الهدية لمعلم القرآن الكريم

الهدية لمعلم القرآن الكريم

ما حكم الهدية لمعلمي القرآن الكريم في أحد مكاتب التحفيظ دون إذْن الإدارة؟ علمًا بأن المُهدي أحد الملتحقين بالمكتب لتعلم القرآن الكريم، ولكن هذه الهدية لا يترتب عليها تقديمه على غيره، ولا يؤثر على طبيعة ومجريات العمل. وجزاكم الله خيرًا.

التهادي أمرٌ مندوبٌ حثَّ عليه الشرع الشريف، وهو نوع من أنواع البر والإحسان، وحيث كان الأمر كذلك فالهدية لحامل القرآن ومعلمه آكد في الاستحباب وأوْلى؛ لشرف وعِظم ما يحملونه، ما كان ذلك على سبيل التكريم والتودد والشكر لهم على جهودهم التي يقومون بها في تعليم كتاب الله تعالى، أو سدِّ حاجتهم وكفايتها، مع مراعاة ألَّا يكون هذا الإعطاء ممنوعًا مِن جهة الإدارة أو العرف، وألَّا يؤثر سلبًا على العملية التعليمية، وألَّا يكون سببًا في تضييع الإنسان حقَّ غيره أو حصولِه على ما ليس له بحقٍّ.

التفاصيل ....

الهدايا، والصدقات، والتبرعات، وكل ما يُملَّك من غير عِوضٍ؛ هي من العطايا التي حبب فيها الشرع الشريف ودعا إلى فعلها كوجهٍ من وجوه البرِّ ومظهرٍ من مظاهر الخير؛ لِمَا فيها من تأليف القلوب، وتوثيق عُرى المحبة، وسد الحاجات؛ قال تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ [البقرة: 177]، وقال: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2].
قال الإمام ابن حزم الظاهري في "المحلى بالآثار" (8/ 125، ط. دار الفكر): [ووجدنا كلَّ معروفٍ وإن كان يَقَعُ عليه اسمُ صدقةٍ فله اسمٌ آخرُ يخصُّه؛ كالقرْضِ، وَالْهِبَةِ، وَالْهَدِيَّةِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَالْحَمَالَةِ، وَالضِّيَافَةِ، وَالْمِنْحَةِ، وسائرِ أَسماءِ وجوه البِرِّ] اهـ.
وتُعرف الهديَّة في الاصطلاح بأنها: المال الذي أُتحِفَ به وأُهْدِيَ لأحدٍ إكرامًا له.
والفرق بينها وبين الهبة: أن كلًّا منهما: تمليكٌ في الحياة بلا عوض، غير أن الهبة يلزم فيها القبول عند أكثر الفقهاء، ولا يلزم ذلك في الهدية.
قال العلامة ابن رشد المالكي في "البيان والتحصيل" (17/ 397، ط. دار الغرب الإسلامي): [الفرق في المعنى بين الصدقة والهدية: أن الصدقة هي: ما يَقصِد بها المتصدِّقُ الإحسانَ إلى المتصدَّق عليه والتفضل عليه، والهدية هي: ما يَقصِدُ بها المهدي إكرامَ المُهدَى إليه وإتحافَه بالهدية لكرامته عليه ومنزلته عنده؛ إرادةَ التقرب منه، فالمتصدِّق يتفضل على المتصدَّق عليه، وليس المهدِي يتفضل على المُهدَى إليه، وإنما المُهدَى له هو المتفضِّل على المُهدِي في قبول الهدية] اهـ.
وقال العلامة الصاوي المالكي في "حاشيته على الشرح الصغير" (3/ 12، ط. دار المعارف): [والمراد بالهبة: ما يشمل الصدقة والهدية مِن كل ما لا يُنتظَرُ فيه مُعاوَضةٌ] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "الروضة" (5/ 364، ط. المكتب الإسلامي): [التمليك المحض ثلاثة أنواع: الهبة، والهدية، وصدقة التطوع، وسبيلُ ضبطها أن نقول: التمليك لا بعوض "هبة". فإن انضم إليه حملُ الموهوب من مكان إلى مكان الموهوب له؛ إعظامًا له أو إكرامًا: فهو "هدية". وإن انضم إليه كونُ التمليك للمحتاج تقربًا إلى الله تعالى وطلبًا لثواب الآخرة: فهو "صدقة". فامتياز الهدية عن الهبة: بالنقل والحمل من موضع إلى موضع … فحصل من هذا: أن هذه الأنواع تفترق بالعموم والخصوص؛ فكلُّ هديةٍ وصدقةٍ هبةٌ، ولا تنعكس] اهـ.
