجود عبد الرحمن ابن زياد في إسناده، فقد أخرج ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 235، ط. دار إحياء التراث العربي) قولَ عمرو بن علي الفلاس عن عبد الرحمن: [مليح الحديث، ليس مثل غيره في الضعف] اهـ، وقال الترمذي في "سننه" (1/ 273، ط. دار الغرب الإسلامي): [رأيت محمد بن إسماعيل يقوي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث] اهـ، كما حسَّن الحافظ ابن حجر حديثَه في "المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية" (11/ 287، ط. دار العاصمة).
ومن العلماء من حسَّن حديثه مع التسليم بقول من ضعَّفه-؛ استنادًا إلى وجود شاهدٍ لحديثه؛ كما فعل الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/ 321، ط. دار الكتب العلمية).
- وأخرج ابن عبد الحكم أيضًا في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 22) عن موسى بن أيّوب الغافقيّ، عن رجل من الزّبد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مرض، فأغمى عليه ثم أفاق، فقال: «استَوصُوا بِالأُدمِ الجُعدِ»، ثم أغمى عليه الثانية ثم أفاق، فقال مثل ذلك، قال: ثم أغمى عليه الثالثة فقال مثل ذلك، فقال القوم: لو سألنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من الأدم الجعد! فأفاق، فسألوه فقال: «قِبطُ مِصرَ؛ فَإِنَّهُم أَخوَالٌ وَأَصهَارٌ، وَهُم أَعوَانُكُم عَلَى عَدُوِّكُم، وَأَعوَانُكُم عَلَى دِينِكُم»، قالوا: كيف يكونون أعواننا على دِيننا يا رسول الله؟ قال: «يَكفُونَكُم أَعمَالَ الدُّنيَا، وَتَتَفَرَّغُونَ لِلعِبَادَةِ؛ فَالرَّاضِي بِمَا يُؤتَى إِلَيهِم كَالفَاعِلِ بِهِم، وَالكَارِهُ لِمَا يُؤتَى إِلَيهِم مِنَ الظُّلمِ كَالمُتَنَزِّهِ عَنهُم».
وهذا حديث جيِّد الإسناد؛ فموسى بن أيوب الغافقي [ت: 153هـ] من خيار المصريين، كما قال ابن حبان في "مشاهير علماء الأمصار" (ص: 298، ط. دار الوفاء)، وأخرج الدُّوري عن ابن معين في "تاريخه" (4/ 429، ط. مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي) عن ابن مَعِين أنه قال فيه: [موسى بن أيوب الغافقي ثقة] اهـ.
- وأخرج ابن هشام في "السيرة النبوية" (1/ 6، ط. الحلبي)، والزبير بن بكار في "المنتخب من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم" (ص: 60، ط. مؤسسة الرسالة)، ومن طريق ابن هشام ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 22) من طريق عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن عمر مولى غُفْرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهَ اللهَ فِي أَهلِ الذِّمَّةِ، أَهلِ المَدَرَةِ السَّودَاءِ، السُّحمِ الجِعَادِ؛ فَإِنَّ لَهُم نَسَبًا وَصِهرًا».
وهو حديث حسن؛ فإن عمر مولى غُفرة [ت: 145هـ] قال فيه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 426، ط. دار الكتب العلمية): [كان ثقةً كثير الحديث، ليس يكاد يسند، وهو يرسل أحاديثه أو عامتها] اهـ. فهو ليس ببعيد عن الدرجة العليا من التوثيق؛ فهو حسن الحديث مادام لم يخالف غيره؛ إذ هو مقبولٌ غير متهم بكذب ولا بمغموزٍ في عدالته.
