السؤال عن حكم تلاوة المرأة القرآنَ الكريم بمحضر من الرجال الأجانب، أو تسجيلها تلاوتها ثم إذاعتها ونشرها على العموم بعد ذلك؟
حكم تلاوة المرأة القرآن بمحضر من الرجال الأجانب
تلاوة المرأة للقرآن بحضرة الرجال الأجانب تجوز مع الكراهة؛ لأن شؤون النساء مبنية على الستر، وشأنها الإسرار في العبادات؛ كالأذان، والفتح على الإمام، والتلبية في النسك، ونحوها، أما تسجيلها الصوت وسماعه مسجلًا فلا كراهة فيه؛ لأن المسموع حينئذٍ ليس هو عين صوتها، بل هو حكايته ومثاله، أشبه صدى الصوت.
هذا، وصوت المرأة في حد ذاته ليس بعورة، وإنما الممنوع أداءً واستماعًا هو ما يخشى معه من الفتنة كما قال تعالى: ﴿فلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: 32]، والخضوع بالقول: تليينه وترقيقه عند مخاطبة الرجال.
المحتويات
- فضل قراءة القرآن الكريم
- صوت المرأة ليس بعورة
- قراءة المرأة للقرآن في حضرة الرجال
- تغني المرأة بالقرآن
- الأمر الأول من أن الأصل إسرار المرأة في العبادات
- أذان المرأة
- فتح المرأة على الإمام
- إسرار المرأة في التلبية
- إمامة المرأة للرجال
- الأمر الثاني من أن الأصل إسرار المرأة في العبادات
- تسجيل صوت المرأة أو بثه عبر المذياع
فضل قراءة القرآن الكريم
رَغَّبَ الشرع الشريف في قراءة القرآن والاشتغال به وملازمته؛ فروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَثَلُ المؤمن الذي يَقرأُ القرآن مثل الأُتْرُجَّة ريحُها طَيِّب وطَعمها طَيِّب، ومَثَلُ المؤمن الذي لا يَقرأ القرآن مَثَلُ التمرة لا ريح لها وطعمها طَيِّب حُلو» متفق عليه، وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» متفق عليه، إلى غير ذلك من النصوص السَّنِيَّة.
وبشكل عام فإن الناظِر في هذه النصوص يَجِد أن الترغيب في قراءة القرآن فيها قد جاء مُطْلَقًا غير مُقَيَّد، والقاعدة المقررة في علم الأصول أن: "المطلق يجري على إطلاقه في الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال حتى يأتي ما يقيده". انظر: "البحر المحيط" للزركشي (5/ 8، ط. دار الكتبي)، و"التوضيح مع شرحه التلويح" للسعد التفتازاني (1/ 117، ط. مكتبة صبيح).
وبناءً عليه: فإن قراءة القرآن مرغب فيها مندوب إليها في كل وقت وعلى أي حال إلا ما أتى الشرع باستثنائه منها.
صوت المرأة ليس بعورة
عند النظرة التفصيلية ومزيد التأصيل فإن صوت المرأة بمجرده ليس بعورة على الصحيح، وقد دلَّ على هذا عدد من النصوص الشرعية؛ فروى الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمٍ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّحْلِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وروى البخاري ومسلم -واللفظ له- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ مِن الِاسْتِغْفَارِ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ»، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: «أَمَّا نُقْصَانِ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ، فَهَذَا مِنْ نُقْصَانِ الْعَقْلِ. وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ مَا تُصَلِّي، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، فَهَذَا نُقْصَانِ الدِّينِ».
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قالت النساء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: غَلَبَنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك، فوعدهن يومًا، لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن..." الحديث.
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ونظائرها: أن صوت المرأة لو كان عورة ما سمعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما أقر أصحابَه على سماعه.
وقد نص على هذا كثير من العلماء والفقهاء؛ فقال الإمام ولي الدين أبو زُرعة بن العراقي في "طرح التثريب" (6/ 57، ط. دار إحياء الكتب العربية): [صوت المرأة ليس بعورة؛ إذ لو كان عورة ما سمعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأقر أصحابه على سماعه، وهذا هو الأصح عند أصحابنا الشافعية، لكن قالوا: يحرم الإصغاء إليه عند خوف الفتنة. ولا شك أن الفتنة في حقه صلى الله عليه وآله وسلم مأمونة، ولو خشي أصحابه رضي الله عنهم فتنة ما سمعوا] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري من الشافعية في "أسنى المطالب" (3/ 110، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(الإصغاء) من الرجل (لصوتها -أي المرأة-)؛ فإنه جائز عند أمن الفتنة، وصوتها ليس بعورة على الأصح] اهـ.