وقال العلَّامة ابن الرِّفْعة الشافعي في "كفاية النبيه" (12/ 87، ط. دار الكتب العلمية): [الهبة، والهدية، وصدقة التطوع: أنواع من البر، يجمعها: تمليك العين من غير عوض، فإن تمحض فيها طلب الثواب من الله تعالى بإعطاء محتاج فهي صدقة، وإن حملت إلى مكان المهدي إليه؛ إعظامًا له وإكرامًا وتوددًا فهي هدية، وإلا فهبة] اهـ.
كما فرَّق العلماء بين الرشوة والهدية: بأن الرشوة ما أُخِذَتْ طلبًا، والهدية ما بُذِلَتْ عفوًا؛ كما قال الإمام الماوردي في "الأحكام السلطانية" (ص: 198، ط. دار الحديث).
وفي "الفتاوى الهندية" (3/ 330، ط. دار الفكر): [الهدية: مال يعطيه ولا يكون معه شرط، والرشوة مال يعطيه بشرط أن يعينه؛ كذا في "خزانة المفتين"] اهـ.
ومشروعية الهدية ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب: قول الله تعالى: ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86].
قال الإمام السمرقندي في تفسيره "بحر العلوم" (1/ 373، ط. دار الكتب العلمية): [يعني: إذا أُهدِيَ إليكم بهدية، فكافئوا بأفضلَ منها أو مثلها، وهذا التأويل ذُكِر عن أبي حنيفة] اهـ.
ومن السنة النبوية الشريفة:
ما رواه الإمام الترمذي في "سننه"، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا أُتِيَ بِشَيْءٍ سَأَل: «أَصَدَقَةٌ هِيَ، أَمْ هَدِيَّةٌ؟» فَإِنْ قَالُوا: صَدَقَةٌ، لَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قَالُوا: هَدِيَّةٌ، أَكَلَ.
وعن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي رضي الله عنه قال: قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَمَعَهُمْ هَدِيَّةٌ، فَقَالَ: «أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ كَانَتْ هَدِيَّة فَإِنَّمَا يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَة فَإِنَّمَا يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»، قَالُوا: لَا، بَلْ هَدِيَّةٌ. فَقَبِلَهَا مِنْهُمْ، وَقَعَدَ مَعَهُمْ يُسَائِلُهُمْ وَيُسَائِلُونَهُ حَتَّى صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْعَصْرِ. رواه الإمام أبو داود الطيالسي في "المُسند"، وابن أبي شيبة في "المُصنَّف"، والإمام النسائي في "السنن".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تَهَادوا تَحَابُّوا» رواه البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو يعلى في "المسند".
قال العلَّامة المناوي في "فتح القدير" (3/ 271، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [ندَبَ إلى دوام المُهاداة؛ لتزايد المحبَّة بين المؤمنين؛ فإنَّ الشيء متى لم يَزِدْ دخَله النقصانُ على مر الزمان] اهـ.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية ويدعو لقبولها، ويُثيب عليها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ» رواه الإمام البخاري في "صحيحه"، وبوَّب عليه بقوله: (باب القليل من الهبة).
قال العلَّامة ابن بطال المالكي في "شرح صحيح البخاري" (7/ 87، ط. دار النشر): [هذا حضٌّ منه لأُمَّته على المهاداة، والصلة، والتأليف، والتحاب، وإنما أخبر أنه لا يحقر شيئًا مما يُهدى إليه أو يُدعَى إليه لئلَّا يمتنع الباعثُ من المهاداة لاحتقار المُهدَى، وإنما أشار بالكُراع وفرسن الشاة إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الكراع والفرسن ومهاداته؛ لأن أحدًا لا يفعل ذلك] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (5/ 199، ط. دار المعرفة): [ومناسبتُه للترجمة بطريق الأَوْلى؛ لأنَّه إذا كان يجيب مَن دعاه على ذلك القدر اليسير فلأن يقبله ممن أحضره إليه أَولى] اهـ.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "يَا بَنِيَّ تَباذَلُوا بَينَكُم؛ فَإنَّهُ أَودُّ لِما بَينَكُم" رواه الإمام البخاري في "الأدب المفرد".