- ولقد ذَكَر المقريزي في "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" (1/ 46، ط. دار الكتب العلمية) عن تبيع بن عامر الكلاعيّ قال: أقبلت من الصائفة فلقيت أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من أهل مصر، قال: من الجند الغربيّ؟ فقلت: نعم، قال: الجند الضعيف؟ قال: قلت: أهو الضعيف؟ قال: نعم، قال: أما إنَّه ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤنته، اذهب إلى معاذ بن جبل حتى يحدّثك، قال: فذهبت إلى معاذ بن جبل فقال لي: ما قال لك الشيخ؟ فأخبرته، فقال لي: وأيّ شيء تذهب به إلى بلادك أحسن من هذا الحديث، أكتبت في أسفل ألواحك، فلما رجعت إلى معاذ أخبرني أن بذلك أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
- ومن ذلك أيضًا: ما أخرجه أبو العرب التميمي في "طبقات علماء إفريقية" (ص: 11، ط. دار الكتاب اللبناني) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يَزَالُ عِصَابَةٌ مِن أُمَّتِي بِالمَغرِبِ يُقَاتِلُونَ عَلَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُم مَن خَالَفَهُم، حَتَّى يَرَوا يَومًا قَتَامًا، فَيَقُولُونَ: غُشِيتُم، فَيَبعَثُونَ خَيلَهُم يَنظُرُونَ، فَيَرجِعُونَ إِلَيهِم، فَيَقُولُونَ: الجِبَالُ سُيِّرَت، فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا، فَتُقبَضُ أَروَاحُهُم».
- وأخرج أيضًا من طريق يحيى بن عون، قال: حدثنا أبو زكرياء الحفري (في ترتيب المدارك: الجعفري)، قال: حدثنا أبو معمر عباد بن عبد الصمد، قال: حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سَتُجَنِّدُونَ أَجنَادَكُم، وَخَيرُ أَجنَادِكُمُ: الجُندُ الغَربِيُّ».
- وأخرج ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 21) من طريق عبد الملك بن مسلمة، ويحيى بن عبد الله بن بكير، عن ابن لهيعة. والدولابي في "الكنى والأسماء" (2/ 573، ط. دار ابن حزم) من طريق يونس بن عبد الأعلى قال: أنبأ ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة.
ورواه ابن لهيعة عن ابن هبيرة، أن أبا سالم الجيشانيّ سفيان بن هانئ، أخبره أن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أخبره أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إِنَّكُم سَتَكُونُونَ أَجنَادًا، وَإِنَّ خَيرَ أَجنَادِكُم أَهلُ الغَربِ مِنكُم، فَاتَّقُوا اللهَ فِي القِبطِ، لَا تَأكُلُوهُم أَكلَ الحَضِرِ»، والحَضِر هو الذي يتحين طعام الناس حتى يحضُره، وفي رواية: «أَكلَ الخَضِرِ» وهو النبات الغضّ.
ومصنِّفو كتب التاريخ من كبار المحدثين والمؤرخين وأئمتهم قد أوردوا هذه الأحاديث في كتبهم، وذلك في مقام الاحتجاج بها على فضائل مصر.
والأحاديث المذكورة في فضل الجيش المصري وجنده وأنهم الجند الغربي وخير أجناد الأرض، يقوِّي بعضها بعضًا، ويشهد لها مِن الكلام النبوي الشريف وسائر الأحاديث ما يرجِّح صحتها وقُوَّتها كما مرَّ.
ولقد صحح جماعةٌ من المحدثين أحاديث ضعُف سندها؛ لمطابقتها للواقع، وعدُّوا هذا طريقًا من طرق تصحيح الأحاديث النبوية؛ ومنهم القاضي عياض؛ فقد قال الإمام في "البيان المُغرِب في أخبار الأندلس والمغرب" (1/ 203، ط. دار الثقافة): [عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ بِأَقصَى المَغرِبِ مَدِينَةً تُسَمَّى سَبْتَةً، أَسَّسَهَا رَجُلٌ صَالِحٌ اسمُهُ سَبْتٌ، مِن وَلَدِ سَامِ بنِ نُوحٍ، وَاشتَقَّ لَهَا اسمًا مِنَ اسمِهِ، وَدَعَا لَهَا بِالبَرَكَةِ وَالنَّصرِ، فَمَا رَمَاهَا أَحَدٌ بِسُوءٍ إِلَّا رَدَّ اللهُ بَأسَهُ عَلَيهِ». قال ابن حمادة: قال شيخنا العالم أبو الفضل عياض بن موسى: وهذا الحديث تشهد بصحته التجربة، فإنها مازالت محميَّة عند مَن وليها مِن الملوك وقلَّما أحدث أحد منهم فيها حدث سوء إلا هَلَك] اهـ.
