ما حكم الدفع من مزدلفة قبل منتصف الليل؟ فنحن شركة تعمل في مجال السياحة الدينية، ونود الاستفسار عما يلي: هل يجوز الدفع من مزدلفة قبل منتصف الليل؟
حكم الدفع من مزدلفة قبل منتصف الليل
نعم يجوز، ولا حرج على الحاج في ذلك شرعًا؛ فما عليه الفتوى في هذه الأزمان التي كثرت فيها أعداد الحجيج هو الأخذ بأن المبيت في المزدلفة سُنَّةٌ، وأنه يكفي لمن أراد تحصيل المبيت فيها أن يمكث فيها بقدر ما يحط الحاجُّ رحله ويجمع المغرب والعشاء، ثم يغادرها بعد ذلك إن أراد، ولا شيء عليه.
التفاصيل ....المحتويات
- الحج من العبادات التي بني أمرها على التخفيف والتيسير
- آراء العلماء في حكم المبيت بالمزدلفة
- مذهب المالكية والحنفية في هذه المسألة
- خلاصة الأقوال في هذه المسألة
- الخلاصة
الحج من العبادات التي بُنِي أمرها على التخفيف والتيسير
الحج مِن العبادات التي جَعَلَ الشرعُ مَبنَى أمرِها على التخفيف والتيسير، وقد وَرَدَ في السُّنَّة تأصيلُ قاعدةِ ذلك؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وَقَفَ في حجة الوداع بِمِنًى لِلناس يَسألونه، فجاءه رجلٌ فقال: لم أشعُر فحَلَقْتُ قبل أنْ أذبح؟ فقال: «اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ»، فجاء آخر فقال: لم أشعُر فنَحَرْتُ قبل أن أرمي؟ قال: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ»، فما سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن شيءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قال: «افْعَلْ وَلا حَرَجَ» متفقٌ عليه.
ومناسك الحج على قِسمين: فمِنها أمورٌ أجمَعَ عليها المسلمون، لا يجوز الخروج عنها، وفيها مسائل اختَلَفَ فيها الأئمةُ الفقهاء، وهذه المسائل الخِلَافية ينبغي التخفيف فيها على المسلمين؛ إذْ مِن القواعد المقررة شرعًا في التعامل مع المسائل الخلافية أنه "لا يُنكَر المختلفُ فيه وإنما يُنكَر المتفق عليه"، وأنه يجوز الأخذ بقول أيٍّ مِن المجتهدين في مسائل الخلاف ما دام ذلك موافِقًا لِلمصلحة ومُحَقِّقًا للتيسير والتخفيف، وأنَّ "الخروجَ مِن الخلاف مستحبٌّ حيث أمكَنَ ذلك ولا مُعارِض"، فإذا تقرر أنَّ حِفْظَ النفس مِن مقاصد الشرع الكلية المقدمة على غيرها مِن المقاصد، وأنَّ الالتزام في الخِلَافيات بقول بعض المجتهدين -ولو كانوا جمهور الفقهاء- مشروطٌ بأن لا يكون على حساب حفظ النفوس والمُهَج، وإلَّا فالأخذ بقول المُرَخِّصِين والمُيَسِّرِين مِن الفقهاء يُصبح واجبًا؛ دَرءًا لِمَا يحدث مِن حالات الإصابات والوفيات الناتجة عن تزاحم الحجاج في أوقاتٍ واحدةٍ على مناسك مُعينة، وليس مِن الفقه تطبيقُ شيءٍ مستحبٍّ أو مُختَلَفٍ فيه على حساب أرواح الناس ومُهَجِهِم.