وقد أجمع المسلمون على مشروعية الهدية:
قال العلَّامة الماوردي في "الحاوي الكبير" (7/ 534، ط. دار الكتب العلمية): [وأجْمَع المسلمُون على إباحتها] اهـ.
وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ هذه العطايا والهبات والهدايا هي من قبيل الرزق الطيب الذي يسوقه الله تعالى للإنسان ما لم يطلبْه أو يسعَ إليه: فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيني العطاءَ، فأقول: أعطِهِ مَن هو أفقر إليه مني، فقال: «خُذْهُ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» متفق عليه.
وعن خالد بن عدي الجهني رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ بَلَغَهُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَخِيهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ، فَلْيَقْبَلْهُ وَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِلَيْهِ» رواه أحمد في "المسند"، والحاكم في "المستدرك".
وعن المطَّلِب بن حَنْطَبٍ أنَّ عبد الله بن عامر بعث إلى السيدة عائشة رضي الله عنها بنفقة وكسوة، فقالت لرسوله: يا بني، إني لا أقبل من أحدٍ شيئًا، فلما خرج قالت: رُدُّوه عليَّ، فردوه، فقالت: إني ذكرتُ شيئًا قاله لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قالت: قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، مَنْ أَعْطَاكِ عَطَاءً بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَاقْبَلِيهِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ عَرَضَهُ اللهُ عَلَيْكِ» رواه الإمام أحمد في "المسند"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
غير أن الشرع راعى في الهدية خُلوصها عن الأغراض السيئة، كتسببها في ضياع حقوق الناس، أو حصول الإنسان على ما ليس له فيه حق؛ فمنع منها ما أضاع حقًّا أو أدَّى إلى باطل؛ كأن تكون الهدية من أجل ولايةٍ أو قضاءٍ، أو يُتَوَسَّل بها إلى ميل حاكمٍ على خصمه، أو رِشوةٍ، أو غير ذلك، وجعل أخذها حينئذٍ مِن قبيل الغلول المُحرَّم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك في سُنَّته الشريفة المطهرة:
فعن أبي حُمَيد السَّاعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم رجلًا من الْأَزْدِ يقال له ابن اللُّتْبِيَّةِ على الصدقة، فلما قدِمَ قال: هذا مالُكم وهذا أُهدِيَ إليَّ، فقام النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فصعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ فيأتي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي! فهَلَّا جَلَسَ فِي بَيتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فينظُر أيهدَى لَهُ أمْ لَا؟ والَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ لَا يَأتِي بِشيءٍ إلَّا جَاءَ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ يحمِلُه عَلَى رَقَبَتِهِ؛ إن كَان بَعِيرًا له رُغاء، أو بَقَرةً لها خُوار، أو شَاةً تَيْعَرُ» متفق عليه.
قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (12/ 219، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي هذا الحديث: بيان أن هدايا العمَّال حرام وغلول؛ لأنه خان في ولايته وأمانته؛ ولهذا ذكر في الحديث في عقوبتِه وحملِه ما أُهدي إليه يوم القيامة كما ذكر مثله في الغالِّ، وقد بيَّن صلى الله عليه وآله وسلم في نفس الحديث السببَ في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية، بخلاف الهدية لغير العامل؛ فإنها مســــــــتحبة] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (12/ 349، ط. دار المعرفة): [بيَّن له النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الحقوق التي عمل لأجلها هي السبب في الإهداء له، وأنَّه لو أقام في منزله لم يُهْدَ له شيءٌ، فلا ينبغي له أن يستحلَّها بمجرد كونها وصلت إليه على طريق الهدية، فإن ذاك إنما يكون حيث يتمحض الحق له] اهـ.
وتعليم القرآن الكريم له شرف عظيم، ويكفي معلِّمَ القرآن فخرًا أن نسب اللهُ تعالى تعليمَ القرآن إلى نفسه؛ فقال سبحانه: ﴿الرَّحْمَنُ ۞ عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن: 1-2]، وقد جعل الشرع الشريف معلِّم القرآن خيرَ الناس وأفضلَهم؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خَيْرُكُمْ -وفي رواية: أَفْضَلُكُمْ- مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» رواه الإمام البخاري وغيره من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال العلامة الطيبي في "شرح المشكاة" (4/ 1453، ط. دار الفكر): [أي خير الناس باعتبار التعلم والتعليم من تعلم القرآن وعلمه] اهـ.