وقال المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (8/ 30، ط. دار إحياء التراث العربي): [صوت الأجنبية ليس بعورة على الصحيح من المذهب] اهـ.
وأما المنع من الإصغاء والاستماع إلى صوت المرأة فمَحَلُّه عند خوف الافتتان؛ بمعنى قيام الداعي إلى الوقوع في محرم؛ قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 110): [أما النظر والإصغاء لما ذكِر عند خوف الفتنة؛ أي: الداعي إلى جماع أو خلوة أو نحوهما، فحرام، وإن لم يكن عورة؛ للإجماع...قال الزركشي: ويلتحق بالإصغاء لصوتها عند خوف الفتنة التلذذ به، وإن لم يَخَفْها -أي الفتنة-] اهـ.
وقد صرح بعض من أطلق أن صوت المرأة عورة من الفقهاء أنه ليس المراد الصوت في نفسه، بل إذا صحبه تكسر وتدلل وتمطيط من شأنه تحريك الشهوات وحصول الافتتان؛ فقال الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه في السماع: [ولا يظن من لا فطنة عنده أنا إذا قلنا: (صوت المرأة عورة) أنا نريد بذلك كلامها؛ لأن ذلك ليس بصحيح, فإنا نجيز الكلام مع النساء للأجانب، ومحاورتهن عند الحاجة إلى ذلك, ولا نجيز لهن رفع أصواتهن، ولا تمطيطها، ولا تليينها، وتقطيعها؛ لما في ذلك من استمالة الرجال إليهن، وتحريك الشهوات منهم] اهـ. بواسطة "حاشية ابن عابدين" (1/ 406، ط. دار الكتب العلمية).
وقال الشيخ الشرنبلالي الحنفي في "مراقي الفلاح" (ص 242 -مع "حاشية الطحطاوي"-، ط. دار الكتب العلمية): [وتقدم في الأذان أن صوتها -أي المرأة- عورة، وليس المراد كلامها، بل ما يحصل من تليينه وتمطيطه، لا يحل سماعه] اهـ.
قراءة المرأة للقرآن في حضرة الرجال
مجرد قراءتها القرآن بصوت مسموع أمام الرجال الأجانب فجائزة؛ لأنها من جنس الكلام، وقد تقدم دليل جواز سماع صوت المرأة، وأنه ليس بعورة، وفي خصوص قراءتها القرآن الكريم على هذا الوجه: قد روى أبو داود عن يعلى بن مَمْلَك رضى الله عنهم أنه سأل أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصلاته، فقالت: "وما لكم وصلاته؟ كان يصلي وينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى، حتى يصبح"، ونعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءته حرفًا حرفًا.
قال الإمام العيني في "شرح سنن أبي داود" (5/ 382، ط. مكتبة الرشد): [قوله: (ونَعتَتْ): النَعْت: وصْف الشيء بما فيه من حُسْن... قوله: (تنعت حرفًا حرفًا)؛ يعني: كان يقرأ القرآن حرفًا حرفًا؛ وذلك لا يكون إلا بالترتيل والتأني، ورعاية مخارج الحروف، وإعطاء حقوقها، ورعاية الحدود بأجناسها، ونحو ذلك] اهـ.
وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3420، ط. مكتبة نزار الباز): أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ على امرأة تقرأ هل أتاك حديث الغاشية، فقام يسمع ويقول: «نعم قد جاءني».
وروى أبو داود أيضًا بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للرجل الذي أراد الزواج: «مَا تَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ؟» قَالَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ، أَوِ الَّتِي تَلِيهَا، قَالَ: «قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرينَ آيَةً، وَهِيَ امْرَأَتُكَ».
والاستدلال بهذا الحديث يتجه بحمل معناه على أن التزويج فيه كان معَلَّقًا على التعليم -وهو يحتمله-، فيكون هذا أمرًا مطلقًا بالتعليم، يَعُمُّ صوره وكيفياته، والتي منها: أن تقرأ وهو يسمع.