آراء العلماء في حكم المبيت بالمزدلفة
المبيت بالمزدلفة قد اختلف فيه العلماء: فمنهم مَن ذهب إلى أنه ركنٌ؛ وهو قول الحسنِ البصريِّ وبَعضِ التابعين وأفرادٍ مِن الفقهاء. والصحيح الذي عليه جمهور العلماء أنَّ الوقوف بمزدلفة ليس مِن أركان الحج؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (8/ 150، ط. دار الفكر): [قد ذكرنا أن المشهور مِن مذهبنا أنه ليس بركنٍ، فلو تركه صَحَّ حجُّه؛ قال القاضي أبو الطيب وأصحابنا: وبهذا قال جماهير العلماء مِن السلف والخلف] اهـ.
ثم القائلون بأن الحج دونه صحيحٌ تامٌّ اختلفوا في وجوبه: فمنهم مَن ذهب إلى أنه واجبٌ؛ يصحُّ الحج بدونه ويُجبَر تركُه بدمٍ، وهو الأصح عند الشافعية والحنابلة، ويحصل الوقوف بمزدلفة عندهم بلحظةٍ مِن النصف الثاني مِن ليلة النحر ولو بالمرور، ووجوب الدم خاصٌّ بمن ترك المبيت بلا عذرٍ، أما مَن تركه لعذرٍ فلا شيء عليه؛ كمَن انتهى إلى عرفات ليلة النحر واشتغل بالوقوف بعرفة عن المبيت بالمزدلفة، وكالمرأة لو خافت طروء الحيض أو النفاس فبادرت إلى مكة بالطواف، وكمن أفاض مِن عرفات إلى مكة وطاف للركن ولم يمكنه الدفع إلى المزدلفة بلا مشقةٍ ففاته المبيت، وكالرُّعَاة والسُّقَاةِ فلا دم عليهم لترك المبيت؛ لحديث عديٍّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن مِنًى. أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" وأبو داود والترمذي وقال: حسنٌ صحيح، ولأن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيت بمكة ليالي مِنًى مِن أجْل سقايته فأذن له. متفقٌ عليه.
قال الإمام النووي في "المجموع" (8/ 248، ط. دار الفكر): [ومِن المعذورين: مَن له مالٌ يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت، أو يخاف على نفسه، أو كان به مرضٌ يشق معه المبيت، أو له مريضٌ يحتاج إلى تعهده، أو يطلب آبقًا، أو يشتغل بأمرٍ آخر يخاف فوته، ففي هؤلاء وجهان؛ الصحيح المنصوص يجوز لهم ترك المبيت ولا شيء عليهم بسببه، ولهم النَّفْر بعد الغروب] اهـ.
وللإمام الشافعي في وجوب الدم على غير المعذور قولان: قولٌ بالوجوب، وقولٌ بالاستحباب: قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي" (4/ 178، ط. دار الكتب العلمية): [فإذا ترك المبيت بها أو خرج منها قبل نصف الليل فعليه دمٌ، وفيه قولان؛ أحدهما: واجبٌ، وهو قوله في القديم والجديد. والقول الثاني: استحبابٌ، وهو قوله في "الأم" و"الإملاء"، والحكم في هذا كالحكم في دم الدفع مِن عرفة قبل غروب الشمس؛ لأن أربعة دماءٍ اختَلَف قولُه فيها؛ مِنها هذان، والثالث: دم المبيت ليالِيَ مِنًى، والرابع: دم طواف الوداع] اهـ. ويتخرج على قولِ الاستحباب القولُ بسُنيَّةِ المبيت بمزدلفة عند الإمام الشافعي، وهذا القول رجحه جماعة من الشافعية؛ منهم الإمام الرافعي، وهو أيضًا قول للإمام أحمد. قال إمام الحرمين في "نهاية المطلب في دراية المذهب" (4/ 334، ط. دار المنهاج): [وإذا اختلف القول في أن المبيت هل يُجبَرُ بالدم، فيترتب عليه لا محالةَ اختلافُ القول في أنه هل يجب في نفسه، وهل يجب على الناسك تحصيله؛ حتى يُقضَى بأنه يَعصِي بتركه؟] اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "تحفة المحتاج" (4/ 113، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقيل: سُنَّةٌ، ورجحه الرافعي] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (4/ 25، ط. دار إحياء التراث العربي): [وعنه (أي: عن الإمام أحمد): لا يجب؛ كرُعاةٍ وسُقاةٍ، قاله في "المستوعب" وغيره] اهـ.
وقد ذهب بعض الشافعية إلى أن الإفاضة مِن عرفات إلى مكة مباشرةً دون المرور بمزدلفة لطواف الإفاضة جائزةٌ، ولا شيء على الحاج فيها: قال الإمام النووي في "المجموع" (8/ 136، ط. دار الفكر): [أما مَن انتهى إلى عرفات ليلةَ النحر واشتغل بالوقوف عن المبيت بالمزدلفة: فلا شيء عليه باتفاق الأصحاب، ومِمَّن نَقَلَ الاتفاقَ عليه إمامُ الحرمين، ولو أفاض مِن عرفات إلى مكة وطاف الإفاضة بعد نصف ليلة النحر ففاته المبيت بالمزدلفة بسبب الطواف: قال صاحبُ "التقريب" والقفَّالُ: لا شيء عليه؛ لأنه اشتغل بركنٍ، فأشبهَ المشتغِلَ بالوقوف] اهـ.
وقال الشيخ الخطيب في "مغني المحتاج" (1/ 500، ط. دار الفكر): [ومحلُّ القولين -أي في وجوب الدم واستحبابه- حيث لا عذر، أما المعذور فلا دم عليه جزمًا، ومِن المعذورين مَن جاء عرفة ليلًا فاشتغل بالوقوف عنه، ومَن أفاض مِن عرفة إلى مكة وطاف الركن وفاته] اهـ.
مذهب المالكية والحنفية في هذه المسألة
قالت المالكية: يُندَبُ المبيتُ بمزدلفةَ بقدر حَطِّ الرحال، سواء حطت بالفعل أم لا، وإن لم ينزل فيها بهذا القدر حتى طلع الفجر بلا عذر وجب عليه دمٌ، أما إن تركه بعذرٍ فلا شيء عليه.
وعند الحنفية: المبيت في مزدلفة ليلة النحر إلى الفجر سنَّةٌ مؤكدةٌ لا واجب؛ لأن البيتوتة شُرِعت للتأهب للوقوف ولم تُشرَع نسكًا، أما الوقوف بها ساعةً ولو لطيفة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فهو واجب، ونصوا على أنه إن تُرِكَ هذا الواجب لعذرٍ فلا شيء على تاركه.
خلاصة الأقوال في هذه المسألة
تَحَصَّل مِمَّا سبق: أن هناك قولًا للإمامين الشافعي وأحمد رضي الله عنهما بسنية المبيت مطلقًا مِن غير اشتراط حط رحالٍ ولا مرورٍ أصلًا، وأنَّ مِن الشافعية مَن جعل إفاضة الحاج مِن عرفات إلى مكة لطواف الركن عذرًا شرعيًّا في ترك المبيت بمزدلفة، وأن المالكية قائلون بسنية المبيت مع إيجابهم المكث فيها بقدر حطِّ الرحال وصلاة العشاءين، وأن الحنفية قائلون بأن المبيت ليس واجبًا، إنما الواجب القيام فيها بعد الفجر إلى طلوع الشمس، وأن الأصح عند الشافعية والحنابلة وجوب المبيت، وأن المُوجِبينَ متفقون على أن ترك الواجب في ذلك (وهو مقدار حط الرحال وصلاة العشاءين عند المالكية، والقيام عند المشعر الحرام بعد الفجر عند الحنفية، وتحصيل المبيت بمزدلفة بالحضور بعد نصف الليل لحظة ولو مرورًا عند الجمهور) يسقط عند وجود الأعذار.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أرخص للرعاة في عدم المبيت مِن أجل رعي أنعامهم، ورَخَّص لعمه العباس رضي الله عنه مِن أجل سقايته، فلا شك أن الزحام الشديد المؤدي إلى الإصابات والوفيات الناجم عن كثرة الحجاج عامًا بعد عام مع محدودية أماكن المناسك أَوْلَى في الإعذار من ذلك؛ لأن أعمال السُّقاة والرُّعاة متعلقة بأمورهم الحاجِيَّة؛ أما الزحام فقد يتعارض مع المقاصد الضرورية؛ لأنه يؤدي في كثير من الأحيان إلى الإصابات، بل والوفيات كما هو مشاهَدٌ ومعلوم. والزحام عذرٌ يرخص في ترك الوقوف بمزدلفة بعد الفجر عند الحنفية القائلين بوجوبه.
قال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (3/ 529، ط. دار عالم الكتب): [لكن لو تركه بعذرٍ كزحمةٍ بمزدلفة لا شيء عليه] اهـ.
قال العلامة ابن عابدين في "حاشيته عليه": [قوله: (كزحمة) عبارة "اللباب": إلَّا إذا كان لعلةٍ أو ضعف أو يكون امرأة تخاف الزحام فلا شيء عليه. اهـ. لكن قال في "البحر": ولم يقيد في "المحيط" خوف الزحام بالمرأة، بل أطلقه فشمل الرجل. اهـ. قلت: وهو شاملٌ لخوف الزحمة عند الرمي؛ فمقتضاه أنه لو دفع ليلًا ليرمي قبل دفع الناس وزحمتهم لا شيء عليه] اهـ.
وليس مِن شرط الزحام المرخِّص في العذر أن يكون حاصلًا في المزدلفة نفسها، بل المقصود هو الوصول إلى ما يمنع تكدس الحجيج عند تدافعهم في النفرة منها بأي وسيلة، وفي هذه الأزمنة التي زادت فيها أعداد الحجيج زيادةً هائلةً، وتضاعفت أضعافًا مضاعفةً في أماكن المناسك المحدودة فقد أصبح الزحام متوقَّعًا في كل لحظةٍ، والناظر للمناسك في ساعات الذروة يلمس خطر الموت المحدق بالحجيج مِن شدة الزحام والتلاحم، والعمل على ما يقي ذلك مِن أهم الواجبات الشرعية المرعية في الحج، فصار وجود هذا الكمِّ الكبير من الحجيج في نفسه مُسقِطًا لوجوب ترك المبيت؛ لأن الشرع يُنَزِّل المَظِنَّة منزلة المَئِنَّة، ويحتاط للحفاظ على الأنفس والمُهَج ما لا يحتاط لغيرها، فيدخل في الزحام المسقط للوجوب في المكث أو المبيت: توقعُ الزحام أو الخوفُ أو الهربُ منه، وهذا يقتضي سقوط الفدية عمن ترك المبيت في ظل وجود هذا الحجيج الكثير عند القائلين بوجوبه.
الخلاصة
بِناءً على ذلك: فإن المعتمد في الفتوى في هذه الأزمان التي كثرت فيها أعداد الحجيج كثرةً هائلةً هو الأخذ بسنية المبيت في مزدلفة، وهو قول الإمام الشافعي في "الأم" و"الإملاء"، وقولٌ للإمام أحمد كما حكاه صاحب "المستوعب" مِن الحنابلة، بينما يكتفي المالكية بإيجاب المكث فيها بقدر ما يحط الحاجُّ رحله ويجمع المغرب والعشاء، وأن الجمهور القائلين بوجوب المبيت يسقطونه عند وجود العذر، ومِن الأعذار حفظ النفس مِن الخطر أو توقعه، فيكون الزحام الشديد الذي عليه الحجُّ في زماننا والذي تحصل فيه الإصابات والوفيات -سواء أكان حاصلًا للحاج في مكانه أم متوقَّعَ الحصول في المكان الذي سيذهب إليه- مرخِّصًا شرعيًّا في ترك المبيت عند الموجِبين له.
والله سبحانه وتعالى أعلم.