كما حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إكرام أهل القرآن وحمَلَته، وبيَّن أن ذلك مِن إجلال الله سبحانه وتعالى:
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْمُغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» رواه الإمام أبو داود في "السنن"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، وقد سكت عنه أبو داود؛ فهو عنده صالح، وحسَّنه الذهبي، والعراقي، وابن حجر.
قال الإمام النووي في "التبيان في آداب حملة القرآن" (ص: 38-39، ط. دار ابن حزم): [ومن النصيحة لله تعالى ولكتابه: إكرامُ قارئِه وطالبِه، وإرشادُه إلى مصلحته، والرفقُ به، ومساعدتُه على طلبه بما أمكن، وتأليفُ قلب الطالب، وأن يكون سمحًا بتعليمه في رفق، متلطفًا به، ومحرضًا له على التعلم، وينبغي أن يذكره فضيلة ذلك؛ ليكون سببًا في نشاطه، وزيادةً في رغبته، ويزهده في الدنيا، ويصرفه عن الركون إليها والاغترار بها، ويذكره فضيلة الاشتغال بالقرآن وسائر العلوم الشرعية، وهو طريق العارفين وعباد الله الصالحين، وأن ذلك رتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام] اهـ.
ومن أهم مظاهر الإكرام لمعلمي القرآن الكريم: إغناؤهم وكفايتهم، والقيام على أمورهم وسد حاجتهم، والبذل والعطاء لهم، وهذا يكون بإعطائهم من الزكوات والصدقات، والهدايا والصِّلات.
فأما الزكوات والصدقات: فيشرع إعطاؤها لِمَن كان منهم من أصحاب الحاجات، حتى تندفع حاجتهم وتُسَدَّ خَلَّتُهم، وهم أَوْلَى من غيرهم؛ لشرف ما يحملونه من كتاب الله تعالى في صدورهم.
كما يُشرَع الإنفاق على منظومة تعليم القرآن الكريم من الزكاة؛ فإنها داخلة في مصرف (في سبيل الله)؛ فإن المحققين من العلماء على أن هذا المصرف كما يدخل فيه الجهاد فإنه يشمل أيضًا العلم والتعليم والدعوة إلى الله تعالى، والجهاد يكون باللسان كما يكون بالسِّنان، وأعظم الجهادِ باللسان الجهادُ بالقرآن؛ فإنه الجهاد الكبير الذي قال الله تعالى فيه: ﴿فَلَا تُطِعِ الكافِرِينَ وجاهِدهُم بِهِ جِهادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52].
وكذلك الهدايا والصلات: فإن إعطاءهم إياها من القربات، حتى لو لم يكونوا من أهل الفاقات؛ لأن فيها إكرامًا لِمَا يحملونه ويعلِّمونه من كتاب الله تعالى.
وقد نص الفقهاء على جواز الهدية لمعلم القرآن والمفتي والواعظ، على سبيل التحبب والتودد؛ لعلمهم وصلاحهم، بشرط ألا يترتب على ذلك حصولُ المُهدِي على ما ليس له، أو تضييعُ حق غيره، وبشرط ألا تكون مشروطة، وعلَّلوا ذلك بأنهم ليس لهم رتبة إلزام يخاف منها حصول المُهدِي على ما ليس له؛ كما هو شأن القضاء والحكم والولاية، ونصوا على أن حكم المعلِّم يختلف في ذلك عن حكم القاضي:
قال العلامة السرخسي الحنفي في "شرح السير الكبير" (1/ 1238-1239، ط. الشركة الشرقية): [وعلى هذا قالوا: لو أهدَى إلى مفتٍ أو واعظ شيئًا، فإن ذلك سالمٌ له خاصة؛ لأن الذي حمل المُهدِيَ إلى الإهداء إليه والتقرب إليه معنًى فيه خاصًة، بخلاف الهدية إلى الحكَّام، فإن ذلك رشوة؛ لأن معنى الذي حمل المُهدِيَ على التقرب إليه: ولايتُه، الثابتةُ بتقليد الإمام إياه، والإمامُ في ذلك نائبٌ عن المسلمين] اهـ.