ولقد تضافرت الوقائع التاريخية منذ قديم الزَّمان وعلى مرِّ العصور وكرِّ الدهور على إثبات الخيرية والأفضلية لجيش مصر مِن الناحية الواقعية العملية، وشهد بذلك المؤرخون؛ ومنهم العلامة شهاب الدين بن فضل الله العمري الذي قال في "مسالك الأبصار وممالك الأمصار" (3/ 180، ط. المجمع الثقافي): [ونهض الجيش المصري بما عجزت عنه ملوك أقطار الأرض، مع اجتهاد السلطان جلال الدين محمد بن خوارزمشاه رحمه الله، حتى قتل، ولم يكن الجيش المصري بالنسبة إلى الجيوش الجلالية إلا كالنقطة في الدائرة، والنغبة مِن البحر، والله يؤيد بنصره من يشاء، وكم مِن فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، وهذا من المعجزات النبوية وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى مَن عَادَاهُم إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، لَا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم، حَتَّى يَأتِيَ أَمرُ اللهِ وَهُم عَلَى ذَلِكَ، أَلَا وَهُمُ الجُندُ الغَربِيُّ»، وقوله: «أَلَا وَهُمُ الجُندُ الغَربِيُّ» زيادة في الروايات، وهذه الرواية إن لم تصح روايتها صحَّت بالمعنى؛ لأن هذه الطائفة وهي كانت الطائفة الظاهرة التي أرادها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وعناهم بها، لأنه لم يظهر على التَّتار سواهم، وبهذه النصرة دامت النصرة على التَّتار، وكانت بهم لا بغيرهم، مع كثرة من كان من ملوك الإسلام، واجتهادهم في الجهاد، فتماسك بهذه المرة رمق الإسلام، وبقيت بقية الدِّين، ولولاهم لانصدع شعب الأمة، ووهَى عمود الملة، ووصلت خيل عبدة الشمس إلى أقصى المغارب، ودكت جميع رعان الأرض] اهـ.
بناءً على ذلك: فإن ما يتداول من الأحاديث النبوية عن فضل الجند الغربي، وأنَّ الجيش المصري وجنده هم المعنيون بهذا الشرف والفضل -أحاديث صحيحة المعاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سبيل للطعن في صحتها أو مضمونها بوجهٍ مِن الوجوه، وقد وردت في خطبة عمرو بن العاص إلى أهل مصر، وهي خطبة ثابتة مقبولة صحيحة بشواهدها، رواها أهل مصر وقبلوها، ولم يتسلط عليها بالإنكار أو التضعيف أحد يُنسَب إلى العلم في قديم الدَّهر أو حديثه، ولا عبرة بمن يردُّها بمحض الجهل والهوى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
هل ورد أن "نيل مصر" له أفضلية ليست لغيره من الأنهار؟
ما هو معنى قوله تعالى: ﴿تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 187]؟
سائل يقول: ورد في كتب الحديث أنّ النبي صلّى الله عليهِ وآله وسلّم ترك صلاة الجنازة على من مات وعليه دين؛ فما الحكمة من ذلك؟ وكيف نفهم هذا الحديث فهمًا صحيحًا؟
ما الذي يدل عليه قول النبي عليه السلام: «إِنَّ مِنْ أَعْلَامِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا أَنْ تُزَخْرَفَ الْمَحَارِيبُ»؟
ما معنى الإيمان والاحتساب في الحديث الشريف الوارد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»؟
ما معنى الحديث القدسي: «إلا الصوم فإنه لي»؛ حيث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخبر عن الله عزَّ وجلَّ قوله: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، فَلِمَ خصَّ اللهُ تعالى الصومَ من دون غيره من الأعمال بأنه لنفسه ويجازي عليه؟