قال ابن حزم في "المحلى" (2/ 99، ط. دار الفكر): [مسألة: والجهر والإسرار في قراءة التطوع ليلًا ونهارًا مباح للرجال والنساء؛ إذ لم يأتِ منع من شيء من ذلك, ولا إيجاب لشيء من ذلك في قرآن ولا سنة. فإن قيل: تخفض النساء؟ قلنا: ولم، ولم يختلف مسلمان في أن سماع الناس كلام نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم مباح للرجال، ولا جاء نَصٌّ في كراهة ذلك من سائر النساء] اهـ.
تغني المرأة بالقرآن
لكن قراءة القرآن قد تزيد شيئًا على مجرد القراءة، وهو التغني به أمام الأجانب، وهذا لا ينافي أصل الجواز أيضًا؛ وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ: «دَعْهُمَا»، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا.
وروى أيضًا عن خالد بن ذَكْوان قال: قالت الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ رضى الله عنها: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «لَا تَقُولِي هَكَذَا، وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ».
وروى الترمذي عن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في بعض مغازيه، فلما انصرف جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِلَّا فَلَا». فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتِ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا، ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ، إِنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتِ الدُّفَّ».
قال الملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (9/ 3902، ط. دار الفكر): [وفي قولها: (وأتغنى) دليل على أن سماع صوت المرأة بالغناء مباح، إذا خلا عن الفتنة] اهـ.
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (1/ 466، ط. دار إحياء التراث العربي): [لم يحرم غناؤها -أي المرأة- وسماعه للأجنبي، حيث لا فتنة] اهـ.
فإذا جاز تغنيها بغير القرآن أمام الأجانب، فتغنيها بالقرآن أولى بالجواز؛ لأنه مطلوب شرعي؛ بدليل ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ»؛ قال الإمام ابن بطال في شرح البخاري (10/ 529، ط. مكتبة الرشد): [وتلخيص معناه -أي الحديث المذكور-: الحض على تحسين الصوت به، والغناء الذى أمر النبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرأ القرآن به، وهو الجهر بالصوت، وإخراج تلاوته من حدود مساق الإخبار والمحادثة حتى يتميز التالي له من المتحدث؛ تعظيمًا له فى النفوس وتحبيبًا إليها. فإن قال قائل: فإن كان معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» ما ذكرت من تحسين الصوت به، أفعندك من لم يحسن صوته بالقرآن فليس من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قيل: معناه لم يستنَّ بنا فى تحسين الصوت بالقرآن؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يُحَسِّن صوته به، ويرجِّع فى تلاوته على ما حكاه ابن مغفل، على ما يأتى بعد، فمن لم يفعل مثل ذلك فليس بمتبع لسنته صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مقتديًا به فى تلاوته] اهـ.
وكذلك فإن الفتنة في سماع صوت المرأة بالقرآن أبعد منها في سماع صوتها بالغناء، فإذا جاز السماع في الأقرب للفتنة كان في الأبعد أولى بالجواز.
الأمر الأول من أن الأصل إسرار المرأة في العبادات
مع ذلك فإننا نقول إن جهرها بالقراءة على الوجه المذكور دون حاجة وإن قلنا بجوازه إلا أنه مكروه شرعًا؛ وذلك لأمرين:
الأول: أن المتتبع لنصوص الشريعة وأحكامها الجزئية يجد أن شؤون النساء مبناها فيها على الستر، وأن الشأن هو الإسرار فيما يتعلق بالمرأة من عبادات: كالأذان، والفتح على الإمام، والتلبية في النسك، وإمامة الرجال.
أذان المرأة
أما الأذان فلا يشرع للمرأة؛ لما رواه الشيخان عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ»، فدَلَّ على أن الأذان عبادة الرجال؛ لأنهم المخاطبون به.
وروى البيهقي في سننه عن أسماء رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ»، وهو ضعيف مرفوعًا كما نص عليه البيهقي نفسه. انظر"السنن الكبرى" (1/ 600، ط. دار الكتب العلمية). لكن رواه عبد الرزاق في "المصنف" بسند صحيح موقوفًا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقال الشهاب الرملي في "فتاواه" (1/ 125-126، ط. المكتبة الإسلامية) في جواب سؤال رفع إليه: [الأذان عبادة الرجال، والمرأة ليست من أهلها، وإذا لم تكن من أهلها حَرُم عليها تعاطيها، كما يحرم عليها تعاطي العبادة الفاسدة، وأنه يستحب النظر إلى المؤذن حالة الأذان، فلو استحببنا للمرأة لَأُمِر السامع بالنظر إليها، وهذا مخالف لمقصود الشارع] اهـ.
فتح المرأة على الإمام
أما الفتح على الإمام؛ فقد روى الشيخان واللفظ للبخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ؛ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ التُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ».
والتصفيق: هو أن يضرب بظهور أصابع اليمنى صفح الكف من اليسرى. انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 232، ط. المطبعة العلمية بحلب).
قال العلامة ولي الدين بن العراقي في "طرح التثريب" (2/ 247): [ولو خالفت المرأة المشروع في حقها وسبحت في صلاتها لأمر ينوبها لم تبطل صلاتها أيضًا...وإن جهرت به بحيث أسمعت من تريد إفهامه فالذي ينبغي أن يقال: إن كان امرأة أو مَحْرَمًا فلا كراهة، وإن كان رجلًا أجنبيًّا كُرِه ذلك] اهـ.
وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي في "كوثر المعاني الدراري" (8/ 473، ط. مؤسسة الرسالة): [وكان منع النساء من التسبيح على هذا؛ لأنها مأمورة بخفض صوتها في الصلاة مطلقًا، لما يخشى من الافتتان] اهـ.
إسرار المرأة في التلبية
أما التلبية فقد روى مالك في "الموطأ" عن السائب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَتَانِي جِبْرِيلُ صَلى الله عَلَيه وَسَلم، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي -أَوْ مَنْ مَعِي- أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ بِالْإِهْلَالِ -يُرِيدُ أَحَدَهُمَا-».
قال الإمام الشافعي في "الأم" (2/ 170، ط. دار المعرفة): [وبما أمر به جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر الرجال المحرمين، وفيه دلالة على أن أصحابه رضى الله عنهم هم الرجال دون النساء، فأمرهم أن يرفعوا جهدهم، ما لم يبلغ ذلك أن يقطع أصواتهم، فكأنا نكره قطع أصواتهم. وإذا كان الحديث يدل على أن المأمورين برفع الأصوات بالتلبية الرجال، فكان النساء مأمورات بالستر، فأن لا يسمع صوت المرأة أحد أولى بها وأستر لها، فلا ترفع المرأة صوتها بالتلبية وتسمع نفسها] اهـ.
إمامة المرأة للرجال
أما الإمامة؛ فقد روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ألَا لَا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلًا»، ولأن المرأة لا تُؤَذِّن للرجال، فلم يجز أن تؤمهم. انظر "المغني" لابن قدامة (2/ 16، ط. دار إحياء التراث العربي).
قال الإمام النووي في "المجموع" (4/ 151، ط. المنيرية): [وسواءٌ في منع إمامة المرأة للرجال: صلاة الفرض، والتراويح، وسائر النوافل، هذا مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمهم الله، وحكاه البيهقي عن الفقهاء السبعة: فقهاء المدينة التابعين, وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وسفيان، وأحمد، وداود] اهـ.
الأمر الثاني من أن الأصل إسرار المرأة في العبادات
الثاني: مراعاة لخلاف من منع ذلك من العلماء حيث ذهب إلى ذلك بعض الحنفية؛ فقد نقل الكمال بن الهُمام في "فتح القدير" (1/ 260، ط. دار الفكر) عن صاحب "النوازل" من الحنفية أنه قد صرح بأن نغمة المرأة عورة، وأنه بنى عليه أن تعلمها القرآن من المرأة أفضل من الرجل الأعمى.
قال ابن الهُمام: "وعلى هذا لو قيل: إذا جهرت بالقراءة في الصلاة فسدت، كان متجهًا، ولذا منعها صلى الله عليه وآله وسلم من التسبيح بالصوت لإعلام الإمام لسهوه إلى التصفيق" اهـ.
قال الشيخ ابن عابدين في حواشيه على "البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 285، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وقد يقال: المراد بالنغمة: ما فيه تمطيط وتليين، لا مجرد الصوت، وإلا لما جاز كلامها مع الرجال أصلًا، لا في بيع ولا غيره، وليس كذلك، ولما كانت القراءة مظنة حصول النغمة معها منعت من تعلمها من الرجل] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "الروض المربع" (ص95، ط. مكتبة المؤيد ومؤسسة الرسالة): [وتُسر بالقراءة وجوبًا إن سمعها أجنبي] اهـ.
والقاعدة الفقهية المشتهرة في كلام كثير من الأئمة أن "الخروج من الخلاف مستحب"؛ ومبناها على عموم الاحتياط والاستبراء للدين، الذي هو مطلوب شرعي مطلق. انظر: "الأشباه والنظائر" لابن السبكي (1/ 111، 112، ط. دار الكتب العلمية)، "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 136، 137، ط. دار الكتب العلمية).
وإذا تقرر أن "الخروج من الخلاف مستحب" فإن ارتكاب ضده يكون مكروهًا أو خلاف الأولى؛ إذ المستحب مأمور به، والأمر بالشيء يفيد النهي عن تركه. انظر: "غاية الوصول شرح لب الأصول" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (ص10، ط. عيسى الحلبي).
وقد صرح بالكراهة جماعة من أئمة الشافعية؛ فقال الإمام نجم الدين بن الرفعة في "كفاية النبيه شرح التنبيه" (7/ 172، ط. دار الكتب العلمية): [قال القاضي الحسين: ويشرع لها -أي المرأة-: أن تقيم ولا تؤذن، ولا تجهر بالقراءة؛ وهذا كما قال أبو الطيب على وجه الاستحباب، فلو رفعته، كُرِه لها كراهة تنزيه لا تحريم؛ فإن صوتها ليس بعورة. ووافقه على ذلك البندنيجي، وابن الصباغ، والقاضي الحسين، وغيره] اهـ.
وسئل الشهاب الرملي في "فتاويه" (1/ 125، ط. المكتبة الإسلامية): [هل القراءة -أي: للمرأة- خارج الصلاة كالتي فيها؛ أي في الصلاة في الكراهة، أو كالأذان في التحريم؟ فأجاب بأنه يكره لها أن تجهر بقراءتها في الصلاة؛ حيث يسمعها أجنبي، وقراءتها خارج الصلاة كذلك] اهـ.
وقال العلامة شمس الدين الرملي في "نهاية المحتاج" (1/ 407، 408، ط. دار الفكر): [ويؤخذ مما تقدم في الفرق بين غنائها -أي المرأة- وأذانها: عدم حرمة رفع صوتها بالقراءة في الصلاة وخارجها، وأفتى به الوالد رحمه الله؛ فقد صرحوا بكراهة جهرها بها في الصلاة بحضرة أجنبي، وعللوه بخوف الافتتان] اهـ بتصرف.
ونقل التصريح بالكراهة أيضًا الحلبي والمدابغي. انظر: "حاشية الشيخ الجمل" على "شرح المنهج" (1/ 400، ط. دار الفكر)، "حاشية العلامة البجيرمي" على "الإقناع" (2/ 52، ط. دار الفكر).
وأما من نص منهم على الجواز أو نفي الحرمة، فيجمع بين قوله هذا وبين النصوص المصرحة بالكراهة بأنه يجوز المجامعة بين الكراهة للجواز أو نفي الحرمة، ولا تناقض أو تنافي؛ لأن المكروه مأذون فيه في الجملة؛ قال العلامة العَطَّار في "حاشيته" على "شرح جمع الجوامع" (1/ 226، ط. دار الكتب العلمية): [الإذن في الفعل...قَدرٌ مشترك بين الإيجاب، والنَّدب، والإباحة، والكراهة] اهـ.
ومن نصوص الجواز: قول العلامة ابن قاسم العبادي في "حاشيته" على "تحفة المحتاج" للإمام ابن حجر الهيتمي (1/ 466، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقد صَرَّحوا بجواز رفع صوتها بالقراءة في الصلاة، ولو بحضرة أجنبي، فكذا خارجها] اهـ.
وقال العلامة القليوبي في "حاشيته" على "شرح المحلي على المنهاج" (1/ 145، ط. دار إحياء الكتب العربية) تعليقًا على عبارة "شرح المهذب": [والخنثى المشكل في هذا كله كالمرأة -أي في أحكام الأذان والإقامة-": "وخرج بالأذان: قراءة القرآن والغناء ممن ذُكِر -يعني: الخنثى والمرأة-، فلا يحرمان، ولو برفع الصوت] اهـ.
غير أن تلك الكراهة تزول وتنتفي بمطلق الحاجة؛ كالتعلم، وعرض القراءة على الشيوخ، ونحو هذا؛ قال العلامة السَّفاريني في "غذاء الألباب" (1/ 323، ط. مؤسسة قرطبة): [والقاعدة: زوال الكراهة بأدنى حاجة، فكيف بالمصلحة الراجحة؟] اهـ.
وقد ذكر الفقهاء نحوه في كثير من الفروع الفقهية؛ مثل قولهم في تنشيف بَلَل الوضوء والغسل: إنه إن كانت هناك حاجة إليه؛ كخوف برد، أو التصاق بنجاسة، فلا كراهة قطعًا. انظر: "المجموع" للنووي (1/ 486، ط. المنيرية).
وقولهم: إنه يُكرَه للقاضي أن يقضي في حال تغير الخُلُق بنحو غضب، وجوع مفرط، وخوف مزعج، ومدافَعَة خَبَث، وكل ما يُشَوِّش الخاطر، ولكن هذه الكراهة تنتفي إذا دعت الحاجة إلى الحُكم في الحال، بل قد يتعين الحُكم على الفور في صور كثيرة. انظر: "أسنى المطالب" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (4/ 298، ط. دار الكتاب الإسلامي).
وقال العلامة الشهاب الرملي في "حاشيته" على "أسنى المطالب" (1/ 186) عند كلامه على كراهة دخول الصبيان المسجد إنها ليست على إطلاقها، بل تختص بمن لا يُمَيِّز، وبحالةٍ لا طاعة فيها ولا حاجة إليها؛ قال الرملي: [والحاجة قد تدفع الكراهة، كالضَبَّة الصغيرة للحاجة] اهـ.
أما الممنوع أداءً واستماعًا هو القراءة المصحوبة بأداء يخشى معه من الفتنة؛ لأنه سيكون حينئذٍ من باب الخضوع بالقول، المنهي عنه في قوله تعالى: ﴿فلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: 32]، والخضوع بالقول: هو تليينه وترقيقه عند مخاطبة الرجال، قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (6/ 408، ط. دار طيبة): [هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونساء الأمة تبعٌ لهن في ذلك] اهـ.
وقال العلامة القليوبي في "حاشيته" على "شرح المنهاج" (1/ 145): [واعلم أنه يحرم سماع الأجنبي لشيء من ذلك -يعني: قراءة القرآن، والغناء- مع الشهوة، أو خوف الفتنة] اهـ.
تسجيل صوت المرأة أو بثه عبر المذياع
هذا التفصيل والحكم إنما هو في التلاوة المباشرة والسماع المباشر، أما مجرد تسجيل التلاوة وسماعها مسجلة، أو سماعها مبثوثة حية عبر المذياع ونحوه، فلا كراهة فيه أصلًا حتى وإن انتفت الحاجة؛ لأن المسموع حينئذٍ ليس هو عين صوت القارئة، بل هو حكاية صوتها ومثاله، أشبه صدى الصوت.
ومن اللطائف أن التاريخ المصري قد عرف جملة من النساء؛ بعضهن عُرف بالقراءة في المحافل للنساء، وبعضهن قرأ في الإذاعة المصرية في الربع الأول من القرن الماضي؛ منهن: السيدة أم محمد في عصر محمد علي، وكانت تحيي ليالي شهر رمضان في حرملك الوالي، وأمر محمد علي بسفرها إلى إسطنبول؛ لإحياء ليالي الشهر المعظم في حرملك السلطانة.
ومنهن: السيدة نبوية النحاس (ت: 1973م) كانت آخر سيدة مصرية ترتل القرآن الكريم في الاحتفالات العامة، والمناسبات الدينية، وفي المآتم والأفراح، وكان الاستماع إليها مقصورًا على السيدات.
ومنهن: السيدة كريمة العدلية؛ كانت تقرأ القرآن في الإذاعة إلى الحرب العالمية الثانية.
ومنهن: الشيخة منيرة عبده؛ قرأت في الإذاعات الأهلية المصرية، وأول ما قرأت كان ذلك عام 1920م، وكانت في الثامنة عشرة من عمرها. انظر لذلك: "ألحان السماء" للأستاذ محمود السعدني (ص59-63).
ومما سبق يعلم جواب السؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.