وقال الشيخ العارف عبد الغني النابلسي الحنفي في "تحقيق القضية في الفرق بين الرشوة والهدية" (ص: 70، ط. مكتبة الزهراء): [وأما ما يتعلق بغير القضاة والحكام من بقية الناس: فكلُّ من أُهدِىَ إليه شيء من أنواع الهدايا، سواء كانت مما يؤكل أو يلبس أو يركب ونحو ذلك من الدراهم والأموال، وسواء كان له جاه وكلمة مقبولة عند حاكم، أو قاضٍ ونحو ذلك أو لم يكن ذلك له، وسواء كان عالمًا أو صالحًا أو جاهلًا، أو صاحب حرفة ونحو ذلك من أنواع الناس، وسواء كان الذي أهدى له طمع في قضاء حاجة عند حاكم أو غيره، أو شفاعة في أي أمر كان من الأمور، وسواء ذكر حاجته أو لم يذكرها، فإن ذلك في جميع هذه المسائل إذا كان بينهما شرط ملفوظ تكلم به كلٌّ منهما ورضيا به: رشوة محرمة لا يحل أخذُها. وإذا لم يكن بشرط ملفوظ ولكن علم كل منهما أن تلك الهدية في مقابلة أمر مخصوص: فليس ذلك برشوة ولا يحرم قبوله؛ فهو هبة وهدية] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (5/ 373، ط. دار الفكر): [قال الرملي في "شرحه": "ولا يلحق بالقاضي فيما ذكر المفتي والواعظُ ومعلمُ القرآنِ والعلمِ؛ لأنهم ليس لهم أهلية الإلزام، والأَولى في حقهم -إن كانت الهديةُ لأجل ما يحصل منهم من الإفتاء والوعظ والتعليم- عدمُ القبول؛ ليكون علمُهم خالصًا لله تعالى، وإن أهدي إليهم تحببًا وتوددًا لعلمِهم وصلاحِهم فالأَولى القبول، وأما إذا أخذ المفتي الهدية ليرخص في الفتوى فإن كان بوجه باطل فهو رجل فاجر يبدل أحكام الله تعالى، ويشتري بها ثمنا قليلًا، وإن كان بوجه صحيح فهو مكروه كراهة شديدة" انتهى، هذا كلامه وقواعدنا لا تأباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله] اهـ.
وقال العلامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (6/ 121، ط. دار الفكر): [قال ابن فرحون: قال ابن عبد الغفور: ما أُهدِيَ إلى الفقيه مِن غير حاجة: فجائزٌ له قَبُولُه، وما أُهدِيَ إليه رجاءَ العون على خصمه، أو في مسألة تُعرَض عنده؛ رجاءَ قضاء حاجته على خلاف المعمول به: فلا يحل قبولها، وهي رشوة يأخذها، وكذلك إذا تنازع عنده خصمان فأَهدَيَا إليه جميعًا أو أحدُهما يرجو كلُّ واحدٍ منهما أن يعينه في حجته أو عند حاكم، إذا كان ممن يُسمَع منه ويُوقَف عنده، فلا يحل له الأخذ منهما ولا من أحدهما، انتهى. وقال ابن عرفة: قال بعض المتأخرين: ما أُهدِيَ للمفتي إن كان يَنشَطُ للفتيا، أُهدِيَ له أم لا: فلا بأس، وإن كان إنما يَنشَطُ إذا أُهدِيَ له: فلا يأخذها، وهذا ما لم تكن خصومة، والأحسن أن لا يقبل مِن صاحب الفُتيا] اهـ.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي الشافعي في "شرح المنهاج" -كما نقله عنه الإمام الدَّمِيريُّ في "النجم الوهاج" (10/ 199-200، ط. دار المنهاج)-: [ولا يلتحق بالقضاة: المفتي والواعظ ومعلم القرآن والعلم؛ لأنه ليس لهم أهليةُ الإلزام، والأَوْلَى في حقهم إن كانت الهدية لأجل ما يحصل منهم من الفتوى والوعظ والتعليم: عدم القبول؛ ليكون عملهم خالصًا لله تعالى، وإن أُهدِيَ إليهم تحببًا وتوددًا لعلمهم وصلاحهم: فالأَولى القبول، وهذه هديةُ السلف] اهـ.
قال العلامة العبادي الشافعي في "حاشيته على شرح الغرر" (5/ 227، ط. الميمنية): [وقد يُؤخذ من التعليل (أي: بانعدام أهلية الإلزام لهم) أنَّ مثلَ المذكورين نحوُ ناظر الوقف بالنسبة لمن له حق في ذلك الوقف فليتأمل] اهـ.
وقال العلامة القليوبي الشافعي في "حاشيته على شرح المحلي على المنهاج" (4/ 304، ط. دار الفكر): [فرع: الإهداء للمفتي والمعلم ولو لقرآن والواعظ يندب قبوله إن كان لمحض وجه الله تعالى، وإلا فالأَولى عدمه، بل يحرم إن لم يُعلم أنه عن طيب نفس] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (6/ 301): [(وله) أي المفتي (قبول هدية، والمراد: لا ليفتيه بما يريده مما لا يفتي به غيره) أي غير المهدي، (وإلا) أي وإن أخذها ليفتيه بما يريده مما لا يفتي به غيره (حرمت) عليه الهدية] اهـ.
وقال العلامة البجيرمي الشافعي في "حاشيته على الإقناع" (4/ 393، ط. دار الفكر): [يندب قبول الهدية لغير الحاكم: حيث لا شبهة قوية فيها، وحيث لم يظن المُهدَى إليه أن المُهدِيَ أهداه حياءً أو في مقابلٍ، وإلا لم يجز القبول مطلقًا في الأُولى، وإلا إذا أثابه بقدر ما في ظنه بالقرائن في الثاني، وينبغي للمُهدَى إليه التصرف في الهدية عقب وصولها بما أُهدِيَتْ لأجله؛ إظهارًا لكون الهدية في حيز القبول وأنها وقعت الموقع، ووصلت وقت الحاجة إليها، وإشارة إلى تواصل المحبة بينه وبين المُهدَى إليه؛ حتى إنَّ ما أهداه إليه له مزية على غيره مما هو عنده وإن كان أعلى وأغلى، ولا ينحصر ذلك في التألُّف ونحوه، فالأَولى فعل ذلك مع من يعتقد صلاحه، أو علمه، أو يقصد جبر خاطره، أو دفع شره، أو نفوذ شفاعته عنده في مهمات الناس، وأشباه ذلك، ولا يشترط في ذلك صيغة، بل يكفي البعث والأخذ] اهـ.
وما يقوم به أهل الخير من تقديم التبرعات والهدايا والصلات لمُعلِّمي القرآن الكريم لرفع شأنهم وتحسين دخلهم، أو تكريمًا وتقديرًا لهم على جهودهم المبذولة تجاه تعليم كتاب الله تعالى، هو مِن القُرُبات والأعمال الصالحات، التي يحبها رب البريات. غير أنه يشترط أن لا يكون ذلك ممنوعًا في العقد الذي بين المعلم وجهة الإدارة التي يعمل لحسابها معلم القرآن الكريم، وألا يكون الإهداء أو التبرع سببًا في حصول صاحبه على ما ليس من حقه، أو سببًا في ضياع حق غيره، أو تقديم صاحبه على غيره ومخالفة اللوائح والنُّظُم المنصوص أو المتعارف على العمل بها.
والأصل في ذلك: أن كل ما كان متعلِّقًا بطبيعة العمل وصيرورته ينبغي أن يتم تحت علم جهة الإدارة، أمَّا ما كان تبرعًا أو إهداءً خالصًا على سبيل التكريم أو المُساعدة -ولا فرق فيه بين أن يكون هذا التبرع داخل العمل أو خارجه- فلا يضر أن يتم بغير إذن الإدارة، ما دام أنه لا يؤثر بالسلب على طبيعة العمل أو يُخلُّ بنظامه، بل ويندَب إخفاؤه حينئذٍ؛ لِمَا في ذلك مِن جبر الخواطر، وحفظ ماء الوجه، ومراعاة مقادير أهل القرآن الكريم.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّه يجوز الإهداء والتبرع لمعلمي القرآن الكريم، ما دام كان ذلك لهم على سبيل التكريم والتودد والشكر لهم على جهودهم التي يقومون بها في تعليم كتاب الله تعالى، أو سدِّ خَلَّتهم وكفاية حاجتهم، وذلك بشرط ألَّا يكون هذا الإعطاء ممنوعًا مِن جهة الإدارة أو العرف، وألَّا يؤثر ذلك سلبًا على العملية التعليمية، وبشرط ألَّا يكون سببًا في تضييع الإنسان حقَّ غيره أو حصولِه على ما ليس له بحقٍّ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا