ما هى فتوى دار الإفتاء المصرية في توقيت الفجر؟ فقد اطَّلعنا على الخطاب المقدم من رئيس الهيئة المصرية العامة للمساحة، والمتضمن: كتاب وزارة الموارد المائية والري، والمرفق به شكوى متكررة؛ بشأن طلب تعديل حساب وقت صلاة الفجر؛ حسب كتاب معهد البحوث الفلكية والجيوفيزيقية الموجه للإدارة المركزية للشئون الهندسية بوزارة الأوقاف، والمرفق بالخطاب، والذي أفاد:
بأن المعهد بصفته الجهة البحثية التي يمكنها القيام بمثل هذه الأبحاث، وبما لديه من أبحاث وكوادر علمية متخصصة في مواقيت الصلاة ورؤية الهلال، قد قام بالعديد من الأبحاث العلمية بما يخص صلاة الفجر، بداية من 1984م وحتى الآن، والمنشور في مجلات علمية متخصصة، بالإضافة إلى رحلات علمية جماعية من المتخصصين وغيرهم في مواقع عدة من جمهورية مصر العربية حول صحة ميقات صلاة الفجر، وقد خلصت فيها النتائج إلى أن ميقات صلاة الفجر يحين عندما تكون الشمس تحت الأفق بمقدار 14.7°، وأن زاوية انخفاض الشمس تحت الأفق المعمول بها حاليًّا 19.5°، علمًا بأن الجهة التنفيذية المسئولة عن حساب مواقيت الصلاة ونشرها في المحافظات هي هيئة المساحة المصرية.
فتوى دار الإفتاء المصرية في توقيت الفجر
التوقيتُ الحاليُّ وهو توقيت الهيئة المصرية العامة للمساحة صحيحٌ قطعًا ويَجبُ الأخذُ به؛ لأنه ثابِتٌ بإقرارِ المُتخصِّصين، وهو ما استَقَرَّت عليه اللِّجانُ العِلمية مِن الشرعيين والفَلَكِيِّين وعلماءِ الجيوديسيا، وطريقة حسابه هي ما جرى عليها العمل في الديار المصرية منذ القرون الإسلامية الأولى إلى يومنا هذا، وهي المتفقة مع ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وأخذه الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطبقوه قولًا وعملًا وأخذه عنهم السلف الصالح قاطبة، والقول بغير ذلك شذوذٌ محضٌ خارجٌ عن إجماع الأمة العملي المتوارث جيلًا عن جيل، واتفاق علمائها وفقهائها وموقتيها؛ فلا يجوز الأخذ به ولا التعويل عليه.
ومما يلزم تنبيه الناس إليه: أنَّ أمرَ العباداتِ الجماعيةِ المُشتَرَكةِ في الإسلام مَبنِيٌّ على إقرارِ النِّظامِ العامِّ بِجَمْعِ كَلِمَةِ المسلمين ورَفْضِ التناوُلَاتِ الانفِرادِيَّةِ العَشْوَائيَّةِ للشَّعَائرِ العامَّة؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]، وفي مِثلِ ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: «الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» رواه الترمذي.
ودار الإفتاء المصرية تهيب بعموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن لا يلتفتوا إلى هذه الدعاوى التي تهرف بما لا تعرف، وأن لا يأخذوا أحكام الدين إلا من أهل العلم المؤهلين، ولا يتركوا عقولهم نهبًا لكل من هب ودب؛ ممن يخرج بين الفينة والأخرى طعنًا في الثوابت وتشكيكًا في القطعيات؛ فهذه الدعاوى المخالفة، وإن كانت تُساق بحجة الاطمئنان على صحة صلاة المسلمين وصيامهم، إلا أنها تنطوي في حقيقة أمرها على الطعن في عبادات المسلمين وشعائرهم وأركان دينهم التي أَدَّوْها ومارسوها عبر القرون المتطاولة؛ من صلاة وصيام وغيرهما، فضلًا عما تستلزمه من تجهيل علماء الشريعة والفلك المسلمين عبر العصور إلى يومنا هذا.
المحتويات
- وقت الفجر يبدأ من أول ظهور لعلامته
- التقويم الفلكي المصري القديم والحديث وهو الذي اعتمده الفلكيون العرب والأوربيون
- الرد على من يُدَّعَى من أن وقت الفجر هو على درجة 16.5°
- الأدلة على صحة توقيت فجر القاهرة
- نصوص أهل اللغة على اختلاط الفجر الصادق بظلمة آخر الليل في لغة العرب
- النقل الجُمْلي الفعلي المتواتر للمسلمين عبر العصور
- تحديد الفقهاء وقت الفجر بدقة توافق المعمول به ونقل إجماعهم على ذلك
- إجماع علماء الفلك والهيئة من المسلمين عبر القرون
- دار الإفتاء كانت بالمرصاد لكل من حاول التشكيك في ميقات الفجر المعمول به في مصر والعالم الإسلامي
- الخلاصة
وقت الفجر يبدأ من أول ظهور لعلامته
الحق الذي يجب المصير إليه والعمل عليه، ولا يجوز العدول عنه: هو أن توقيت الفجر المعمول به حاليًّا في مصر (وهو عند زاوية انخفاض الشمس تحت الأفق الشرقي بمقدار 19.5°) هو التوقيت الصحيح قطعًا، وأنه الذي جرى عليه العمل بالديار المصرية منذ القرون الإسلامية الأولى إلى يومنا هذا، وهو الذي استقر عليه عمل دار الإفتاء المصرية في كل عهودها، وهو ما كانت عليه مصلحة عموم المساحة المصرية منذ إنشائها سنة 1898م، ثم استمرت على ذلك بعد إنشاء الهيئة المصرية العامة للمساحة سنة 1971م، وهي المؤسسة المصرية الرسمية المختصة بإصدار التقاويم الفلكية المتضمنة لمواقيت الصلاة؛ طبقًا للقرار الجمهوري رقم 827 لسنة 1975م، والمعدل بالقرار الجمهوري رقم 328 لسنة 1983م، وهو ما استقر الموقتون وعلماء الفلك المسلمون عبر الأعصار والأمصار، ودلت عليه الأرصاد الصحيحة المبنية على الفهم الصحيح للفجر الصادق في النصوص الشرعية، وأن ما بين درجتي: 18°، و19.5° من انخفاض الشمس تحت الأفق الشرقي هو التوقيت الصحيح للفجر الصادق المتفق على اعتماده والعمل به في كل بلدان العالم العربي والإسلامي بلا استثناء.
وهذا التوقيت للفجر الصادق مبني على أن وقته يبدأ من أول ظهور لعلامته، وعلامته الدقيقة المنضبطة: هي أن يظهر ضوؤه ويبزغ خيطًا دقيقًا معترضًا في الأفق الشرقي مختلطًا بظلمة آخر الليل، وإنما يكون ذلك في نطاق هذا المدى من الانخفاض الزاويّ لا بعد ذلك، وما يستتبعه ذلك من طول نسبيٍّ لوقت الفجر إلى شروق الشمس.
وهذا هو ما دلَّت عليه نصوص الوحيين: من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة القولية والفعلية، وأخذه الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطبقوه قولًا وعملًا، وبه جاءت الآثار المتكاثرة عنهم رضي الله عنهم، وعنهم أخذه السلف الصالح قاطبة.
وبذلك جاء كلام العرب الفصحاء الذين نزل القرآن بلغتهم، وبتأييده أتت نصوص أهل اللغة.
وهذا هو الذي أجمع على تحريره واتفق على القول به فقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتعدد مشاربهم، وضبطوه بوسائلهم المتنوعة التي لا تبقى في تحديده طعنًا لطاعن، ولا ريبة لمتشكك، ولا مدخلًا لمشكِّك: بالوصف الدقيق لضوئه الصادق، وعن طريق منازل القمر، وعن طريق غروب القمر وطلوعه ليلتين من الشهر، وبحساب الساعات الفلكية المستوية، والساعات الزمانية، ودرجاتهما.
التقويم الفلكي المصري القديم والحديث وهو الذي اعتمده الفلكيون العرب والأوربيون
على ذلك أجمع المتخصصون من علماء الفلك والهيئة والموقتين المسلمين عبر القرون المتطاولة من غير خلاف؛ فاتفقوا على حساب زاوية انخفاض الشمس تحت أفقه الشرقي فيه: ما بين درجتي 18°، و20°؛ حيث حرروا ذلك بمراصدهم العظيمة؛ جماعات وفرادى، من غير زيادة على هذا المدى أو نقص عنه، وقد استقر راصدوهم، ومحققوهم في القرن الثامن الهجري وما بعده على اعتماد درجة 19° ونقلوا الاتفاق على ذلك، ونصوصهم على ذلك أكثر من أن تحصر، ونصوا على أن اعتماد علماء الفلك العرب والمسلمين هذه الدرجة، أما علماء الفلك الأوروبيون فقد اعتمدوا درجة 18°.
كل ذلك وفق منهج علمي استقرائي دقيق، وفهم تراكمي عميق، ترجم -بأمانة بالغة- عمّا كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابُه، ونقلته الأمة الإسلامية قاطبةً عن نبيها سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كتابًا وسنةً، وفهمًا وعلمًا، وعملًا وتطبيقًا، بطريق اليقين القطعي، والتواتر القولي والفعلي، الذي لا مدخل للتلاعب أو الاجتهاد فيه، من لدن العصر النبوي إلى يوم الناس هذا، جيلًا بعد جيل، عبر الأعصار والأمصار، شرقًا وغربًا، سلفًا وخلفًا، عربًا وعجمًا، من غير نكير، على غاية ما تكون الدقة في وصف علامته، وأبدع ما يكون الضبط في حساب وقته؛ بحيث لم ينازع أحد من المسلمين عبر القرون المتطاولة والأعصر المتتابعة في أنه وصل إلينا محدَّدًا مضبوطًا على الوجه الذي شرعه الله تعالى وأراده، وبلَّغه رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قولًا وفعلًا، حقًّا لا مرية فيه، حتى أصبح ذلك شائعًا مستقرًّا بين المسلمين؛ لا ينكره منهم منكِر، ولا يطعن فيه طاعن.
وعلى ذلك قام التقويم الفلكي المصري القديم والحديث، والذي قام به في الأصل علماء أجلاء جمعوا بين العلوم الشرعية والفلكية، وكذلك غيره من تقاويم بلاد المسلمين. وهو الذي اعتمده الفلكيون العرب والأوربيون وغيرهم في العصر الحديث، وبه أخذت تقارير الهيئات الفلكية، والمؤسسات الرصدية المتخصصة المعتمدة في علوم الفلك؛ في البلاد العربية والإسلامية، بل وفي دول العالم كله.
الرد على من يُدَّعَى من أن وقت الفجر هو على درجة 16.5°
أما ما يُدَّعَى من أن وقت الفجر هو على درجة 16.5°؛ فمحض تخرص لا صحة له، فضلًا عن أن يكون على درجة 14.7°، بل ذلك شذوذٌ محضٌ خارج عن إجماع الأمة العملي المتوارث جيلًا عن جيل، واتفاق علمائها وفقهائها وموقتيها، ولا يجوز الأخذ به ولا التعويل عليه.
ومبعث الشذوذ والخلل في هذه المزاعم:
أنها إما مبنية على أرصادٍ تمت في أماكن غير مناسبة؛ بسبب ضوء القمر أو الضوء الصناعي، أو عدم صفاء الأفق، أو انتشار التلوث في الجو، ونحو ذلك.
أو لأنها بُنِيَت على اشتراط أن يعم الضياء الأفق وأن يظهر بياض النهار في السماء ظهورًا يمحو كل خيط أسود فيها: حتى يصح كون الفجر صادقًا، وإلا كان كاذبًا!! وهو شرط مبتدَعٌ مخترعٌ لم يُسبَق إليه أصحابُه، ولا يُنسَب لغير منتحليه، ولا علاقة له بالفجر الصادق الذي نزل بتحديده القرآن الكريم، وأوضحته السنة المطهرة، وفهمه الفقهاء، وأطبقت عليه الأمة الإسلامية جمعاء.
الأدلة على صحة توقيت فجر القاهرة
فيما نلي نسوق الأدلة من القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة قولًا وفعلًا، والآثار القولية والفعلية عن الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم، وأوجه دلالتها على صحة ما عليه عمل الأمة الإسلامية في قديم الدهر وحديثه:
- فأما القرآن الكريم:
1- فقد بيَّن الله سبحانه وقتَ الفجر الذي يجب عنده الإمساك عن المفطرات في الصوم في كتابه الكريم بقوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187].
وفسَّره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ» متفق عليه من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
وهذا يدل على صحة التوقيت المعمول به من وجهين:
الوجه الأول: أن وصف طلوع الفجر بالخيط الأبيض يدل على بقاء الظلمة؛ فإن الضوء إذا أسفر ورآه كل أحد وملأ الأفق أمام الناظرين لا يُسَمَّى خيطًا.
الوجه الثاني: أن ذكر "التَّبَيُّن" في الآية دليل على تكلُّف الطلب والبحث والنظر؛ فإن صيغة "تفعَّل" تأتي في اللغة للطلب والتكلُّف، كما أن المقابلة بين الخيطين تدل على وجودهما معًا وقابلية حصول الالتباس بينهما، فإذا كان الضوء منتشرًا واضحًا لم تعد هناك حاجة لتبين أحدهما من الآخر؛ لحصول البيان حينئذ من غير كلفة ولا التباس.
قال الإمام أبو جعفر الطبري في "تفسيره" (3/ 261، 262، ط. دار هجر) في رده على من يدَّعي أنه لا يحكم بطلوع الفجر مع بقاء شيء من الليل: [الخيط الأبيض من الفجر يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر، وقد جعل الله تعالى ذكره ذلك حدًّا لمن لزمه الصوم في الوقت الذي أباح إليه الأكل، والشرب، والمباشرة. -إلى أن قال:- ويقال لقائلي ذلك: إن كان النهار عندكم كما وصفتم هو ارتفاع الشمس وتكامل طلوعها، وذهاب جميع سدفة الليل وغبس سواده، فكذلك عندكم الليل: هو تتام غروب الشمس وذهاب ضيائها وتكامل سواد الليل وظلامه؟
فإن قالوا: ذلك كذلك. قيل لهم: فقد يجب أن يكون الصوم إلى مغيب الشفق وذهاب ضوء الشمس وبياضها من أفق السماء!
فإن قالوا: ذلك كذلك، أوجبوا الصوم إلى مغيب الشفق الذي هو بياض. وذلك قولٌ إن قالوه مدفوع بنقل الحجة التي لا يجوز فيما نقلته مجمعة عليه الخطأ والسهو على تخطئته.
وإن قالوا: بل أول الليل ابتداء سدفته، وظلامه، ومغيب عين الشمس عنا.
قيل لهم: وكذلك أول النهار: طلوع أول ضياء الشمس، ومغيب أوائل سدفة الليل.
ثم يعكس عليه القول في ذلك، ويسأل الفرق بين ذلك، فلن يقول في أحدهما قولًا إلا ألزم في الآخر مثله] اهـ.
وقال الإمام الزمخشري في تفسيره "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل" (1/ 231، ط. دار الكتاب العربي): [الخيط الأبيض: هو أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود، والخيط الأسود: ما يمتدّ معه من غبش الليل، شبها بخيطين أبيض وأسود] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 320، ط. دار الكتب المصرية): [وسمي الفجر خيطًا؛ لأن ما يبدو من البياض يُرَى ممتدًّا كالخيط] اهـ.
وقال الإمام أبو حيان في تفسيره "البحر المحيط" (2/ 216، ط. دار الفكر): [وشبه بالخيط وذلك بأول حاله؛ لأنه يبدو دقيقًا ثم يرتفع مستطيرًا، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك. هذا مذهب الجمهور، وبه أخذ الناس ومضت عليه الأعصار والأمصار] اهـ.
وقال الإمام النيسابوري في تفسيره "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" (1/ 515، ط. دار الكتب العلمية): [المشبه هو الفجر الصادق، وهو أيضًا يبدو دقيقًا ولكن يرتفع مستطيرًا؛ أي: منتشرًا في الأفق، لا مستطيلًا. ويمكن أن يقال: الفصل المشترك بين ما انفجر من الضياء –أي: انشق- وبين ما هو مظلم بعد: يشبه خيطين اتصلا عرضًا؛ فالذي انتهى إليه الضياء خيط أبيض، والذي ابتدأ منه الظلام خيط أسود] اهـ.
وقال العلامة المراغي في "تفسيره" (2/ 77، ط. الحلبي): [الخيط الأبيض: أول ما يبدو من بياض النهار كالخيط الممدود رقيقًا ثم ينتشر، والخيط الأسود: هو ما يمتد من سواد الليل مع بياض النهار، فالصبح إذا بدا في الأفق بدا كأنه خيط ممدود، ويبقى بقية من ظلمة الليل يكون طرفها الملاصق لما يبدو من الفجر كأنه خيط أسود في جنب خيط أبيض] اهـ.
وقال العلامة الحكيم طنطاوي جوهري [ت 1358هـ] في "الجواهر في تفسير القرآن الكريم" (1/ 178، ط. مصطفى الحلبي): [معناه: حتى يتبين لكم ذلك البياض الممتد في الأفق وما معه من غبش الليل، المشبهان خيطين: أبيض وأسود؛ فالفجر بيان للخيط الأبيض، والليل الذي حذف بدلالة الفجر عليه بيان للخيط الأسود] اهـ.
وعلى ذلك أهل التفسير من الشيعة أيضًا:
قال العلامة محمد حسين الطباطبائي في "الميزان في تفسير القرآن" (2/ 49، ط. قم): [الفجر فجران:
فجر أول: يسمَّى "بالكاذب"؛ لبطلانه بعد مكث قليل، و"بذنب السِّرحان"؛ لمشابهته ذنَبَ الذئب إذا شاله.
وعمود شعاعي يظهر في آخر الليل في ناحية الأفق الشرقي، إذا بلغت فاصلة الشمس من دائرة الأفق إلى ثماني عشرة درجة تحت الأفق، ثم يبطل بالاعتراض، فيكون معترضًا مستطيلًا على الأفق كالخيط الأبيض الممدود عليه، وهو الفجر الثاني، ويسمَّى "الفجر الصادق"؛ لصدقه فيما يحكيه ويخبر به من قدوم النهار واتصاله بطلوع الشمس. ومن هنا يُعلَم أن المراد بالخيط الأبيض: هو الفجر الصادق، وأن كلمة "مِن" بيانية، وأن قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ مِن قَبِيل الاستعارة؛ بتشبيه البياض المعترض على الأفق من الفجر، المجاور لِمَا يمتد معترضًا معه من سواد الليل: بخيط أبيض يتبين من الخيط الأسود] اهـ.
وقال المفتي الأسبق فضيلة الأستاذ الدكتور/ نصر فريد واصل، في بحثه "تحقيق صلاتي الفجر والعشاء" (ص: 27، ط. ضمن أبحاث ندوة تحقيق مواقيت صلاتي الفجر والعشاء): [دلت الآية صراحة على أن الفجر هو حد الصيام والإفطار، وأنه الحد الفاصل بين نهاية الليل وبداية النهار، وأنه الخيط الأبيض الذي يشترك مع الخيط الأسود وهما معترضان في الأفق...
وما سُمِّي الفجر فجرًا إلا لانفجاره عن الليل بهذا الخيط الرفيع الذي يفصل بين نهاية الليل وبداية النهار، وهو أول شعاع من ضوء الصبح يصل إلى الليل، ويتصل به، ويدخل فيه، فيختلطان، الليل والنهار، في وقت الغلس، حتى يغلب ضوء الصبح على سواد الليل، فيزول الغلس ويشرق النهار. وهذا الحد قد ورد بيانه بطريق الوحي والسماع في الكتاب والسنة القولية والفعلية، والتي ثبتت عنه صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الإجماع، وقد بينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصحابته بما لا يدع مجالًا للشك أو اللبس في حياته، وصلى بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال لهم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، وقد صلى به جبريل عليه السلام أولًا عندما نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم ليعلمه الصلاة وبيان مواقيتها، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى] اهـ.
2- وأخبر سبحانه بأنه هو الذي فلق الظلمة بالصبح؛ فقال تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾ [الأنعام: 96]، وذلك على القول بأن المراد بالفالق: الشّاق، والشَّقُّ يستلزم وجود الشاقِّ والمشقوق معًا، لا سبقَ أحدِهما على الآخر؛ فسمّاه سبحانه وتعالى "صبحًا" حال شَقِّه الليلَ لا بعد ذلك؛ فدل على وجود الصبح مع الظلمة واقترانه بها.
قال العلامة الألوسي في "روح المعاني" (4/ 216، ط. دار الكتب العلمية): [في الكلام مضاف مقدر؛ أي: فالق ظلمة الإصباح بالإصباح؛ وذلك لأن الأفق من الجانب الغربي والجنوبي مملوءٌ من الظلمةِ، والنورُ إنما ظهر في الجانب الشرقي؛ فكأن الأفق كان بحرًا مملوءًا من الظلمة، فشق سبحانه ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولًا من النور فيه] اهـ.
3- كما وصف الله تعالى تداخل النهار مع الليل وتداخل الليل مع النهار بأوصاف عدة، كالغشي والطلب والإيلاج والتكوير والسلخ، وهي كلُّها تبين طبيعة ضوء الفجر وشدة التحامه وتداخله بالليل قبله:
فقال تعالى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الأعراف: 54]، وقال تعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [الحديد: 6]، وقال تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ [الزمر: 5]، وقال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ [يس: 37].
قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (3/ 16، ط. دار إحياء التراث العربي): [يَطْلُبُهُ حَثِيثًا: يعقبه سريعًا، كالطالب له لا يفصل بينهما شيءٌ] اهـ.
وقال العلامة العلوي في "الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز" (1/ 79، ط. المكتبة العصرية): [فشبه انفصال الليل من النهار بسلخ الأديم عن الشاة، وهذا يدلك على عظم اتصال الليل بالنهار وشدة التحامه به، ولهذا فإنك ترى الفجر عند طلوعه، نوره في غاية الامتزاج والاختلاط بظلام الليل، فلا يزال النهار في قوة، وغلبة، وظهور، حتى يستولى عليه بالإنارة فيمحوه ويزيله، فالسلخ مؤذن بشدة الالتحام، كالجلد، والغشيان مؤذن بعظم الاستيلاء والاشتمال، وكلاهما مشعر بالاتصال البالغ] اهـ.
وإيلاج النهار في الليل: يعني أنهما غير منفصلين تمام الانفصال، بل يتم الانتقال بينهما تدريجيًّا؛ فلا الضياء يأتي فجأة، ولا الظلام يأتي فجأة، وقد سمَّاه سبحانه نهارًا مع ولوجه في الليل؛ وهذا يدل على أنه يثبت بظهور تباشير الفجر الصادق ومجيء أول ضوء له.
4- وشبّه سبحانه دخول الفجر على الليل بإخراج النفس؛ بجامع أن كلًّا منهما يخرج شيئًا فشيئًا: فقال تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ [التكوير: 18].
قال العلامة ابن حجة الحموي في "شرح البديعية" المسمى "خزانة الأدب وغاية الأرب" (1/ 110، ط. دار الهلال): [وأحسن الاستعارات ما قرب منها دون ما بعد، وأعظمها في هذا الباب قوله تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾؛ فإن ظهور الأنوار من المشرق من أشعة الشمس قليلًا قليلًا، بينه وبين إخراج النفس مشابهة شديدة القرب] اهـ.
- وأما السنة النبوية الشريفة:
فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقت الفجر أوضح بيان وأجلاه؛ علمًا وعملًا؛ وذلك من خلال سنته القولية والفعلية:
فأما السنة القولية:
1- فبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها الفرق بين الفجر المستطير الصادق الذي يدخل به وقتُ صلاة الفجر والذي ينتشر ضوؤه معترضًا في أسفل الأفق يمينًا وشمالًا، وبين الفجر المستطيل الكاذب الذي هو كهيئة المخروط المقلوب:
فأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلاَلٍ مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الفَجْرُ» وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل «حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا»، وقال زهير -أحد رواة الحديث- بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى، ثم مدها عن يمينه وشماله.
وأخرج الإمام أحمد ومسلم -واللفظ له- وأبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلُ هَكَذَا، حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا» وَحَكَاهُ حَمَّادٌ -أحد رواة الحديث- بِيَدَيْهِ، قَالَ: يَعْنِي مُعْتَرِضًا.
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 288، ط. مكتبة الرشد) عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْفَجْرُ فَجْرَانِ، فَأَمَّا الَّذِي كَأَنَّهُ ذَنَبُ السِّرْحَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَلَكِنِ الْمُسْتَطِيرُ».
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 136، ط. دار المعرفة): [أيْ: هو الذي يحرم الطعام ويُحل الصلاة] اهـ.
وأخرجه الدارقطني في "سننه" (3/ 114، ط. مؤسسة الرسالة) من حديث عبد الرحمن بن عائشٍ رضي الله عنه، وقال: [إسناده صحيح] اهـ.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 304، ط. دار الكتب العلمية) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: [هذا حديث صحيح على شرط الشيخين في عدالة الرواة ولم يخرجاه، وأظن أني قد رأيته من حديث عبد الله بن الوليد، عن الثوري موقوفًا والله أعلم، وله شاهد بلفظ مفسر، وإسناده صحيح] اهـ. ووافقه الحافظ الذهبي.
2- ونزل جبريل عليه السلام فصلى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلوات الخمس وقتين وقتين، مرة في أول وقت كل صلاة، ومرة في آخره، فكانت صلاة الفجر في أول وقته عند بداية ضوئه الصادق المختلط بظلمة آخر الليل، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم:
فأخرج الإمام مسلم في "صحيحه" من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يَرُدَّ عليه شيئًا، قال: فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا.-إلى أن قال:- ثم أصبح فدعا السائل، فقال: «الْوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ».
وأخرج الترمذي في "الجامع" وحسنه عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَ البَيْتِ مَرَّتَيْنِ...، ثُمَّ صَلَّى الفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الفَجْرُ، وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ...، ثُمَّ الْتَفَتَ إليِّ جبرئيل، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِك، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ».
وأخرج النسائي في "المجتبى" والطبراني في "مسند الشاميين" من طريق عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلامُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّم يُعَلِّمُهُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ...، ثُمَّ أَتَاهُ حِينَ امْتَدَّ الْفَجْرُ وَأَصْبَحَ وَالنُّجُومُ بَادِيَةٌ مُشْتَبِكَةٌ، فَصَنَعَ كَمَا صَنَعَ بِالْأَمْسِ فَصَلَّى الْغَدَاةَ» ثُمَّ قَالَ: «مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَقْتٌ».
قال الحافظ سراج الدين بن الملقن في "البدر المنير" (3/ 164، ط. دار الهجرة): [وهذا الإسناد كلُّ رجاله ثقات] اهـ.
وأخرج البزار في "مسنده" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثهم أن جبريل عليه السلام جاءه فصلى به الصلاة وقتين وقتين، إلا المغرب...، إلى أن قال صلى الله عليه وآله وسلم: «ثُمَّ جَاءَنِي الْفَجْرَ فَصَلَّى بِي سَاعَةَ بَرِقَ الْفَجْرُ».
3- ووصَّى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابَه وأُمّتَه بالتغليس بالفجر، وإطالة القراءة:
فروى سعيد بن يحيى الأموي في "المغازي"، وبقي بن مخلد في "مسنده"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآدابه"، وأبو القاسم السهمي في "تاريخ جرجان"، وأبو نعيم في "الحلية"، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق"، والديلمي في "مسند الفردوس"، والبغوي في "شرح السنة"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق": عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، إذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ فَغَلِّسْ بِالْفَجْرِ وَأَطِلْ الْقِرَاءَةَ قَدْرَ مَا يُطِيقُ النَّاسُ، وَلَا تُمِلَّهُمْ، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ فَأَسْفِرْ بِالْفَجْرِ؛ فَإِنَّ اللَّيْلَ قَصِيرٌ وَالنَّاسُ يَنَامُونَ، فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوا». وقد احتج به الأئمة في كتبهم على التغليس بالفجر، كما صنع الإمام ابن قدامة المقدسي في "المغني" (1/ 281، ط. مكتبة القاهرة).
وروى الإمام أحمد في "المسند"، والبغوي في "معجم الصحابة"، وابن بشران في "أماليه": من حديث أبي عبد الرحمن الصُّنابِحي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ تَزَالَ أُمَّتِي فِي مُسْكَةٍ مَا لَمْ يَعْمَلُوا بِثَلَاثٍ: مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ بِانْتِظَارِ الْإِظْلَامِ مُضَاهَاةَ الْيَهُودِ، وَمَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْفَجْرَ إِمْحَاقَ النُّجُومِ مُضَاهَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَمَا لَمْ يَكِلُوا الْجَنَائِزَ إِلَى أَهْلِهَا» واللفظ لأحمد.
قال العلامة السندي في حاشيته على "المسند": [قوله: "مُسْكة"، بضم فسكون، أي: في قوة وثباتِ على الدِّين] اهـ.
4- وما ورد في السنة القولية من ذلك محتملًا فقد أوَّله العلماء على ما يوافق القطعي منها؛ حملًا للظني على القطعي، وتقديمًا للمبيَّن الواضح على المجمَل المحتمل، ومن رآه متعارضًا مع غيره من قطعيات الشريعة فقد ضعَّفه أو جوَّز نسخه:
فأخرج أبو داود والترمذي وحسَّنه في "سننهما" عن طَلْق بن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَلَا يَهِيدَنَّكُمُ السَّاطِعُ المُصْعِدُ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الأَحْمَرُ»، قال أبو داود: هذا ما تفرد به أهل اليمامة.
فقد اتفق الفقهاء على أن مناط وقت الفجر الصادق هو أول ضوء يبدو معترضًا، لا الحمرة التي تأتي بعده، ثم اختلفوا بناءً على ذلك في فهم هذا الحديث:
فمن العلماء من ضعَّف الحديث أو رآه منسوخًا؛ بناءً على أن الحمرة المعهودة ليست مناطًا لدخول الفجر الصادق؛ لأنها إنما تكون بعد ظهور الخيط الأبيض الذي لا حمرة فيه، ويشهد لذلك بعض كلام أهل اللغة:
يقول الإمام اللغوي أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي [ت 370هـ] في "الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري" (3/ 402، ط. مكتبة الخانجي) في كلامه على بيت أبي تَمّام الطائي [ت 231هـ]:
أو أَدْهَمٍ فيهِ كُمْتةٌ أَمَمٌ ... كأنهُ قطعةٌ منَ الغلسِ
[وقوله: (كأنه قطعة من الغلس) أي: هو أدهم تعلوه حمرة يسيرة، كما أن الغلس: هو اختلاط الظلمة بضياء النهار، وذلك الوقت لا حمرة فيه، وإنما هو بياض الفجر يعترض الأفق، فإذا جاءت الحمرة فليس ذلك بغلس، بل ذلك حمرة الشمس وأول النهار، وقد تبعه البحتري في هذا المعنى؛ فقال في وصف لون الفرس بالحمرة:
صبغة الأفق بين آخر ليلٍ ... منقضٍ شأنُه وأولِ فجرِ
ولا حمرة بين آخر الليل وأول الفجر؛ لأن أول الفجر الزرقة ثم البياض، وإذا جاءت الحمرة فذلك لطلوع الشمس وهو أول النهار، وهذا الوصف منهما جميعًا عندي إلى الخطأ أقرب منه إلى الصواب] اهـ.
ولذلك قال الإمام الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 54، ط. عالم الكتب): [فلا يجب تركُ آيةٍ من كتاب الله تعالى نصًّا، وأحاديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متواترة قد قبلتها الأمة وعملَتْ بها، من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم، إلى حديثٍ قد يجوز أن يكون منسوخًا بما ذكرناه في هذا الباب] اهـ.
وقال الإمام أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" (1/ 278، ط. دار الكتب العلمية): [فذكر في هذا الخبر "الأحمر"، ولا خلاف بين المسلمين أن الفجر الأبيض المعترض في الأفق قبل ظهور الحمرة يحرم به الطعام والشراب على الصائم، وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه: «إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَسَوَادُ اللَّيْلِ»، ولم يذكر الحمرة] اهـ.
وقال الإمام ابن العربي المالكي [ت 543هـ] في "عارضة الأحوذي" (1/ 45، ط. دار الكتب العلمية): [قوله في حديث طلق: «حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الأَحْمَرُ» يقتضي بظاهره على حياله: أن يأكل المرء وإن رأى الأبيض المستطير المنتشر عرضًا حتى يراه أحمر] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/ 51، ط. دار الحديث) بعد ذكر الحديث: [قال أبو داود: هذا ما تفرد به أهل اليمامة، وهذا شذوذ؛ فإن قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾ نصٌّ في ذلك، أو كالنص، والذين رأوا أنه الفجر الأبيض المستطير هم الجمهور والمعتمَد] اهـ.
ومن العلماء من حمل الوصف بالحمرة في الحديث على المجاز وقال: إن الحمرة هنا معناها البياض؛ لأن العرب تسمِّي الأبيضَ بالأحمر مجازًا؛ من باب وصف الشيء باعتبار ما يؤول إليه؛ على معنى أن الفجر الصادق هو الذي يحمل في طياته الحمرة التي تأتي بعده ويؤول ضوؤه إليها، وليس الفجر الكاذب، ويشهد لذلك: أن وصفَ البياض بالحمرة من مجازات اللغة المعروفة:
قال الإمام أبو بكر بن دريد [ت 321هـ] في "جمهرة اللغة" (1/ 364، ط. دار العلم للملايين): [والفجر: حمرة الشمس في سواد الليل] اهـ.
وقال العلامة أبو الحسن بن سيده في "المحكم والمحيط الأعظم" (7/ 394، ط. دار الكتب العلمية): [الفجر: ضوء الصباح، وهو حمرة الشمس في سواد الليل] اهـ.
وقال العلامة العظيم آبادي في "عون المعبود" (6/ 339، ط. دار الكتب العلمية): [قلت: وقد يطلق الأحمر على الأبيض، قال في "تاج العروس": "الأحمر: ما لونه الحمرة، ومن المجاز: الأحمر: من لا سلاح معه في الحرب، والأحمر: تمرٌ؛ للونه، والأحمر: الأبيض، ضدٌّ، وبه فسر بعضٌ الحديثَ: «بُعِثْتُ إلى الأحمر والأسود»، والعرب تقول: امرأة حمراء؛ أي: بيضاء" انتهى. فمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الأَحْمَرُ»؛ أي: الأبيض، وهو بياض النهار من سواد الليل؛ يعني: الصبح الصادق] اهـ.
وعلى ذلك يحمَل قول من عمل بالحديث من العلماء، وهو مقتضى صنيع الإمام الترمذي؛ حيث نسب القول بالحديث لعامة أهل العلم.
وقال الإمام أبو سليمان الخطابي [ت 388هـ] في "معالم السنن" (2/ 105، ط. المطبعة العلمية): [ومعنى الأحمر ههنا: أن يستبطن البياضُ المعترضُ أوائلَ حمرة؛ وذلك أن البياض إذا تتام طلوعُه ظهرت أوائلُ الحمرة، والعرب تشبه الصبح بالبلَق في الخيل؛ لِمَا فيه من بياض وحمرة، وقد جعله عمر بن أبي ربيعة شُقْرَةً فقال:
فلما تقضى الليل إلاّ أقله ... وكادت توالي نجمه تتغوّر
فما راعني إلّا منادٍ تحملوا ... وقد لاح معروف من الصبح أشقر] اهـ.
وقال العلامة البجيرمي في حاشيته "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" (1/ 397، ط. دار الفكر) عند قول الإمام الخطيب الشربيني في "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" في سبب تسمية "الصبح" بذلك: [(والصبح) أي: صلاته، وهو بضم الصاد وكسرها، لغةً: أول النهار؛ فلذلك سميت به هذه الصلاة، وقيل: لأنها تقع بعد الفجر الذي يجمع بياضًا وحمرة..
قوله: (يجمع بياضًا وحمرة) أما البياض: فهو الفجر الصادق، وأما الحمرة: فمن شعاع الشمس قبل طلوعها، ومعلوم أن الفجر يمتد إلى طلوع الشمس؛ فصح قوله: الذي يجمع بياضًا وحمرة م د. قال بعضهم: إن قول الشارح (يجمع بياضًا وحمرة) فيه نظر؛ لأن الفجر إنما يجمع ذلك بعد مضي زمن كثير من وقتها، فيقتضي أنها تؤخر لذلك عن أول وقتها، وليس كذلك، وإنما تفعل في أول الوقت والفجر حينئذ بياض لا حمرة فيه، فلو قال: لأنها تفعل عقب الفجر والفجر فيه بياض حينئذ، والشيء الذي فيه بياض يقال له صبح؛ كان أولى] اهـ.
أو يقال: إن الحمرة قد تظهر أحيانًا أول ضوء الفجر في بعض الأيام أو الفصول أو المطالع أو الأماكن؛ وعلى ذلك -أو على ما قبله- يحمَل ما رواه الدارقطني في "السنن" عن سالم بن عبيد الله قال: كنت في حِجر أبي بكرٍ الصِّديق رضي الله عنه، فصلى ذات ليلة ما شاء الله ثم قال: "اخرج فانظر هل طلع الفجر؟" قال: فخرجت، ثم رجعت فقلت: قد ارتفع في السماء أبيض، فصلى ما شاء الله ثم قال: "اخرج فانظر هل طلع الفجر؟" فخرجت ثم رجعت فقلت: لقد اعترض في السماء أحمر، فقال: "هَيْتَ الآن، فأَبْلِغْني سَحوري".
وكذلك قول الحافظ أبي عوانة [ت 316هـ] في "مستخرجه على صحيح مسلم" (1/ 308، ط. دار المعرفة): [الفجر: هو المستطير الذي تخالطه الحمرة] اهـ.
أما فهم الحديث على ظاهره من أن الحمرة التي تأتي بعض بياض الفجر: هي مناط طلوع الفجر الصادق، فهذا الفهم معارَض بغيره من قطعيات نصوص الشريعة، ومخالفٌ لإجماع المسلمين على دخول وقت الفجر بأول ضوئه من غير اشتراط حمرة حقيقية.
وأما السنة الفعلية:
1- فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يصلي الصبح بغلس:
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سُئِل عن صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "كان يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاءَ إذا كثر الناس عَجَّل وإذا قَلّوا أَخّر، والصُّبح بغَلَس". متفق عليه.
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وهو يصف صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفجر: "وصلَّى الصبح مرة بغلس، ثم صلَّى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر" رواه الإمام أبو داود في "السنن".
والمقصود بالغلس هنا: ما تبقى من ظلمة الليل بعد طلوع الفجر.
قال الإمام الخليل بن أحمد في كتاب "العين": [الغَلَسُ: ظَلامُ آخر اللَّيل] اهـ.
وقال الإمام الأزهري في "تهذيب اللغة" (8/ 69، ط. دار إحياء التراث): [قال اللَّيْث: الغَلَسُ الظلامُ من آخر اللَّيْل، يُقَال: غَلَّسْنا أَي سرنا بِغَلَسٍ، قلتُ: الغَلَسُ: أوَّلُ الصُّبْح الصادقِ الْمُنْتَشِر فِي الْآفَاق] اهـ.
وقال الإمام المظهري في "المفاتيح في شرح المصابيح" (2/ 21، ط. دار النوادر): [الغلس: اختلاط بياض الصبح بظلمة الليل.. يعني: يصلي الصبح في أول الوقت] اهـ.
ومثله للإمام ابن ملك في "شرح المصابيح" (1/ 370، ط. إدارة الثقافة الإسلامية).
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في شرحه على المصابيح المسمى "فتح الإله في شرح المشكاة": [وكان يصلي الصبح بغلس؛ أي: في وقت ظلمة آخر الليل المختلطة بضوء الصباح، وذلك بعيد طلوع الفجر] اهـ.
وأخرج البزار في "مسنده" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا أنه جمع بين الصلاتين بجمع، وصلى الفجر يومئذ بغير ميقاتها".
قال الإمام البزار: [ومعنى قوله: أنه صلى الفجر لغير ميقاتها: أنه صلاها في غير وقتها الذي كان يصليها في كل يوم؛ لأنه كان يصلي في كل يوم إذا أسفر الفجر، وصلى في ذلك اليوم حيث برق الفجر، فكان قبل ميقاتها الذي كان يصليها في كل يوم، لا أنه صلاها قبل أن يجب وقتها] اهـ.
2- وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤخر السحور؛ بحيث يكون بين فراغه من سحوره ودخوله في الصلاة قدر قراءة خمسين آية، وكان يصلي سنة الفجر بعد أن يستبين دخول الفجر، ثم يغفو إغفاءة يسيرة، ثم يقوم إلى صلاة الفجر، وكان يطيل القراءة فيها ويأمر بذلك، ومع ذلك كله فإن الرجال والنساء كانوا ينصرفون بعد الصلاة ولا يكاد بعضهم يعرف بعضًا من الغلس؛ أي: بسبب ما تبقى من ظلمة الليل.
فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ" قُلْتُ: كَمْ كَانَ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "خَمْسِينَ آيَةً" متفق عليه.
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَيَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْمِائَةِ إِلَى السِّتِّينَ، وَكَانَ يَنْصَرِفُ حِينَ يَعْرِفُ بَعْضُنَا وَجْهَ بَعْضٍ" أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، ومسلم في "صحيحه".
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا سَكَتَ المُؤَذِّنُ بِالأُولَى مِنْ صَلاَةِ الفَجْرِ قَامَ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ، بَعْدَ أَنْ يَسْتَبِينَ الفَجْرُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، حَتَّى يَأْتِيَهُ المُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ" متفق عليه.
وعنها رضي الله عنها قالت: "إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ" متفق عليه.
قال الإمام أبو منصور الأزهري [ت 370هـ] في كتابه "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص: 52، ط. دار الطلائع): [والغَلَس والغَبَس والغَبَش: بقية الظلام في آخر الليل، ومنه يقال: خرج فلان بغلس، وقد غلَّس إلى حاجته، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الصبح وعليه بقية من ظلمة الليل] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح هذا الحديث في "فتح الباري" (4/ 428-430، ط. مكتبة الغرباء): [والحديث يدل على تغليس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بالفجر؛ فإنه كان يطيل فيها القراءة، ومع هذا فكان ينصرف منها بغلس...
وروى الشافعي حديث أبي برزة رضي الله عنه في كتاب "اختلاف علي وعبد الله": عن ابن علية، عن عوف، عن أبي المنهال، عن أبي برزة رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كان يصلي الصبح، ثم ننصرف وما يعرف الرجل منا جليسه...
والظاهر: أن أبا برزة أراد أن الرجل إنما كان يعرف جليسه إذا تأمل وردد فيه نظره.
ويدل عليه: أحاديث أخر، منها:
حديث قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها: "أنها قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وهو يصلي بالناس صلاة الغداة، وقد أقيمت حين انشق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تتعارف مع ظلمة الليل". خرجه الإمام أحمد.
وهو إخبار عن حال الصلاة دون الانصراف منها.
وروى أبو داود الطيالسي وغيره من رواية حرملة العنبري رضي الله عنه، قال: "أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فصليت معه الغداة، فلما قضى الصلاة نظرت في وجوه القوم، ما أكاد أعرفهم".
وخرج البزار والإسماعيلي من رواية حرب بن سريج، عن محمد بن علي بن حسين، عن محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: "كنا نصلي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الصبح، وما يعرف بعضنا وجه بعض". حرب بن سريج، قال أحمد: ليس به بأس، ووثقه ابن معين. قال أبو حاتم: ليس بقوي؛ منكر عن الثقات.
وفي الباب أحاديث أخر] اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في شرحه على المصابيح "فتح الإله في شرح المشكاة": ["من أجل الغلس" أي: شدة الظلام الذي هو من بقايا ما قبل الفجر، وفي مداومته صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك -كما تقتضيه (كان)؛ نظراً للعرف في استعمالها في مثل ذلك- دليلٌ على أن السنة في الصبح المبادرةُ بها عقب تحقيق طلوع الفجر] اهـ.
وروى الإمام أحمد في "المسند" عن أبي الربيع قال: كنتُ مع ابن عمر رضي الله عنهما في جنازة... فقلتُ له: إِنِّي أُصَلِّي مَعَكَ الصُّبْحَ، ثُمَّ أَلْتَفِتُ فَلَا أَرَى وَجْهَ جَلِيسِي، ثُمَّ أَحْيَانًا تُسْفِرُ؟ قَالَ: "كَذَلِكَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُصَلِّي، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أُصَلِّيَهَا كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا".
وروى ابن ماجه في "المسند" عن مغيث بن سُميٍّ، قال: "صليتُ مع عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما الصبحَ بغلس، فلما سلم أقبلتُ على ابن عمر رضي الله عنهما، فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاتنا كانت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبي بكر، وعمر، فلما طعن عمر، أسفر بها عثمان".
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "صليتُ خلفَه صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الغداة، فقرأ بيونس وهود".
- فعل الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم:
وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الراشدين والصحابة والسلف الصالحين؛ فكانوا يصلون الفجر بغلس، ويأمرون بذلك، ويقرؤون بالسور الطوال والآيات الكثيرة، ومع ذلك فلم تكن تطلع عليهم الشمس في كثير من الأحيان:
فكان سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ربما قرأ في الفجر بسورة البقرة وآل عمران:
فروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما" عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صليت خلف أبي بكر رضي الله عنه الفجر، فاستفتح البقرة فقرأها في ركعتين، فقام عمر رضي الله عنه حين فرغ قال: يغفر الله لك، لقد كادت الشمس تطلع قبل أن تسلم قال: "لو طلعت لألفتنا غير غافلين".
وفي رواية أخرى عند عبد الرزاق: أنه رضي الله عنه استفتح بسورة آل عمران.
ورواه الإمام مالك في "الموطأ" وعبد الرزاق أيضًا عن هشام بن عروة، عن أبيه: "أن أبا بكر رضي الله عنه قرأ بالبقرة في ركعتي الفجر".
وكان سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه يكثر من قراءة سورتي يوسف والحج، ويقرأ بالسور الطوال، وربما قرأ بسورة آل عمران، وكان يأمر بصلاة الفجر بغلسٍ والنجوم مشتبكة، ويوصي بالتطويل فيها وأن تُعطَى نصيبَها من القراءة:
فروى عبد الرزاق في "المصنف" عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أيُّ حينٍ أحبُّ إليك أن أصلي الصبح إمامًا وخَلْوًا؟ قال: "حين ينفجر الفجر الآخر، ثم تطول في القراءة، والركوع، والسجود، حتى تنصرف منها وقد سطع الفجر، وتَتَآمَّ الناس، ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يصليها حين ينفجر الفجر الآخر، وكان يقرأ في إحداهما سورة يوسف".
وروى أيضًا عن أبي العالية قال: كتب عمر رضي الله عنه: "أن صل الصبح إذا طلع الفجر والنجوم مشتبكة بغلس، وأطل القراءة".
وروى الإمام مالك في "الموطأ": عن عمه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: "أن صلِّ الصبحَ والنجومُ باديةٌ مشتبكةٌ، واقرأ فيها بسورتين طويلتين من المفصل".
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" وابن المنذر في "الأوسط" من طريق ابن سيرين قال: أخبرني المهاجر، قال: قرأت كتاب عمر، إلى أبي موسى رضي الله عنهما فيه مواقيت الصلاة، فلما انتهى إلى الفجر، أو قال: إلى الغداة، قال: "قم فيها بسواد، أو بغلس وأطل القراءة".
وروى الحافظ أبو نعيم الفضل بن دُكين في كتاب "الصلاة"، وابن أبي شيبة في "المصنف": عن علي بن عمرو، قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن "صلوا الفجر والكواكب نيرة مشتبكة".
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما" عن عمرو بن ميمون الأودي قال: "إن كنت لأصلي خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفجر، ولو أن ابني مني ثلاثة أذرع ما عرفته حتى يتكلم".
وروى عبد الرزاق أيضًا عن لقيط، أنه سمع ابن الزبير رضي الله عنهما يقول: "كنت أصلي مع عمر رضي الله عنه، ثم أنصرف فلا أعرف وجه صاحبي".
وروى الإمام مالك في "الموطأ" -وعنه الإمام الشافعي في "مسنده"- عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ أنه سمع عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول: "صلينا وراء عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصبح، فقرأ فيها بسورة يوسف وسورة الحج، قراءة بطيئة". فقلت: والله، إذا، لقد كان يقوم حين
الفجر؟ قال: "أجل".
ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما"، ولفظ عبد الرزاق: عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: "ما حفظت سورة يوسف وسورة الحج إلا من عمر رضي الله عنه؛ من كثرة ما كان يقرؤهما في صلاة الفجر"، فقال: "كان يقرؤهما قراءة بطيئة".
وروى عبد الرزاق عن حفصة بنت سيرين: "أن عمر رضي الله عنه قرأ في الفجر بسورة يوسف فتردد، فعاد إلى أولها ثم قرأ فمضى في قراءته".
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" عن ابن الفرافصة، عن أبيه قال: "تعلمت سورة يوسف خلف عمر رضي الله عنه في الصبح".
ورواه الإمام مالك في "الموطأ" ولفظه: "ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان بن عفان رضي الله عنه إياها في الصبح من كثرة ما كان يرددها".
وروى عبد الرزاق عن صفية بنت أبي عبيد: "أن عمر رضي الله عنه قرأ في صلاة الفجر بالكهف ويوسف، أو يوسف وهود، قال: فتردد في يوسف، فلما تردد رجع إلى أول السورة فقرأ، ثم مضى فيها كلها".
وروى ابن أبي شيبة عن زيد بن وهب، "أن عمر رضي الله عنه قرأ في الفجر بالكهف".
وروى عبد الرزاق عن حصين بن سبرة: "أن عمر رضي الله عنه قرأ في الفجر بيوسف، ثم قرأ في الثانية بالنجم؛ فسجد، فقام، فقرأ إذا زلزلت".
وروى عن ابن جريج قال: أخبرني سليمان بن عتيق: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ في الصبح سورة آل عمران".
وروى الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" عن زيد بن وهب قال: "صلى بنا عمر رضي الله عنه صلاة الصبح، فقرأ بني إسرائيل والكهف، حتى جعلت أنظر إلى جُدُر المسجد؛ هل طلعت الشمس؟".
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" عن الأحنف رضي الله عنه قال: "صليت خلف عمر رضي الله عنه الغداة، فقرأ يونس وهود ونحوهما".
وروى حرب الكرماني في "مسائله" عن عبد الله بن شقيق قال: "صليت مَعَ عُمَر رضي الله عنه الغَداة، فقَرأ بيونُس وهود ونَحوِهما".
وروى سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في "المغازي": عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "والصلاة لها وقت شرطه الله، لا تصح الصلاة إلا به: وقت صلاة الفجر حين يزايل الرجل أهله ويحرم على الصائم الطعام والشراب، فأعطوها نصيبها من القراءة".
وكذلك كان يفعل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه:
فروى ابن أبي شيبة في "المصنف" قال: أخبرني عبد الله بن إياس الحنفي، عن أبيه، قال: "كنا نصلي مع عثمان رضي الله عنه الفجر، فننصرف وما يعرف بعضنا وجوه بعض".
وكان سيدنا علي كرم الله وجهه ربما قرأ بسورة الأنبياء:
فأخرج عبد الرزاق في "المصنف" عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: "أمَّنا علي رضي الله عنه في الفجر فقرأ بالأنبياء، فترك آية، ثم قرأ برزخًا ثم عاد إلى الآية فقرأ بها، ثم أعاد إحداثه، ورجع إلى ما كان يقرؤها".
وكذلك كان يفعل سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه مع أهل اليمن:
فروى الإمام البخاري في "الصحيح" عن عمرو بن ميمون: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن، فقرأ في صلاة الصبح سورة النساء، فلما قال: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ قال رجل خلفه: قرت عين أم إبراهيم".
وبذلك عمل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه:
فروى ابن أبي شيبة في "المصنف" قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن حبيب بن شهاب، عن أبيه: "أن أبا موسى رضي الله عنه صلى الفجر بسواد".
وكذلك كان يفعل عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
فروى عبد الرزاق في "المصنف" عن عمرو بن دينار قال: "كنت أصلي مع ابن الزبير رضي الله عنهما الصبح، ثم أذهب إلى أجياد فأقضي حاجتي، حتى يغلس".
ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" عن عمرو بن دينار، ولفظه: "أنه صلى مع ابن الزبير رضي الله عنهما، فكان يغلس بالفجر، فينصرف ولا يعرف بعضنا بعضًا".
وروى عبد الرزاق في "المصنف"، عن معمر، عن أيوب، عن نافع قال: "كان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي مع ابن الزبير رضي الله عنهما الصبح، ثم يرجع إلى منزله مع الصلاة؛ لأن ابن الزبير كان يصلي بليل -أو قال: بغلس-".
وقرأ سعيد بن جبير بسورة الإسراء:
فروى عبد الرزاق في "المصنف" عن عمرو بن يعلى، عن سعيد بن جبير: "أنه أمهم في الفجر، فقرأ بني إسرائيل في ركعتين".
والآثار في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح كثيرة جدًّا.
وعلى ذلك جرى عمل السلف الصالح:
قال الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه حرب الكرماني في "مسائله" (1/ 295، ط. مؤسسة الريان): [قَد كانوا يَستَحِبّون أن يَقرؤوا في الفَجر بِطِوال المفَصَّل، فإن قَرأتَ دون ذلك أجزأك] اهـ.
وجه الدلالة من الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة والسلف الصالح:
وهذه الأحاديث النبوية والآثار عن السلف الصالح تدل على صحة توقيت الفجر المعمول به حاليًّا في الدول الإسلامية، وتدفع قول المشككين فيه، من أوجه متعددة:
الأول: أن صلاة الفجر بغلس إنما تكون إذا بقيت من الليل ظلمة، وهذا إنما يُتَصَوَّر في درجة 19° ونحوها، لا في درجة 14.7°.
الثاني: أن عدم تبين الناس بعضهم بعضًا بعد الانتهاء من صلاة الفجر يقتضي أن ضوء الفجر لم ينتشر بعد، وأن المعول عليه في وقت الفجر هو طلوع شعاع الضوء المستطير في الأفق محاذيًا لظلام الليل، لا انتشاره.
الثالث: أن القراءة في صلاة الفجر بالسور الطوال مع إدراك وقتها -كما في قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما بين المائة إلى الستين في حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه عند مسلم، وبيونس وهود في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة في "المصنف"، وقراءة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالبقرة أو بآل عمران، وقراءة عمر الفاروق رضي الله عنه بيوسف والحج، وقراءة علي كرم الله وجهه بالأنبياء، وغير ذلك- يقتضي طول حصة وقت الفجر على وجه لا يتناسب مع الوقت القصير الذي يدعيه المشككون، وهو ساعة ونحوها نقصانًا أو زيادة.
يقول العلامة عبد الله بن أبي بكر العلوي الحضرمي الشافعي [ت 1265هـ] في كتابه "السيوف البواتر لمن يقدم صلاة الصبح على الفجر الآخر" (ص: 219-220، ط. مركز تريم): [إن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه ممن اختاروا التغليس بصلاة الصبح، وجاءت آثار أيضًا: أن عليه عمل الشيخين، فإذا كان رضي الله عنه ممن اختار التغليس وعليه عملُه، واستغرقت صلاته بالبقرة -التي هي جزآن ونحو الثلث- معظم الوقت، حتى قال له سيدنا عمر رضي الله عنه: كادت الشمس أن تطلع، كانت حصة الفجر قريبًا من ساعة ونصف عند الاعتدال، وتزيد على ذلك بزيادة الليل قليلاً، بل زيادتها في المدينة أكثر من جهتنا، فنحو الساعة: للقراءة، والباقي: لأفعال الصلاة وأقوالها، والأذان والإقامة، وركعتي الفجر.
ويشهد لذلك أيضًا: ما ذكره الشعراوي في "المنهج المبين" بقوله: (وروى مالك، والشافعي، عن عبد الله بن عامر قال: صلينا وراء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرأ فيها سورة يوسف، وسورة الحج، قراءة بطيئة، فقال هشام بن عروة لأبيه: لقد كان إذن يقوم حين يطلع الفجر؟ قال: أجل) انتهى.
فقراءة سيدنا عمر رضي الله عنه ما ذُكر، وهو جزء وثمن، وقول هشام بن عروة لأبيه الراوي له هذا الأثرَ عن عبد الله بن عامر: لقد كان الخ، وجوابه له بأجل: يبين لك أن حصة الفجر نحو ما ذكرنا، وإلا لم يبق للسؤال والجواب المذكورين فائدة؛ لأن قراءة السورتين المذكورتين بالترتيل له: نحو ساعة إلا ربعًا، وللصلاة وما ذكر معها: نحو نصف ساعة، ويبقى: نحو الربع بعد السلام...
ويشهد لضبط الساعة بما ذكرنا: ما رتبه أهل جهتنا من قديم الزمان، من إحياء ما بين العشاءين بصلاة المغرب، ثم قراءة الحزب القرآني، وهو جزءان غالبًا، وبتمامه يدخل وقت العشاء، وقد أخبرني سيدي وخالي العلامة طاهر بن الحسين رحمه الله ونفعنا به أن حزب الصبح، والذي هو جزءان غالبًا كانوا يقرأونه بتريم بمسجد السادة آل باعلوي بعد صلاة الصبح، يبتدئون فيه ويفرغون منه مع الإشراق، وهو شاهد للضبط الذي ذكرنا؛ إذ الحزب المذكور يستغرق نحو الساعة، والصلاة وما ذكر معها وانتظارهم بعد ركعتي الفجر: يستغرق الباقي؛ لأن عادتهم الإتيان بدعاء الفجر المعروف وما ورد من الذكر بعد سنته، فهذا الانتظار مع تطويلهم قراءة صلاة الصبح: يقابل سدس الساعة الزائد على حصة الشفق] اهـ.
نصوص أهل اللغة على اختلاط الفجر الصادق بظلمة آخر الليل في لغة العرب
1- اختلاط الضوء بالظلمة في الفجر الصادق هو المعروف من كلام العرب؛ ولذلك جعلوا ضوء الفجر المتسلل إلى الظلام كضوء الشفق المتبقي من النهار، ومعلوم أن ضوء الشفق ممتزج بالظلمة قطعًا؛ فكذلك يجب أن يكون ضوء الفجر:
قال العلامة أبو علي المرزوقي [ت 421هـ] في "الأزمنة والأمكنة" (ص: 243، ط. دار الكتب العلمية): [قال أبو نصر حكاية عن الأصمعي: الفجر أوّل ضوء تراه من الشّمس في آخر اللّيل، كما أنّ الشّفق آخر ضوء منها في أوّل اللّيل. ويقال: فجر الصّبح يفجر أو فعلت هذا حين انفجر الصّبح وانفلق. وسطع سطوعًا والسّاطع أسنى من الطّالع. يقال: أدلجنا عند الفلق والفرق، وعند الانفلاق، وفي القرآن: ﴿أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾] اهـ.
2- كما نص أهل اللغة على أن الفجر الكاذب والصادق كليهما يأتيان مع سواد الليل، وإنما الفرق بينهما: بقاء الثاني وانتشاره من موضعه، دون الأول:
قال العلامة المرزوقي في "الأزمنة والأمكنة" (ص: 244): [ويقال: صبحٌ مكذّب: وهو عجز اللّيل؛ أي: آخره، وذلك إذا نهض بياضٌ في عجز اللّيل، ثم ينمحي ويندجي عجزُ اللّيل، ثم يمهل ساعة، ثم يظهر شَميطُ الصّبح: وهو بياض في سواد آخر اللّيل، وذلك الصّبح المصدّق، وقال أبو ذؤيب:
شعَفَ الكلابُ الضّارياتُ فؤادَه .. فإذا يرى الصّبحَ المصدّق يفزع] اهـ.
3- ولأجل ذلك سمَّت العرب الفجرَ الصادق بأسماء تدل على شدة امتزاجه واختلاطه بظلمة آخر الليل، ومنها: "الصَّديع"، و"الشَّميط"، و"البَرِيم". وقالوا: "تباشير الصبح"، و"أفراطه".
قال العلامة أبو الحسن العسكري [ت 382] في "المصون في الأدب" (ص: 94، ط. الكويت):
[فلمّا علا سِطَةَ المَضْبَأَيْـ .. ـنِ من ليله الذّنبُ الأَشعلُ
وأطلعَ منه اللَّياح الشَّميـ .. ـطُ حَذواً كما سُلَّت الأَنصُلُ
يصف ثوراً عند أرطاة وكلاباً، يريد: مضْبأَ الثور ومضبأ الكلاب، حيث ضبأ وضبأت، أي لصقت بالأرض، والذنَب الأشعل: يريد آخر الليل من الفجر الأول، واللَّياح: الأبيض، يريد: الصّبح. والشَّميط: ما فيه لونان من ظلمة وضوء] اهـ.
وقال العلامة أبو الحسن بن سيده [ت 458هـ] في "المحكم والمحيط الأعظم" (10/ 272، ط. دار الكتب العلمية): [والبريم: الصبح؛ لِمَا فيه من سواد الليل وبياض النهار، وقيل: بريم الصبح خيطه المختلط بلونين، وكل شيئين اختلطا واجتمعا: بَريم] اهـ.
وجاء في "لسان العرب" للعلامة ابن منظور (7/ 335، ط. دار صادر): [والشميط: الصبح؛ لاختلاط لونيه من الظلمة والبياض، ويقال للصبح: شميط مُوَلَّع، وقيل للصبح: شَمِيطٌ؛ لاختلاط بياض النهار بسواد الليل... قال ابن بري: شاهد الشَّمِيط الصبح: قول البعيث:
وأعجلها عن حاجةٍ لم تَفُهْ بها .. شَمِيطٌ، يُتَلِّي آخرَ الليل، ساطعُ] اهـ.
4- وجاء في الحديث النبوي الشريف الذي رواه الترمذي: "برق الفجر"، ومادة (برق) كما تدل على اللمعان، فإنها تدل أيضًا على اجتماع البياض والسواد:
قال أبو الحسين بن زكريا [ت 395هـ] في "معجم مقاييس اللغة" (1/ 221، ط. دار الفكر): [(برق) الباء والراء والقاف: أصلان تتفرع الفروع منهما:
أحدهما: لمعان الشيء، والآخر: اجتماع السواد والبياض في الشيء، وما بعد ذلك فكله مجاز ومحمول على هذين الأصلين] اهـ.
وقال أبو عمرو الجاحظ [ت 255هـ] في كتاب "البرصان والعرجان" (ص: 303-304، ط. دار الجيل): [وقال الطّرماح "أبرق النّحر"، هو مثل قول عمرو بن معد يكرب:
وكم من غائط من دون سلمى ... قليل البوم ليس بها كتيع
ترى السّرحان مفترشًا يديه ... كأنّ بياضَ لَبَّتِه الصّديع
لأنّ الأبرق يكون سواده مخالطًا للبياض.
والصَّديع: هو الفجر، والفجر مختلط ببياض النّهار ببقيّة سواد اللّيل] اهـ.
5- ونص أهل اللغة من غير خلاف بينهم على أن وقت طلوع الفجر الصادق إلى أول إسفاره هو وقت يختلط فيه الضوء بالظلمة، وأنه ذلك هو وقت صلاة الفجر:
قال الإمام ابن قتيبة [ت 276هـ] في "أدب الكاتب" (ص: 209، ط. مؤسسة الرسالة): [و"السُّدْفَة" الظلمة، و"السُّدْفَة" الضوء، وبعضهم يجعل السدفة: اختلاط الضوء والظلمة، كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار] اهـ.
وقال الإمام أبو منصور الأزهري [ت 370هـ] في "تهذيب اللغة" (12/ 256، ط. دار إحياء التراث العربي): [أَبُو عُبيد عَن أبي زيد: السُّدْفة فِي لُغة تَمِيم: الظُّلْمة. قَالَ: والسُّدْفة فِي لُغَة قيْس: الضَّوْء، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد اليزيديّ..
قال: وَبَعْضهم يَجعل السُّدفةَ: اخْتِلَاط الضَّوء والظُّلمة مَعًا، كوقتِ مَا بَين طُلُوع الْفجْر إِلَى أوّل الْإِسْفَار] اهـ.
وقال الإمام ابن سيده في "المخصص" (4/ 174، ط. دار إحياء التراث العربي): [أبو عبيد: السّدْفة: اختلاطُ الضوء والظلمة معًا، كوقت ما بين صلاة الفجر إلى الإسفار] اهـ.
وقال العلامة الحميري [ت 573هـ] في "شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم" (5/ 3027، ط. دار الفكر): [السُّدْفة: اختلاط الظلمة والضوء معًا، مثل وقت صلاة الصبح] اهـ.
وقد نقل أهل اللغة ذلك في كتبهم معتمدين له من غير خلاف:
كأبي الحسن الهنائي الأزدي "كراع النمل" [ت بعد 309هـ] في كتابه "المنتخب من كلام العرب" (1/ 584، ط. جامعة أم القرى)، والعلامة الفارابي [ت 350هـ] في "معجم ديوان الأدب" (1/ 171، ط. مؤسسة دار الشعب)، والإمام أبي علي القالي [ت 356هـ] في كتاب "الأمالي" (2/ 125، ط. دار الكتب المصرية)، وأبي نصر الجوهري [ت 393هـ] في "الصحاح" (4/ 1372، ط. دار العلم للملايين)، وابن الأثير [ت 606هـ] في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (2/ 355، ط. المكتبة العلمية)، والصغاني [ت 650هـ] في "العباب الزاخر" (ص: 267، حرف الفاء، ط. دار الرشيد)، وابن أبي الحديد [ت 656هـ] في "شرح نهج البلاغة" (7/ 29، ط. عيسى الحلبي)، والعلامة اللغوي المحقق الفيروزابادي [ت 817هـ] في "القاموس المحيط" (ص: 818، ط. مؤسسة الرسالة) وشرحه "تاج العروس" للعلامة الزبيدي [ت 1205هـ]، والإمام السيوطي في "المزهر في علوم اللغة وأنواعها" (1/ 307، ط. دار الكتب العلمية).
واعتمده "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة في "المعجم الوسيط".
وقال الإمام الأزهري أيضًا في "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص: 52، ط. دار الطلائع): [وأما الخيط الأبيض فهو الفجر الثاني، سمي أبيض؛ لانتشار البياض في الأفق معترضًا، وقال أبو دواد الإيادي:
فلما أضاءت لنا سدفةٌ ... ولاح من الصبح خيطٌ أنارا
أراد الفجر الثاني بقوله: خيط أنارا؛ لأنه جعله منيرًا، وقرنه بالسَّدْفة: وهي اختلاط الضوء والظلمة معًا..
والغَلَس والغَبَس والغَبَش: بقية الظلام في آخر الليل، ومنه يقال: خرج فلان بغلس، وقد غلَّس إلى حاجته، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الصبح وعليه بقية من ظلمة الليل] اهـ.
6- وسَمَّت العرب الصبح بأسماء آخر الليل مجازًا؛ إمعانًا في التأكيد على اختلاطه الشديد بظلمة الليل، ومنها: "السَّدَف"، و"الصَّرِيم"، و"الغَلَس" و"الغَبَس" و"الغَبَش"، و"الغَطَاط" و"الغُطَاط"، و"العَسْعَس" و"العَسْعَسة"، ومقصودهم "الفجر الصادق"؛ لأنه هو الذي يُسمَّى عندهم "صبْحًا":
قال العلامة محمد بن المستنير الشهير بقطرب [ت 206هـ] في كتاب "الأزمنة وتلبية الجاهلية" (ص: 51-52، ط. مؤسسة الرسالة): [فأما العسعسُ: ففي معناه العسعسة، وهما: تنفس الصبح، والتنفس: انفضاء الشيء وانصداعه، وقالوا: عسعس الليل عسعسة، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿والليلِ إذا عَسْعَسَ﴾؛ أي: أظلم، وقال بعضهم: عسعس: وَلَّى، وهذا من الأضداد... ثُمَّ الشَّمِيطُ من اللَّيلِ، وكأَنَّهُ عندنا مُشَبَّهٌ بالشيب لبياضِ الفَجْرِ في سَوادِ الليلِ، كالشَّيْبِ في الشعرِ الأسودِ... والصديعُ أيضًا: الصبح... والإسْفارُ: أنْ تُرَى مواقِعُ النَّبْلِ] اهـ.
وقال الإمام ابن قتيبة [ت 276هـ] في "أدب الكاتب" (ص: 209، ط. مؤسسة الرسالة): [و"الصَّريم" الليل، و"الصَّريم" الصبح] اهـ.
وقال العلامة أبو الحسن بن سيده [ت 458هـ] في "المخصَّص" (2/ 390، ط. دار إحياء التراث العربي): [أبو حنيفة: الفجرُ: أولُ ضوءٍ تراه من الصباح، وهما فجران:
الأول منهما: ذنَب السِّرحان، وهو الفجر الكاذب، تراه مستَدِقًّا صاعدًا من غير اعتراض، وهو لا يحرم الطعام ولا الشراب على الصائم.
والآخر: الفجر الصادق، وهو المستعرض، فأما الصبح فلا يقال فيه إلا صبح صادق...
والسَّدَف: أول شيء من الصبح، ويقال للسدف: الغَطَاط والغُطاط، والبَرِيم، والشَّمِيط؛ أي: قد اشتمط في الظلمة، فأنت تراه بياضًا في سواد.
وتباشير الصبح: أول ما يبدوا منه... وتباشير كل شيء أوله... صاحب العين: أفراط الصباح: أوائل تباشيره، الواحد: فَرَط، وأنشد:
باكرتُه قبل الغَطَاط اللُّغَّطِ .. وقبلَ أفراط الصباح الفُرَّطِ
أبو حنيفة: ويقال حينئذٍ: فَتَق الصباحُ، يَفْتُق، فُتُوقًا، وانفتق... فإذا انتشر يمينًا وشمالًا قالوا: لاح الفلَق والفرَق، وقد انفلق وانفرق.. وهو حينئذ: الصَّديع؛ لانصداعه من الليل] اهـ.
وقال الإمام أبو إسحاق بن الأجدابي [ت 650هـ] في "الأزمنة والأنواء" (ص: 106-107، ط. وزارة الأوقاف المغربية): [والفجر: أول ضوء يبدو من الصباح، وهما فجران: فالأول منهما: يسمَّى ذنَبَ السِّرحان؛ لدِقَّته، وهو بياض يُرى في الأفق غيرَ معترض، ويسمَّى الفجرَ الكاذب، وهو لا يحرم على الصائم شيئًا.
وأما الفجر الثاني: فهو البياض المستطير المعترض في الأفق، ويسمَّى الفجر الصادق، وهو الصبح، وبه يحل وقت الصلاة ويحرم الأكل على الصائم.
وأوقات الفجر: السَّدَف، والغَلَس؛ وهما: امتزاج سواد الليل ببياض الصبح، وكذلك الغَبَس، والغَبَش أيضًا، وقد يُعبَّر بالسَّدَف عن الظلام المحض، وكذلك الغبس والغبش؛ تكون هذه الألفاظ من الأضداد.
فإذا انتشر ضياء الفجر وانبسط نوره حتى تظهر الشخوص؛ فذلك الإسفار، ويقال: قد أسفر الصبح إسفارًا؛ إذا غلب ضوؤه على الظلمة، ويقال حينئذ: قد انبلج الصبح انبلاجًا، وانفلق انفلاقًا، وانصدع انصداعًا، والفلق: الصبح، وهو الصَّدِيع أيضًا.
ويسمَّى سواد الليل الخالص: الخيط الأسود، ويسمَّى الممتزجُ منهما: البَرِيم، والشَّميط؛ شُبِّه بشَمَط الشَّعر: وهو اختلاط سواده ببياض الشَّيْب، وأما البريم: فهو خيط يٌفتَل بين خيطين: أحدهما أسود، والآخر أبيض؛ فشُبِّه به ضوءُ الفجر المختلط بالظلمة] اهـ.
7- وعلى هذا المعنى -الدال على اختلاط الفجر الصادق والصبح بظلمة آخر الليل وامتزاجهما بسواده- جاءت استعارات العرب، كما سبق في وصف القرآن العلاقة بين الليل والنهار: بالتنفس، والإيلاج، والتكوير، والسلخ، والطلب الحثيث:
قال الإمام أبو منصور الثعالبي [ت 429هـ] في "فقه اللغة وسر العربية" (ص: 272، ط. دار إحياء التراث العربي): [الفصل الثالث والتسعون: في الاستعارة، ذلك مِن سَنن العرب، هي: أن تستعير للشيء ما يليق به ويضعوا الكلمة مستعارة له من موضع آخر... وكقولهم في ذكر الآثار العُلويَّة: افتَرَّ الصُبْحُ عن نواجِذَهُ، ضَرَبَ بِعَموده، سُلَّ سَيفُ الصُّبْحِ من غِمد الظَّلام، نَعَرَ الصُّبحُ في قفا الليل، باحَ الصُّبحُ بِسرِّهِ.. شابَ رأسُ الليل] اهـ.
النقل الجُمْلي الفعلي المتواتر للمسلمين عبر العصور
وقت صلاة الفجر وعلامته الشرعية أمر معلوم للمسلمين نظرًا وتطبيقًا من العصر النبوي الكريم بالطريق القطعي الصحيح الثابت بيقين عن طريق الوحي الذي طبَّقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطبيقًا معصومًا بسنته الشريفة قولًا وفعلًا صلى الله عليه وآله وسلم؛ من أنه يسبقه الفجر الكاذب الذي يكون ضوؤه في الأفق مستطيلًا، ثم يأتي بعده الفجر الصادق الذي يظهر في الأفق الشرقي تحت سواد الليل خافتًا معترضًا، ويظل يتتابع ويستطير في الأفق حتى يأتي الضياء الواضح المسفر، ثم يأتي بعد ذلك شروق الشمس.
وقد أخذ الصحابة رضي الله عنهم علامة الفجر الصادق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولًا وعملًا، وأيَّدوا هذه العلامة بما نقلوه من سنته صلى الله عليه وآله وسلم من طول حصة الفجر قولًا وعملًا؛ بدءًا بالأذان، ثم الوضوء، ثم ركعتي السنة، ثم الاضطجاع قبل الفجر زمنًا، ثم الصلاة مع طول القراءة فيها غالبًا، ثم الذكر أو القراءة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، مع الإشارة إلى شيء من اختلاف طول هذه الحصة بين الفصول، كما سبق ذلك في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ فنقل الصحابة كل ما يتصل بوقت الفجر: بدايتَه وغايتَه وحصتَه وتغيرَه، وبينوا ذلك للناس قولًا وعملًا، وتناقلته الأجيال عنهم جيلًا بعد جيل، نقلًا قطعيًّا يقينيًّا متواترًا؛ بحيث لا يبقى لأحد فيه شك أو نظر أو اجتهاد، وترجم علماء الفلك المسلمون بعد ذلك هذا النقل بالوسائل العلمية والعملية ترجمة دقيقة مطابقة لِمَا جاء في الموروث المتواتر؛ من عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ظهور التقاويم العلمية والساعات الفلكية والزمنية التي حددت أوقات الصلوات وحققت مناطها على وجه الدقة على يد أهل الذكر من علماء الفلك المسلمين، وذلك كله عن طريق تحقيق المناط فيما نقل متواترًا لا عن طريق الاجتهاد فيه، وعليه قام التقويم الفلكي والمصري القديم والحديث.
وعبادات الإسلام وشعائره المجمَع عليها لم تُنقَل نصوصًا فقط، بل نُقِلَت نقلًا تطبيقيًّا جُمْليًّا مستفيضًا يقطع الشك فيها باليقين، وقد يكون في بعض أحاديثها ونصوصها ما نُقل آحادًا وقد يكون في بعض ألفاظها ما يحتمل في أصل الوضع اللغوي أوجهًا أخرى غير ما جرى عليه العمل والتطبيق، لكن ذلك كله غير منظور إليه في الشرع؛ فإن النقل التفسيري والتواتر التطبيقي الذي جرى عمل المسلمين عليه يقطع كل احتمال، ويُنحِّي كل مقال، وهذا ما يسميه الإمام الشافعي رضي الله عنه: "نقل العامة عن العامة"، ويسميه الإمام أحمد رضي الله عنه: "سُنّة المسلمين"، فكان هذا النقل العملي بعمومه واستفاضته وإطباق المسلمين عليه بمذاهبهم المختلفة وبلدانهم المتباينة مُغنِيًا عن تَطَلُّب أسانيده وتتبُّعِ رُواتِه، وكافًّا عن النظر في ما احتمله من معانٍ لم يعمل بها المسلمون؛ "فالنقل العمليُّ" أقوى مِن أن يُحتاج إلى تَتَبُّع الدليل الجزئي له، وبه احتج السلف والأئمة على كثير مِن مسائل الشريعة المشتهرة المتفق عليها والتي تُغْنِي استفاضتُها وشهرتُها عن تطلُّب الدليل الجزئي لها وتكلُّف آحاد الأسانيد لإثباتها.
وهذا هو الشأن في صلاة الفجر؛ فكما أن وقتها منقول إلينا -على جهة العلم النظري- بنصوص الوحيين القولية والفعلية وآثار السلف وفعلهم، فهو أيضًا منقول بتفسيره العلمي التطبيقي، نقلًا يقطع كل شك في تحديده، ويزيل أي احتمال.
ودعوى الخطأ في هذا التناقل المتواتر والعمل المستمر من أجل أفهام محتملة أو قراءات مختلة لبعض الأحاديث النبوية: فيه اتهامٌ لِمَا اجتمعت عليه الأمة بالخطأ ورمي لها بالوقوع في الضلالة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مخالف لقطعيات الشريعة التي جزمت بأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولم يلتفت المشككون في وقت الفجر إلى هذا المعنى القطعي الذي لا مدفع له، فقدَّموا فهمهم المبتسَر ونظرهم القاصر في بعض النصوص الفقهية على ما تواتر عليه العمل ونقله علماء الأمة وفلكيوها جيلًا بعد جيل، وتغابوا عن أن حمل الحديث على ما عمل به المسلمون عبر القرون وارتضوه شريعة ودينًا أحب عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من حمله على وجه تصير به الأمة متنكبة طريقَ الهدى سالكةً طريقَ الضلالة، فكيف وكل الأوجه التي يتمسكون بها في فهم النصوص المتعلقة بهذه المسألة أوجه ضعيفة لا تثبت أمام البحث العلمي والنظر الصحيح!
وإذا كان الأئمة يحتجُّون ويتمسكون في بعض المسائل بما جرى عليه عمل المسلمين في بعض الأمصار، كمكة المكرمة، والمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، فإن الاحتجاج والتمسك بما أطبقت عليه جماعة المسلمين عبر مختلف الأمصار والأعصار أَوْلَى وأَوْكَد وأوجب وأهدى سبيلًا.
تحديد الفقهاء وقت الفجر بدقة توافق المعمول به ونقل إجماعهم على ذلك
اهتم فقهاء الأمة وعلماؤها ببيان مواقيت الصلوات الخمس، وأوضحوا كيفية الوصول إلى تحديدها بالطرق الكثيرة والوسائل المتعددة، واستفاضوا في ذلك بما لا مزيد عليه، حتى أفردوا ذلك بالتصانيف العديدة والتآليف المفيدة؛ تحقيقًا لأزمانها وإمعانًا في ضبطها، واهتموا في ذلك بإيضاح وقت الفجر، الذي نال من الاهتمام ما لم ينله غيره؛ حيث أوضحوه بالشرح الدقيق المستبين الذي لا مزيد عليه، وفرقوا بين الفجر الصادق والكاذب، وأوضحوا ذلك بشتى الوسائل ومختلف البدائل؛ بدءًا بالوصف المحض لضوء الفجر من غير آلة، كما حدَّدوه بالمنازل، وبالقمر، وبالساعات المستوية والزمنية ودرجاتهما، ومن هذه المصنفات: "اليواقيت في علم المواقيت" للإمام الفقيه الفلكي إبراهيم بن علي الأصبحي الشافعي [ت 667هـ]، و"سراج التوحيد الباهج النور في تمجيد صانع الوجود مقلب الدهور، في معرفة أدلة القبلة والأوقات المشتملات على الصلاة والصيام والفطور" للإمام العارف عبد الله بن أسعد اليافعي [ت 768هـ]، و"الشامل في أدلة القبلة وحساب الروم والمنازل" للعلامة محفوظ بن عبد الرحمن الحضرمي [القرن التاسع الهجري]، و"وسيلة الطلاب لمعرفة أعمال الليل والنهار بطريقة الحساب" و"رسالة في معرفة أوقات الصلاة" للعلامة الفقيه يحيى بن محمد الحطاب الرعيني المالكي [ت 995هـ]، و"غاية المسئول في شرح العشرة الفصول" للعلامة الفلكي المصري يونس بن عبد القادر بن أحمد الرشيدي الشافعي [ت بعد 1020هـ] على رسالة العلامة الفلكي شهاب الدين أحمد بن المجدي [ت 850هـ] في العمل بربع المقنطرات، و"نصب الشرَك لاقتناص ما تشتد إليه الحاجة من علم الفلك" للعلامة عثمان بن أبي بكر العمودي، ألفه سنة 1047هـ، و"وسيلة الطلاب لمعرفة القبلة وأوقات الصلاة لأولي الألباب" للعلامة شاد بن متاك السواحلي الشافعي، ألفه سنة 1058هـ، و"الهداية من الضلالة في معرفة الوقت والقبلة من غير آلة" للعلامة شهاب الدين أحمد بن سلامة القليوبي [ت 1069هـ]، و"الدرة المضية في الأعمال الشمسية" للعلامة الفلكي محمد الأخصاصي المصري الموقت بالأزهر الشريف، و"البراهين النقلية في مسألة الهلال" عن الساعة الفلكية والزمانية وأجزائهما وما تَسعُهُ من القراءة، للعلامة ابن قطنة الحضرمي [1111هـ]، و"سلم العروج إلى معرفة المنازل والبروج" للعلامة الفقيه الحنبلي محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الإحسائي [ت 1164هـ]، "فصوص النصوص الجليات، في أحكام القبلة ومعرفة أدلتها ودخول أوقات الصلوات" للعلامة الإمام حسن بن عبد الرحمن عيديد، ألفه سنة 1176هـ، و"منظومة الفلك" للعلامة شهاب الدين أحمد بن أحمد السّجاعي المصري الشافعي [ت 1197هـ]، وشرحها للعلامة الفقيه الفلكي أبي الحسن علي بن عبد البر الونائي الشافعي [ت 1212هـ]، ومنظومة "المطالب السنية في الفوائد الفلكية" للعلامة الفقيه عمر بن سقاف الصافي الحضرمي [ت 1216هـ]، والعلامة الفقيه عبد الواسع بن يحيى الواسعي [ت 1379هـ] في "زهر الزهور في معرفة الساعات والشهور" و"كنز الثقات في علم الأوقات" وغيرهما.
بل أفرد جماعةٌ من العلماء ميقاتَ الفجر بالتصنيف؛ زيادةً في الإتقان والضبط، وردًّا على من شذ وخرج فيه عن الجادّة، كما صنع الإمام الفقيه عبد الله بن عمر بن أبي بكر بن يحيى العلوي الحضرمي الشافعي [ت 1265هـ] في كتابه "السيوف البواتر لمن يُقدِّم صلاة الصبح على الفجر الآخر"، والعلامة الفقيه عبد الله بن حسين بن عبد الله بلفقيه [ت 1266هـ] في كتابه "السيف البتار لمن يقول بأفضلية تأخير صلاة الصبح إلى الإسفار"، والعلامة الفقيه عيدروس بن أحمد بن شهاب العلوي الحضرمي الشافعي [ت 1290هـ] في كتابه "القول الصادق في بيان الفجر الصادق المعترض وإدحاض كلام المعترض"، وإمام الموقتين في المغرب العلامة الفلكي المغربي الشريف محمد بن محمد العلمي الإدريسي [ت 1373هـ] في كتابه "الفلق، الكاشف لظلمة الفلق، عن حصتي الفجر والشفق"، والعلامة عبد الواسع الواسعي اليمني [ت 1379هـ] في كتابه "الألفاظ الصحيحة في أدلة وقتي المغرب والفجر الصريحة".
وكل الطرق التي سلكها فقهاء المسلمين في تعيين وقت الفجر الصادق تبين بجلاء أنه يدور حول الدرجة 19° ونحوها، وأن توقيته بالدرجة 15° قولٌ شاذٌّ مخالف للإجماع لم يُسبَق إليه أصحابُه أو مروجوه، ولم يقل به أحد من علماء المسلمين أو فقهائهم في القديم ولا في الحديث.
فممن نص على طريقة معرفة الفجر بالرؤية المحضة:
العلامة الفقيه الفلكي إبراهيم بن علي الأصبحي الشافعي اليمني المعروف بابن المبرذع [ت 667هـ]؛ حيث يقول في كتابه "اليواقيت في معرفة المواقيت": [فصل: فإذا أردت معرفة طلوع الفجرين، فانظر إلى الشمس من أين تطلع، فاعرف الموضع الذي تقوم فيه، فإذا كان آخر الليل فانظر إلى تلك الناحية التي طلعت منها الشمس بالأمس، فإذا بقي من الليل مقدار ساعتين على التقريب، ابتدأ بياض مما يلي المشرق الذي أشرقت منه الشمس بالأمس، مرتفع في ربع السماء كأنه عمود، وربما لم ير ذلك إذا كان الجو نقيًّا في الشتاء، وأبين ما يُرى ذلك إذا كان الجو كدرًا في الصيف، ولا يُرى إذا كان قمرًا، فإذا رأيت ذلك فهو الفجر الأول الذي يحل فيه الطعام والشراب والنكاح.
ثم ينحدر إلى ناحية المشرق مما يلي مطلع الشمس مقدار قامتين، وهو مع ذلك مستطيل قائم أعلاه دقيق وأسفله واسع، كأنه ذنب سِرحان -كما جاء في الخبر-، وتحته سواد الليل في أسفل السماء، فبينما هو كذلك، إذ بدأ بياض يشبه الغبار أو الخطوط البيض من تحت ذلك السواد، فإذا رأيته قد غشي السواد وغيَّره فذلك هو الفجر الثاني، ثم لا يلبث أن يختلط في البياض الأول، ويعترض في أسفل السماء، فإذا رأيته كذلك، فقد حرم الطعام والشراب والنكاح وحلت الصلاة] اهـ.
وقال العلامة الفلكي الغازي أحمد باشا مختار [ت 1337هـ] في كتابه "رياض المختار مرآة الميقات والأدوار" (ص: 203، ط. الأميرية 1306هـ): [وقت الفجر: وقت ظهور أول بياض يعقب ختام الليل، وبعبارة أخرى: القصد منها صيرورة خط تلاقي الأفق الشرقي بسطح السماء أبيض؛ بسبب ظهور الفجر، بعدما كان أسود؛ بسبب ظلام الليل] اهـ.
قال العلامة شهاب الدين القليوبي الشافعي [ت 1069هـ] في كتابه "الهداية من الضلالة في معرفة الوقت والقبلة من غير آلة" (ص: 71-72، ط. دار الأقصى): [وقت الصبح... ويدخل وقتها إجماعًا بما ذُكِرَ، أو بتوسط المنزلة التاسعة عشرة من منازل الشمس زمن الصيف وما أُلحِق به كما مر، أو العشرين منها زمنَ الشتاء وما أُلحِق به.
ويخرج بظهور جزء من قرص الشمس على الأفق المرئي بذلك المحل إجماعًا... تنبيهان: أحدهما: أن هذه الأوقات معتبرة في ابتداء الصلاة إجماعًا...] اهـ.
وقال مفتي الديار المصرية الأسبق العلامة المحقق محمد بخيت المطيعي في كتابه "توفيق الرحمن للتوفيق بين ما قاله علماء الهيئة وبين ما جاء في الأحاديث الصحيحة وآيات القرآن" (ص: 168، ط. مطبعة السعادة): [التوفيق بين قول من قال: إن الصبح الكاذب ينعدم وتعقبه ظلمة خالصة، وقول من قال: إنه لا ينعدم:
أن الأول محمول على أنه ينعدم من محله الأول، وينتقل إلى محل آخر؛ فتعقبه ظلمة خالصة في محله الذي انتقل عنه.
ومن قال إنه لا ينعدم: فمراده أن ذات النور لا تنعدم، بل تتحول إلى مكان آخر، ويزداد حتى يصير خطًّا أفقيًّا معترضًا، ويكون حينئذ هو الصبح الثاني.
وهذا هو المعقول؛ لأنه متى كان الصبحان ناشئين من قرص الشمس -وإنما اختلف شكلهما بسبب بعد الشمس وقربها من الأفق، وكون كرة الأرض أصغر من الشمس، وكون ظلها مخروطًا- كان الواقع أن لا ينعدم الضوء بالكلية، وإنما يتحول بقرب الشمس من الأفق من مكان، ويتغير شكله شيئًا فشيئًا حتى يصير خطًّا أفقيًّا معترضًا، بعد أن كان عموديًّا مستطيلًا] اهـ.
إجماع علماء الفلك والهيئة من المسلمين عبر القرون
حرَّر علماء الإسلام الشرعيون والفلكيون أوقات الصلاة بحساباتهم الدقيقة، وأرصادهم المتتابعة، عبر القرون المتطاولة: تحريرًا منقطع النظير؛ بحيث لم يتركوا مزيدًا لمستزيد، ولا طلبًا لمستفيد؛ فإن هذه المواقيت تتعلق بركن الإسلام الأعظم "الصلاة"، التي هي عماد الدين، وقوام الملة، وتفننوا في ذلك تفننًا جعل غيرهم عالة على فوائدهم، وأكلة على موائدهم، وطلبة في معاهدهم.
وقد حرروا وقت الفجر تحريرًا لا مزيد عليه، وجعلوه حينما تكون الشمس تحت الأفق الشرقي ما بين درجتي: 18°، و20°، ولم يدَّع أحد منهم -في قديم الدهر ولا حديثه- درجةً أقل من ثمانية عشر، ولا أكثر من عشرين، ونصوا على أن ذلك هو المعروف بالتجربة والمعلوم بالرصد، وأن كون الفجر الصادق على الدرجة 19° هو الذي اعتمده محققو هذا العلم من الرُّصّاد وغيرهم، وأن ذلك هو المعول عليه والمعمول به، من قديمٍ حتى الآن، وهو الصحيح، ومنهم:
- العلامة أبو الحسن الصوفي [ت 376هـ] في كتاب "العمل بالاصطرلاب" الذي ألفه لعضد الدولة ابن بويه.
- والعلامة البيروني [ت 440هـ] في كتابه "التفهيم لصناعة التنجيم".
- والعلامة نصير الدين الطوسي [ت 672هـ] في كتابه "زبدة الإدراك في هيئة الأفلاك".
- والعلامة قاضي زاده موسى بن محمود الرومي في شرحه على "الملخص في الهيئة البسيطة" للعلامة الجغميني.
- والعلامة البتاني [ت 317هـ] في زيجه المعروف في صناعة عمل الاصطرلاب.
- والعلامة المجاصي في "تذكرة ذوي الألباب في عمل صفة الأسطرلاب".
- والعلامة أبو الحسن بن الشاطر الدمشقي [ت 777هـ] رئيس المؤذنين بالجامع الأموي بدمشق في كتابه "النفع العام في العمل بالربع التام".
- والعلامة جمال الدين المارديني [ت 806هـ] شيخ أهل الهيئة والميقات في مصر في زمنه في كتابه "الدر المنثور في العمل بربع الدستور".
- وسبطه العلامة الفلكي بدر الدين سبط المارديني [ت 912هـ] مؤقت الجامع الأزهر في كتابه "حاوي المختصرات في العمل بربع المقنطرات".
- والعلامة أبو الحسن بن باص الأسلمي صاحب "الأوقات بغرناطة".
- والعلامة أبو إسحاق النقاش الشهير بابن الزرقالة [ت 493هـ] كما في "رسالته في شرح العمل بآلة الزرقالة" التي صنعها لأبي القاسم بن عباد سنة 473هـ، -وعلى ذلك جرى شراح رسالته؛ كأبي الطيب القرطبي، وابن البناء-، وغيرهم كثير وكثير...
وهؤلاء كانوا هم الموقتين لمواقيت صلوات المسلمين عبر القرون في شتى أصقاع الأرض، وعنهم أخذ الغرب كثيرًا من مبادئ علم الفلك.
وما تتضمنه هذه الشائعات المضللة -ويردده البعض جهلًا- من رفض هذا التقويم بدعوى اعتماد أهل مصر فيه على توصية خبير أجنبي غير مسلم في أوائل القرن الميلادي الماضي: لا يعدو أن يكون وهمًا باطلًا، ورجمًا بالظن، وحدسًا لا حقيقة له، وهو إنما نتج عن البعد عن التراث العلمي الفلكي لعلماء المسلمين، والجهل بما كان عليه أهل مصر وغيرهم من بلدان العالم العربي والإسلامي قبل هذه التوصية بقرون، وبعدها بعقود، ولو كلَّف مثيرو هذه الشبهات أنفسهم عناء البحث والنظر لأدركوا أن هذه الدرجة هي التي كانت معتمدة عند علماء الهيئة والفلك بالأزهر الشريف وغيره من منارات العلم في الأمة الإسلامية، نظرًا وتطبيقًا، عند علماء الهيئة والفلك بمصر والأزهر الشريف، ولأدركوا أن العمل في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي كان على ذلك قبل توصية الخبير الأجنبي، واستمر على ذلك بعدها، وأن صاحب التوصية الأجنبي لم يأت ببدع من البحث ولم يخترع رأيًا جديدًا من عند نفسه، بل لم يزد على أن أكَّد ما كان موجودًا بالفعل عند المتخصصين وأهل الهيئة وأصحاب التقاويم! بل أيدوا بذلك رأي علماء الفلك المسلمين المعتمد للدرجة التاسعة عشرة، على رأي علماء الفلك الأوروبيين المعتمد للدرجة الثامنة عشرة.
- والحق أن اعتماد درجة 19 ميقاتًا لأذان الفجر هو عمل أهل مصر قاطبةً منذ سالف الأزمان؛ كما نص عليه رئيس المؤذنين بالجامع الأموي بدمشق العلامة الفلكي علاء الدين أبو الحسن بن الشاطر [ت 777هـ] في كتابه "النفع العام في العمل بالربع التام"، وشيخ أهل الهيئة والميقات في زمنه بالديار المصرية العلامة الفلكي جمال الدين المارديني [ت 809هـ] في كتابه "الدر المنثور في العمل بربع الدستور"، وحفيده الفلكي العلامة مؤقت الجامع الأزهر بدر الدين سبط المارديني [ت 912هـ] في كتابه "حاوي المختصرات في العمل بربع المقنطرات".
يقول الإِمَام الشَّيْخ عَلَاء الدّين أَبُو الْحسن عَليّ الْمَعْرُوف بِابْن الشاطر رَئِيس المؤذنين بالجامع الْأمَوِي بِدِمَشْق [ت 777هـ] في كتابه "النفع العام في العمل بالربع التام" (ص: 247، تحقيق: أسامة فتحي، دار الكتب والوثائق القومية)، الباب السابع والسبعون بعد المائتين: في معرفة وقت صلاة الصبح: [ويدخل وقتها بطلوع الفجر الصادق المعترض ضوؤه دون الفجر الكاذب الذي ضوؤه مستطيلًا ثم ينمحي أثره، وقد رصدت ارتفاع النظير وانحطاط الشمس تحت الأفق في سنين متوالية فوجدته لا يزيد أبدًا عن 20 درجة ولا ينقص عن 18 درجة، وأعتمد على 19 درجة، وذكروا في الرسائل القديمة على أنه 18 درجة، وفيه إسفار. والذي حرره الشيخ أبو علي المراكشي أنه20، وعليه اعتماد أهل مصر في زماننا هذا قاطبة، وذكر البوزجاني والبيروني والنصير الطوسى والمؤيد العرضي أنهم رصدوا هذا الارتفاع فوجدوه 19 درجة، وعليه اعتمدنا] اهـ.
ويقول العلامة الفلكي مؤقت الجامع الأزهر بدر الدين محمد بن محمد سبط المارديني في "حاوي المختصرات" (ق: 27/ أ) في الباب العشرين: "في معرفة وقت العشاء ووقت الفجر": [وقال الشيخ جمال الدين المارديني: وقد امتحنهما بعض حُذّاق المتأخرين في سنين متوالية -يعني الشيخ علاء الدين ابن الشاطر- فوجد الثمانية عشر وقتَ إسفار، والعشرون وقت غلَس، قال: والحق فيهما الزيادة والنقص؛ بحسب العوارض الحادثة، مثل: صفاء الجو وكدورته، وقوة البخار وخفته، وشدة الهواء ورقته، ووجود القمر وغيبوبته، وضعف نظر الراصد وحدته.
والذي اعتمد عليه محققو هذا العلم مِن الرُّصّاد وغيرهم؛ كالنصير الطوسي، والمؤيد العرضي، وأبي الريحان البيروني، وغيرهم من أئمة الرُّصّاد، وتبعهم ابن الغزولي وأبو طاهر وغيرهما: أن الشمس إذا انحطت عن أفق المغرب (يز) غرب الشفق، وإذا صارت منحطة عن أفق المشرق (يط) يطلع الفجر.
قلت: وهذا عليه عامة المؤقتين وأهل هذا العلم؛ من مشايخنا وغيرهم الطبقة التي أدركناها، والطبقة التي قبلها من مشايخ أشياخنا وغيرهم، ولا عبرة بما يفعله بعض من لا دراية له بالصناعة، ولا إلمام له بالعلم وأهله] اهـ.
وقال إمام أهل مصر في علم الفلك في زمنه العلامةُ رضوان بن عبد الله الفلكي المصري الرزاز [ت 1122هـ] في كتابه "دستور أصول علم الميقات ونتيجة النظر في تحرير الأوقات" (ق: 45-46، مخطوط): [الفصل الخامس عشر: في معرفة حصتي الشفق والفجر. الشفق: هو الحمرة التي تبقى في أفق المغرب بعد مغيب الشمس، والفجر: هو البياض المعترض في أفق المشرق آخر الليل؛ أي: الصادق، وهما حادثان من تشبث الأبخرة الصاعدة من الأرض بالأشعة، وقد اختلف فيهما كلام الرُّصّاد، والذي اعتمد عليه محققو هذا العلم: أن الشفق يغيب بانحطاط الشمس تحت الأفق بسبع عشرة درجة من الدائرة المارة بها وبقطبي الأفق، ويطلع الفجر إذا كانت بين الشمس وبين الأفق تسع عشرة درجة من دائرة الارتفاع أيضًا] اهـ.
وقال العلامة الفلكي رمضان بن صالح السفطي الخوانكي [ت 1158هـ] في كتابه "كفاية الطالب لعلم الوقت وبغية الراغب في معرفة الداير وفضله والسمت" (ق: 39-40، مخطوط): [الباب التاسع في معرفة حصتي الشفق والفجر. أما حصة الشفق هي المدة التي بين غروب الشمس ومغيبه عن الأفق الغربي، وهي عن قوس من مدار الشمس فيما بين مركزها والأفق الشرقي حال كونها منحطة عنه بتسع عشرة درجة، والشفق: هو الحمرة التي تبقى في أفق المغرب بعد مغيب الشمس، والفجر: هو البياض المعترض في أفق المشرق آخر الليل] اهـ.
وقال العلامة الفلكي الشيخ حسين زائد الأزهري المصري في كتابه "المطلع السعيد في حسابات الكواكب على الرصد الجديد" (ص: 23، ط. المطبعة البارونية، منتصف شعبان عام 1304هـ، 8 مايو 1887م): [وأما حصة العشاء: فحصل دائر ارتفاع سبعة عشر لنظير درجة الشمس تحصل، وأما حصة الفجر: فهي دائر ارتفاع تسعة عشر لنظير الدرجة أيضًا] اهـ.
وقال العلامة الفلكي عبد الحميد مرسي غيث [ت بعد 1945م] في كتابه "المناهج الحميدية في حسابات النتائج السنوية" (ص: 60، ط. مطبعة السعادة 1923م): [(وأما حصة الفجر) فحصِّلْ دائرَ ارتفاع 19° درجة لنظير درجة الشمس] اهـ.
وقد قرَّظ كتابَه العلامة السيد مصطفى محمد الفلكي [ت بعد 1316هـ/1925م]، كبير الفلكيين في مصر في زمنه، وعضو مجلس نقابة المحامين الشرعيين، منذ إنشائها سنة 1917م، وحتى وفاته سنة 1925م، والمحامي الشرعي أمام المحكمة الشرعية العليا؛ كما في ذكر في الأعداد الأولى من مجلة "المحاماة الشرعية" سنة 1930م، حسبما هو منشور على الرابط:
http://www.mohamoon-montada.com/default.aspx?action=Display&id=281&Type=3
وقال العلامة الفلكي محمد بن عبد الرحمن النابلي في شرحه "فتح المنان" على منظومة "تحفة الإخوان" في علم الميقات للعلامة الميقاتي أحمد قاسم، في "باب معرفة حصة الظهر والعشاء والفجر" (ص: 40، ط. المطبعة الميمنية 1325هـ):
[(ثم للعشا خُذَنْ.
عشرين وقتَ الاعتدال زِدْ لَها .. نصفًا لثُمْنٍ من جنوب ميلِها.
وسُدْسَه في شمْأَلٍ، للفجرِ زِدْ .. ثنتين مع للعشاء واجتهِدْ) أي: زد على الحصة التي بين المغرب والعشاء درجتين؛ فالحاصل حصة الفجر؛ فهي اثنتان وعشرون في زمن الاعتدال] اهـ.
وقد أتم الشيخ العلامة أحمد قاسم منظومة "تحفة الإخوان" سنة 1278هـ؛ كما قال في آخرها (ص: 45):
أبياتها احفظْها ببسط عدِّها .. وعامَها أرِّخْ بغرس وُدِّها
قال شارحُه العلامة النابلي: [أي: أبيات هذه المنظومة ثلاثة وسبعون بيتًا؛ أشار إليها بقوله (ببسط)؛ لأن الباءين بأربعةٍ، والسين بستين، والطاء بتسعة؛ فإذا جمعت هذه الأعداد خرج ما ذُكِرَ، وقوله (وعامَها) أي: عام تأليفها مؤرَّخ بغرس وُدِّها) بضم الواو؛ فعدد هاتين الكلمتين بحساب الجُمَّل: ألفٌ ومائتان وثمان وسبعون] اهـ. وأتم العلامة النابلي شرحه هذا -كما قال في آخره (ص: 46)- يوم السبت لثمان ليال بقين من محرم الحرام فاتح شهور 1279 من الهجرة النبوية.
وكذلك غير أهل مصر:
قال العلامة المحقق إسماعيل بن مصطفى الكلنبوي [ت 1205هـ] في رسالته في "العمل بالربع المجيب" (ق: 13/ أ، مخطوط): [الفصل الثاني: في حصتي الفجر والشفق الأحمر: قد وقع بين القوم اختلاف كثير في وقت طلوع الفجر الصادق ومغيب الشفق الأحمر، والمعتمد عند المحققين: أن الأول عند انحطاط الشمس عن أفق المشرق (يط)؛ أي: تسعة عشر درجة، والثاني: عند انحطاطها عن أفق المغرب (يز)؛ أي: سبعة عشر درجة] اهـ.
قال العلامة المحدِّث الفقيه الفلكي مسند زمانه علم الدين محمد ياسين بن عيسى الفاداني المكي الشافعي في كتابه "المختصر المهذب، في معرفة التواريخ الثلاثة والأوقات والقبلة بالربع المجيب" (ص: 56، ط. محمد صالح الباز الكتبي، مكة المكرمة): [وقت الفجر: يدخل وقت الفجر (الصبح) ببلوغ الشمس تحت الأفق الشرقي قدر 19 درجة، وينتهي بطلوع جزء من الشمس؛ لِمَا رواه مسلم مرفوعًا: «وَوَقْتُ الصُّبْحِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ»] اهـ.
وقال العلامة الفلكي جلول بن محمد حميمد النقاشي المغربي في كتابه "الوسيلة الزكية إلى المطالب الفلكية" (ص: 15-16، ط. المطبعة المهدية، تطوان بالمغرب 1974م): [حصة الشفق والفجر: ولمعرفة حصة الشفق أن نزيد بعد القطر على جيب 17° في الاتفاق وننقصه منه في الاختلاف... وإن زيد على جيب 17° درجتان وكمل العمل: حصلت حصة الفجر..
إلى أن قال: وفي حال الوصول إلى حصة الفجر: استخرجنا جيب ْ19 بقاعدته] اهـ.
وهذا الذي اعتمدته دار الإفتاء المصرية في كل عهودها؛ حيث أقرّت في كل عهودها هذه الدرجة لطلوع الفجر الصادق، وكانت "مصلحة المساحة المصرية" تستفتي دار الإفتاء فيما يطرأ عليها من مشكلات المواقيت؛ فأرسلت للدار مثلًا في 20 ديسمبر سنة 1935م، في عهد المفتي الأسبق فضيلة العلامة الشيخ عبد المجيد سليم، تستفتي في كيفية حساب مواقيت الصلاة والصوم لمدينة جرينتش بإنجلترا؛ مبينة في سؤالها: أن الشفق الأحمر يزول في مصر عندما يبلغ انخفاض الشمس سبع عشرة درجة ونصف الدرجة تحت الأفق، وأن الضوء الأبيض يظهر وقت طلوع الفجر الصادق عندما تكون الشمس تحت الأفق بمقدار تسع عشرة درجة ونصف درجة، فأجابتها دار الإفتاء مقرة ما تعتمده من حساب لمواقيت الصلاة.
دار الإفتاء كانت بالمرصاد لكل من حاول التشكيك في ميقات الفجر المعمول به في مصر والعالم الإسلامي
كانت دار الإفتاء بعد ذلك بالمرصاد لكل من حاول التشكيك في ميقات الفجر المعمول به في مصر والعالم الإسلامي، فكانت الفتاوى تصدر تباعًا في كل آونة تثور فيها هذه الفتنة؛ إبطالًا لشبهاتها، وتأكيدًا على صحة ما عليه عمل المصريين في حصص الصلوات ومواقيتها؛ بدءًا من عهد فضيلة الإمام الأكبر الدكتور جاد الحق، وانتهاء بفضيلة المفتي الحالي الأستاذ الدكتور شوقي علام.
والحق أن دعوى جعل الدرجة 14.7° أو نحوها ميقاتًا للفجر الصادق: هي دعوى في غاية الشذوذ والبطلان؛ إذ إنها تتناقض بشدة مع كل ما جاء من الأحاديث والآثار من طول حصة وقت الفجر، حيث إنها تستند في علامة الفجر الصادق إلى فهم مخالف لِمَا دلت عليه الأدلة الشرعية وتناقلته الأمة بمذاهبها الفقهية ومراصدها الفلكية جيلًا عن جيل على جهة القطع والتواتر عبر القرون.
وهذه الدرجة أكثر شذوذًا من الدرجة 16.5° التي ادعاها الأستاذ/ عبد الملك علي الكليب؛ حيث كتب عام 1975م رسالة إلى وزارة الأوقاف الكويتية يعترض فيها على موعد صلاة الفجر الموجود في التقويم الكويتي الموافق لتقاويم الدول الإسلامية الأخرى، ويدعي أن الزاوية الصحيحة للفجر هي 16.5°!
وكان أن قامت وزارة الأوقاف الكويتية بتحويلها إلى رابطة علماء المغرب، ليرد عليها -في نفس العام- أشهر علماء الفلك والتوقيت في المغرب العلامة الفلكي محمد بن عبد الوهاب بن عبد الرازق الفاسي المراكشي رحمه الله تعالى [ت 1432هـ]، وجاء رده الشرعيّ الفلكيّ في كتابه الماتع "إيضاح القول الحق في مقدار انحطاط الشمس وقت طلوع الفجر وغروب الشفق"؛ الذي حرره أبدع تحرير وحقق المسألة تحقيقًا علميًّا متقَنًا.
وردَّ فيه على صاحب الدعوى: "أن ما اعتمده وما ادّعاه هو مخالف لِمَا عليه أهل الشرع والفلك واللغة في معنى (الفجر)، وفي قدر انحطاط الشمس تحت الأفق وقت طلوعه، حتى على ما نقله عن مرصد جرينتش ومرصد البحرية الأمريكية".
وأكد العلامة الفاسي أن هذا الرأي يُعَدُّ من الخروج عن الإجماع، ومن الشذوذ، ومن مخالفة تحديد الفلكيين الأوربيين والمسلمين.
ثم ساق فيه العشرات من النصوص عن المتخصصين في علم الفلك والمواقيت من علماء المسلمين عبر القرون، وذكر أن الرصَّاد المتأخرين "منهم من قال بأن انحطاط الشمس وقت ابتداء طلوع الفجر يكون عشرين درجة، ومنهم من قال بأنه 19 درجة، وهو الصحيح والمعتمد والممتحن بالرصد في سنين عديدة، والمتفق عليه".
ثم قال في خواتيم كتابه: "وقد اتضح مما ذكرناه من كلام هؤلاء العلماء الفلكيين المقتدى بهم سلفًا وخلفًا أمور:
منها: أن الخلاف الواقع بينهم في قدر انحطاط الشمس تحت الأفق وقت ابتداء طلوع الفجر هو ما بين 18 درجة و20 درجة ليس إلا، وعليه: فمن قال بأن طلوع الفجر إنما يكون وقت انحطاط الشمس تحت الأفق 16 درجة و30 دقيقة فقد خالف إجماع الفلكيين المسلمين والأوربيين، كما خالف إجماع العلماء الشرعيين القائلين إن المعتبر في حِلِّيَّة الصلاة وحرمة الأكل في رمضان هو ابتداء طلوع الفجر لا عموم انتشار الضياء.
ومنها: أن هؤلاء العلماء الفلكيين الشرعيين قالوا: إن المقول بعشرين درجة ضعيف؛ لقلة من قال به من الرُّصّاد، وقالوا: إنهم امتحنوا وقت ابتداء طلوع الفجر، بأرصادهم المتوالية، في سنين عديدة، فوجدوا انحطاط الشمس إذ ذاك 19 درجة ليس إلا، وقالوا: إن هذا هو المعتمد والصحيح، وهو الذي وقع عليه الاتفاق.
وعليه: فمن بنى صومه أو صلاته على أن انحطاط الشمس تحت الأفق وقت ابتداء طلوع الفجر 19 درجة فقد فعل ما هو واجب عليه وصح صومه وصلاته؛ لأنه اقتدى بعلماء فلكيين شرعيين ثقات مخلصين، وهم المؤسسون للعلوم الفلكية والمخترعون للآلات الرصدية القطعية، وبأفكارهم وتحقيقاتهم يتمشى العالم اليوم".
ثم قال: "وهذا هو الذي حرره علماؤنا الثقات المقتدَى بهم سلفًا وخلفًا، فمن اتبعه من غير زيادة ولا نقص فقد أدَّى واجبه على أحسن حال، وصحت صلاته وصيامه، وبرئت منهما ذمتُه، ومن خالف ذلك فقد خالف ما أمره به الشرع الإسلامي، وخالف ما حرره علماؤنا العظماء، وكان معدودًا من الخارجين عما حدده أهل الشرع والهيئة، وكان من المنحرفين عن المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها".
ثم أثار ذلك البحث بلبلة في مصر عن طريق بعض الجماعات، فخرجت في ذلك الفتوى القاطعة من دار الإفتاء المصرية، في عهد مفتي الديار المصرية آنذاك فضيلة الشيخ/ جاد الحق علي جاد الحق، برقم 311 وتاريخ: 21/ 11/ 1981م، وصدرت في شكل بيان بعنوان "بيان للناس في شأن الشبهات حول حساب مواقيت الصلاة"، وجاء فيه: [أنه استفسر كثير من المواطنين من دار الإفتاء عما أثارته بعض الجماعات من أن وقت صلاة الفجر بالحساب الفلكي المعمول به في مصر متقدم بنحو العشرين من الدقائق عن دخول الوقت الشرعي بطلوع الفجر الصادق حسب علاماته الشرعية، وأن انتهاء وقت المغرب ودخول وقت العشاء بذات الحساب غير صحيح أيضا؛ إذ لا يطابق كل هذا ما جاء في السنة، وأن بعض هذه الجماعات قد ضللت الناس وأثارت الشك في عبادتهم لا سيما في شهر رمضان، فقد أفتوا بامتداد الإفطار إلى إسفار النهار وظهوره متجاوزين وقت الفجر المحدد حسابيًّا،... -ولذلك- فقد عرض المفتي أمر الحساب الفلكي لمواقيت الصلاة الذي تصدره هيئة المساحة المصرية في تقويمها الرسمي على لجنة من الأساتذة المتخصصين في علوم الفلك والأرصاد والحسابات الفلكية بأكاديمية البحث العلمي وجامعتي الأزهر والقاهرة وهيئة المساحة المصرية لإبداء الرأي العلمي؛ لمقارنة المواقيت الشرعية على المواقيت الحسابية الجارية، وشارك في الفحص السيد رئيس مجلس إدارة بنك دبي الإسلامي -وقد كان واحدًا من أولئك الذين أرسلوا لدار الإفتاء تقريرًا عن عدم صحة الحسابات المعمول بها في مصر لأوقات الصلاة خاصة صلاتي العشاء والفجر-، وقد تقدمت هذه اللجنة بتقريرها الذي انتهت فيه بعد البحث إلى أن: الأسلوب المتبع في حساب مواقيت الصلاة في جمهورية مصر العربية يتفق من الناحية الشرعية والفلكية مع رأي قدامى علماء الفلك المسلمين.
وتأكيدًا لهذا: اقترحت اللجنة تشكيل لجنة علمية، توالي الرصد والمطابقة مع المواقيت الشرعية، في فترات مختلفة من العام، ولمدة عامين، ولَمّا كان هذا الاقتراح جديرًا بالأخذ به؛ استيثاقًا لمواقيت العبادة في الصلاة والصوم، وأخذًا بما فتح الله به على الإنسان من علم -سبحانه علم الإنسان ما لم يعلم- فقد تبادل المفتي الرأي مع السيد الأستاذ الوزير الدكتور إبراهيم بدران، رئيس أكاديمية البحث العلمي؛ لتشكيل اللجنة المقترحة، وتحديد مهمتها العلمية، وتيسير ما تتطلبه أبحاثها في الجهات التابعة للأكاديمية، وتم الاتفاق على كل الخطوات بتوفيق من الله.
والمفتي إذ يبين ذلك للمواطنين جميعًا، إنما يؤكد لهم صحة المواقيت الحسابية للصلاة وشرعية العمل بها والالتزام والوقوف عندها في الصوم والصلاة مع مراعاة الفروق الحسابية للمواقيت التي تختلف من مكان إلى مكان؛ إذ بذلك تكون المواقيت الحسابية موافقة للمواقيت الشرعية التي نزل بها جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعلامات الطبيعية الواردة في الأحاديث الشريفة التي رواها أصحاب السنن في كتاب مواقيت الصلاة، أما هؤلاء الذين ينظرون إلى الخيط الأبيض والخيط الأسود لتحديد وقت الفجر وبدء الصوم فقد سبقهم إلى هذا أعرابي في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم... وسمي الفجر خيطًا؛ لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدًا كالخيط، وقد أوضح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علامة الفجر الصادق في أحاديث المواقيت المشار إليها، وعليها يجري حساب المواقيت بالدقة التامة التي أكدها تقرير اللجنة العلمية التي عهد إليها بالفحص، وبعد فإن على هؤلاء الذين يقولون في الدين بغير علم أن يتقوا الله حتى لا يضلوا الناس في دينهم. ولقد حذر الله سبحانه هؤلاء القائلين في دينه بغير علم، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۞ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 168، 169]، وبين هذا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الزهري عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: "سمع النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قومًا يتمارون في القرآن، فقال: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا؛ ضَرَبُوا كِتَابَ اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ». على هؤلاء ألا يلبسوا الدين بأغراض أخرى يبتغونها، لا يريدون بها وجه الله ولا إقامة دينه، فإن الحق أحق أن يتبع: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۞ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 42، 43] اهـ نص الفتوى.
كما قام فضيلته، بالرد على هذا البحث، بجريدة الأخبار في عددها الصادر بتاريخ: 16/ 11/ 1981م، تحت عنوان "حساب مواقيت الصلاة يتفق شرعيًّا وفلكيًّا مع رأي قدامَى علماء الفلك المسلمين"، وقد نشر هذا الرد بعد ذلك في كتاب "من فتاوى فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق"، هدية مجلة الأزهر، رمضان 1410هـ؛ حيث تناول بالرد "المذكرة الصادرة باسم السيد/ عبد الملك علي الكليب، في شأن مواقيت الصلاة خاصة الفجر والعشاء، والتي تتداولها الجماعة السلفية"؛ مبينًا بكل وضوح وجلاء: أن هذا القول "قول عارٍ عن الدليل الصحيح؛ فلا يُلتَفَتُ إليه"، وأنه: "قد سبق عرض مثل هذا البحث على لجنة تحقيق مواقيت الصلاة بأكاديمية البحث العلمي، وتقرر رفضه لعدم صحته"، وأن "المواقيت الحسابية لمواقيت الصلوات الخمس التي تصدر عن مصلحة المساحة المصرية موافقة للمواقيت الشرعية التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكان ما يثيره بعض الناس من مخالفة هذه الحسابات للمواقيت الشرعية دون دليل أو سند مقبول من النصوص الشرعية، ولا من المتخصصين في الفلك وحساباته"، "ومن ثم يتعين على المسلمين الالتزامُ بالمواقيت الحسابية المصرية في نطاق إقليم جمهورية مصر العربية والالتفات عما سواها وعما يثيره أولئك الذين لم يقدموا دليلًا علميًّا أو شرعيًّا صحيحًا على ادعائهم، وأنصح هؤلاء أن يكفوا عن إثارة وتشكيك الناس في مواقيت الصلاة واختلاق قضايا لا أساس لها ويشغلون المسلمين بها".
انظر: كتاب "من فتاوى فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق" (ص: 120، 124، 125، ط. هدية مجلة الأزهر، رمضان 1410هـ).
وقام بالرد على هذه الدعوى أيضًا: فضيلة الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي، في جريدة "النور" تحت عنوان: "قبل أن يستفحل الخطر يجب مواجهة هذه البدعة".
ورد عليها من أهل التخصص الفلكي: الأستاذ الدكتور محمد جمال الفندي، عضو مجمع البحوث الإسلامية، والأستاذ بكلية العلوم بجامعة القاهرة، وعالم الفلك المشهور، وبين أن اعتبار الفجر ابتداءً من وجود الشمس تحت الأفق بمقدار 30ﹶ: 16° ليس سليمًا، وأنه من اللازم أن يؤذن للفجر عندما تكون الشمس تحت الأفق بمقدار 33ﹶ: 19°؛ وذلك حسبما جاء في المرجع السابق (ص: 128).
ورد عليها أيضًا من الفلكيين المختصصين: الأستاذ الدكتور أحمد إسماعيل خليفة، الأستاذ بكلية الهندسة بجامعة الأزهر، محذِّرًا أن تبنى نتيجة هامة وخطيرة يترتب عليها تغيير مواقيت صلاة الفجر للمسلمين كافة بمثل هذه التجارب والأرصاد الفردية، التي تعتريها شوائب الجو وموانع الرؤية؛ كما جاء في المرجع السابق (ص: 130-131).
وبعد نحو شهر ونصف من صدور الفتوى، واقتراح تشكيل اللجنة، واتفاق فضيلة المفتي الشيخ جاد الحق مع رئيس أكاديمية البحث العلمي آنذاك على كل خطوات إنشائها، وتحديد مهمتها العلمية والإجرائية، وتيسير متطلباتها البحثية، صدر قرار بتعيين فضيلة المفتي الشيخ جاد الحق رحمه الله وزيرًا للأوقاف بتاريخ: 4 يناير 1982م، ليحل محلَّه فضيلة الشيخ/ عبد اللطيف عبد الغني حمزة، مفتيًا للديار المصرية.
وتم تشكيل هذه اللجنة العلمية بأكاديمية البحث العلمي لموالاة الرصد والمطابقة مع الواقع في فترات مختلفة من العام؛ تحقيقًا لمواقيت الصلاة. ومُثِّلَتْ فيها الجهات المتخصصة: من "الهيئة المصرية العامة للمساحة"، و"معهد الأرصاد الفلكية" بحلوان، و"قسم الفلك بكلية علوم القاهرة" و"قسم المساحة والفلك بجامعة الأزهر"، و"دار الإفتاء المصرية"، وكلفت اللجنةُ فريقًا من معهد الأرصاد، ومندوبًا شرعيًّا ممثلًا لدار الإفتاء، هو الأستاذ القاضي/ محمد حسن؛ ليكون مسؤولًا عن التحديد الشرعي لغياب الشفق الأحمر لتحديد وقت العشاء، وبدء ظهور الضوء الأبيض المنتشر عرضًا في الأفق لتحديد وقت الفجر.
وبعد تشكيل لجنة "تحقيق مواقيت الصلاة"، وقبل انتهائها من مهمتها، صدرت عن دار الإفتاء المصرية، في عهد فضيلة المفتي عبد اللطيف حمزة: الفتوى رقم 227 لسنة 1983م، مؤكدة اتفاق المواقيت الرسمية للصلاة شرعًا وفلكًا مع الموروث الفلكي عند علماء المسلمين، وأشارت إلى استمرار عمل اللجنة، وأفادت:
"بأن الأسلوب المتبع في حساب مواقيت الصلاة في جمهورية مصر العربية يتفق من الناحية الشرعية والفلكية مع رأي قدامى علماء الفلك المسلمين؛ وتأكيدًا لذلك شُكِّلَت لجنة لتحقيق مواقيت الصلاة بأكاديمية البحث العلمي، ولم تنته من مهمتها بعد" اهـ.
ثم وافى سعادة القاضي/ محمد حسن، المندوب الشرعي لدار الإفتاء المصرية، اللجنة بنتائج أرصاده التي أجراها بالعين المجردة، في الفترة من شهر أغسطس سنة 1984م، وحتى مارس 1985م، والتي تطابقت حسابيًّا مع حسابات الهيئة المصرية العامة للمساحة في صلاتي العشاء والفجر، والتي تتم على أساس تحديد وقت العشاء عند انخفاض مركز الشمس 30ﹶ: 17° درجة تحت الأفق الغربي، وانخفاض مركز الشمس 30ﹶ: 19° درجة تحت الأفق الشرقي في الفجر، وذلك حسبما جاء في خطاب رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للمساحة: السيد المهندس/ محمد مسعد علي إبراهيم، إلى دار الإفتاء المصرية.
وبتاريخ: 28 أكتوبر 1986م، عُيِّن فضيلة الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي مفتيًا للديار المصرية، خلفًا لفضيلة الشيخ عبد اللطيف حمزة الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى في 19 سبتمبر 1985م. وكانت لجنة "تحقيق مواقيت الصلاة" قد أتمت مهمتها، فصدرت الفتوى في عهد فضيلته جازمةً بالمواقيت من غير تعليق على أبحاث؛ لتحقق المطابقة الشرعية والفلكية التامة لمواقيت الصلاة التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للمساحة، وذلك برقم 13 وتاريخ: 13/12/1987م، والتي جاء فيها: [سبق لدار الإفتاء أن بحثت هذا الموضوع مع السادة العلماء والمتخصصين في هذا الشأن، ومرفق صورة من الفتوى الصادرة في هذا الشأن وانتهت إلى أن: الأسلوب المتبع في حساب مواقيت الصلاة في مصر يتفق من الناحية الشرعية والفلكية مع رأي قدامى علماء الفلك المسلمين، ونحن نرى صحة المواقيت الحسابية التي وافتنا بها هيئة المساحة المصرية للصلاة وشرعية العمل بها؛ وذلك لأن علماء الفلك هم المتخصصون في هذا الشأن وهم من الذين أشار إليهم القرآن في قوله تعالى: ﴿فَاسألُواْ أَهلَ ٱلذِّكرِ إِن كُنتُم لَا تَعلَمُونَ﴾، ونحن من جانبنا ننصح الأخ السائل وغيره بعدم التشكك متى جاء الأمر من جهة رسمية وفنية قد بنت أحكامها على أسس علمية سليمة، ولا داعي للتشكيك في صحة ما أوردته هيئة المساحة المصرية في هذا الشأن فهي أولًا وأخيرًا المسؤولة عما يصدر عنها] اهـ.
وهذا ما أكدته أيضًا الفتوى رقم 37 الصادرة في سنة 1990م، والتي أشارت إلى تقرير اللجنة العلمية المتخصصة الذي قطع شك المتشككين في صحة مواقيت الصلاة بقولها: [عرضت دار الإفتاء أمر الحساب الفلكي لمواقيت الصلاة الذي تصدره هيئة المساحة المصرية في تقويمها الرسمي على لجنة من الأساتذة المتخصصين في علوم الفلك والأرصاد والحسابات الفلكية بأكاديمية البحث العلمي وجامعتي الأزهر والقاهرة وهيئة المساحة المصرية لإبداء الرأي العلمي لمقارنة المواقيت الشرعية على المواقيت الحسابية الجارية.
وقد تقدمت هذه اللجنة بتقريرها الذي انتهت فيه بعد البحث إلى أن الأسلوب المتبع في حساب مواقيت الصلاة في جمهورية مصر العربية يتفق من الناحية الشرعية والفلكية مع رأي قدامى علماء الفلك المسلمين..
وقد أوضح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علامة الفجر الصادق في أحاديث المواقيت المشار إليها، وعليها يجري حساب المواقيت بالدقة البالغة التي أكدها تقرير اللجنة العلمية التي عهد إليها بالفحص.
ودار الإفتاء إذ تبين ذلك للمواطنين جميعًا إنما تؤكد لهم صحة المواقيت الحسابية للصلاة وشرعية العمل بها والالتزام والوقوف عندها في الصوم والصلاة، مع مراعاة الفروق الحسابية للمواقيت التي تختلف من مكان إلى آخر؛ إذ بذلك تكون المواقيت الحسابية موافقة للمواقيت الشرعية التي تنزل بها جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعلامات الطبيعية الواردة في الأحاديث الشريفة التي رواها أصحاب السنن في كتاب مواقيت الصلاة.
وعلى هؤلاء الذين يقولون في الدين بغير علم أن يتقوا الله حتى لا يضلوا الناس في دينهم، وأن لا يلبسوا الدين بأغراض أخرى يبتغونها لا يريدون بها وجه الله ولا إقامة دينه] اهـ.
وبتاريخ: 11 نوفمبر 1996م، عُين فضيلة الأستاذ الدكتور نصر فريد واصل، مفتيًا للديار المصرية، خلفًا لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي، الذي صار شيخًا للأزهر الشريف. وفي عهد فضيلة الدكتور نصر واصل أثير هذا الموضوع مرة أخرى في الصحف والمجلات، فأعيد نشر البحث في "مجلة الأزهر" في عددها الصادر في شوال 1417هـ، بعنوان "تصحيح وقت أذان الفجر"، ثم كتب بذلك مقال في جريدة "الأهرام"، بتاريخ: 21/ 3/ 1997م.
وردًّا على ذلك أصدرت دار الإفتاء المصرية فتويين: برقم 178 ورقم 210 لسنة 1997م، أكدت فيهما -بعد مناقشة الموضوع مناقشة علمية مستفيضة- أنه استقر رأي جميع العلماء والخبراء المختصين وأهل الرأي المعنيين بتحديد وقتي العشاء والفجر "على العمل بالتوقيت المعمول به حاليًّا وهو صحيح شرعًا".
ولمزيد التأكيد والاطمئنان أشارت الفتويان إلى أنه تم الاتفاق على تشكيل "لجنة مخصصة من الجهات الآتية وهي: الهيئة العامة للمساحة، والمعهد القومي للبحوث الفلكية والجوفيزيقية، وأساتذة الفلك بكلية العلوم بجامعة القاهرة، وأساتذة الفلك بكلية العلوم بجامعة الأزهر، تقوم بعمل دراسة مستفيضة كاملة في مدة محددة تتوافر فيها جميع فصول السنة، تنتهي بعدها من عمل تقويم جديد حسب ما يظهر لها في نهاية الأمر، على أن يكون توقيتها ملزمًا لجميع أفراد الدولة.
وبناء على ذلك: يجب العمل الآن بالتوقيت المعمول به الخاص بصلاتي الفجر والعشاء حتى تضع اللجنة المكلفة تقريرها المشار إليه" اهـ.
وشُكِّلَت اللجنة العلمية التي مُثِّلَت فيها الجهاتُ المتخصصة المعنية بالأمر، واجتمعت اللجنة بدار الإفتاء المصرية، وأصدرت بناءً على ذلك بيانًا للرد على هذه التشكيكات بتاريخ: 7/ 4/ 1997م؛ جاء فيه: [فبناءً على ما نُشِر "بمجلة الأزهر" في عددها الصادر في شوال سنة 1417هـ عن بحث الأستاذ عبد الملك علي الكليب، بعنوان "تصحيح وقت أذان الفجر".
هذا الموضوع كان محل بحث جادٍّ منذ عام 1981م، وقد تشكلت لجنة آنذاك بأكاديمية البحث العلمي لتحقيق مواقيت الصلاة؛ مثلت فيها الجهات المتخصصة: من "الهيئة المصرية العامة للمساحة" وهي الجهة المسؤولة عن حساب وإصدار مواقيت الصلاة؛ طبقًا للقرار الجمهوري رقم 827 لسنة 1975م، والمعدل بالقرار الجمهوري رقم 328 لسنة 1983م، وكذا "معهد الأرصاد الفلكية" بحلوان، و"قسم الفلك بكلية علوم القاهرة" و"قسم المساحة والفلك بجامعة الأزهر"، و"دار الإفتاء".
وقد كلفت اللجنة فريقًا من معهد الأرصاد ومندوبًا شرعيًّا ممثلًا لدار الإفتاء يكون مسئولًا عن التحديد الشرعي لغياب الشفق الأحمر لتحديد وقت العشاء، وبدء ظهور الضوء الأبيض المنتشر عرضًا في الأفق لتحديد وقت الفجر.
وقد وافى القاضي الأستاذ/ محمد حسن، اللجنة بنتائج أرصاده التي أجراها بالعين المجردة، في الفترة من أغسطس سنة 1984م، وحتى مارس 1985م، والتي تطابقت حسابيًّا مع حسابات الهيئة المصرية العامة للمساحة في صلاتي العشاء والفجر.
كما قام بالرد على الناشر: فضيلة المرحوم الشيخ/ جاد الحق علي جاد الحق، مفتي الجمهورية -وقتئذٍ- بجريدة "الأخبار" في عددها الصادر 16/ 11/ 1981م، تحت مقال: (حساب مواقيت الصلاة يتفق شرعيًّا وفلكيًّا مع رأي قدامَى علماء الفلك المسلمين)، ومما جاء فيه تحت عنوان "صحة المواقيت الشرعية":
"والمفتي إذ يبين ذلك للمواطنين جميعًا، إنما يؤكد لهم صحة المواقيت الحسابية للصلاة وشرعية العمل بها والالتزام والوقوف عندها في الصوم والصلاة، مع مراعاة الفروق الحسابية للمواقيت التي تختلف من مكان إلى مكان؛ إذ بذلك تكون المواقيت الحسابية موافقة للمواقيت الشرعية التي نزل بها جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
وقد قام بالرد أيضًا على هذا الموضوع في حينه: فضيلة الدكتور/ محمد سيد طنطاوي، في جريدة "النور"، تحت مقال: (قبل أن يستفحل الخطر يجب مواجهة هذه البدعة).
وكان لزامًا على دار الإفتاء المصرية، وحرصًا منها على استتباب عقيدة المسلمين، الاتصالُ "بالهيئة المصرية العامة للمساحة"، و"المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية"، و"قسم الفلك بكلية العلوم جامعة الأزهر"؛ لأخذ الرأي في هذا الأمر. وعلى أثر ذلك اجتمعت اللجنة يوم الاثنين الموافق 7/ 4/ 1997م، بدار الإفتاء المصرية، مشكلة من السادة:
1- أ. د/ نصر فريد واصل، مفتي جمهورية مصر العربية.
2- أ. د/ عبد الفتاح عبد العال جلال، نائب رئيس المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية.
3- أ. د/ محمد بهجت شعراوي، رئيس قسم الفلك بجامعة الأزهر.
4- أ. د/ أحمد خليفة.
5- أ. د/ محمد المليجي.
6- أ. د/ حسن مصيلحي.
وخلصت اللجنة إلى أن هذه النتيجة "لا يمكن الأخذ بها ولا تعميمها، وهذا ما أكده المرصد الملكي البريطاني بجرينتش في رده على رسالة الباحث بتاريخ: 23 يناير 1974م.
ونظرًا لأن العبادات لا تُبنَى على الشك، بل على اليقين، واليقين لا يزول بالشك، وعلى ذلك: فيبقى الأمر بالنسبة لتحديد مواقيت الصلاة على ما هو عليه الآن؛ لأن هذا هو المؤكد والمعمول به. ولا يمكن إزالة هذا اليقين وتغييره إلا بيقين مثله أو أقوى منه، وحتى يأتي ذلك من دراسة علمية متخصصة مؤكدة ومستفيضة ومجمع عليها، فيبقى الحال على ما هو عليه. اهـ.
وردت "الهيئة المصرية العامة للمساحة" على هذا البحث في خطابها إلى دار الإفتاء المصرية، الذي أرسله رئيس مجلس إدارة الهيئة: المهندس/ محمد مسعد علي إبراهيم، ومما جاء فيه:
"البحث المنشور للسيد عبد الملك علي الكليب عبارة عن رصدة واحدة فقط أُجريت في الحرم المكي؛ حيث الأفق الشرقي غير مكشوف؛ لوجود جبل أبي قُبيس، ولم يذكر شيئًا عن درجة تلوث الهواء والرطوبة، كما أن الضوء الصناعي بالحرم يكون دائمًا شديدًا؛ مما يؤثر على النتيجة، وبالرغم من ذلك فقد ذكر الباحث أنه رصد أول ظهور الضوء لوقت الفجر عندما كان ارتفاع الضوء 15° فوق الأفق؛ أي: أن الباحث لم ير الضوء في المساحة من الأفق: من زاوية ارتفاع صفر – إلى زاوية ارتفاع 15°.
وقد استغرق الضوء بداهةً فترة زمنية من صفر إلى 15° لم يأخذها الباحث في الاعتبار. فإذا أخذناها في الاعتبار: فإن درجة انخفاض مركز الشمس عن الأفق لا يكون 30ﹶ: 16° كما ذكر الباحث، بل يكون بداهةً أكبر من ذلك، ويصل تقريبًا إلى 30ﹶ: 19° التي هي أساس حساباتنا.
وعلى هذا: فهو -من حيث لا يقصد- أثبت صحة الأساس الذي يجري العمل به حاليًّا لحساب وقت صلاة الفجر.
ولعل أهم أسباب الخلاف في تحديد وقت صلاة الفجر: تلوث الهواء في كثير من الأماكن وخاصة في المدن؛ حيث التلوث الصناعي، وفي أماكن استخراج البترول، وفي حالة زيادة نسبة رطوبة الهواء، أو وجود الأتربة العالقة بالجو؛ الأمر الذي يترتب عليه عدم رؤية أول شعاع الضوء، ولا يُرى ضوء الفجر إلا بعد أن ينتشر ويعلو فوق الطبقة الملوثة القريبة من الأفق.
ما ذكره الباحث تحت عنوان (الفجر في علم الفلك والملاحة والعلوم الجوية) لا يفيد؛ لأنها لا تتمشى مع التحديد الفقهي لوقت صلاة الفجر، وتحديدهم لها إلى ثلاثة أقسام لا ينطبق أيها بدقة على صلاة الفجر، وإن كان أقربُها للفجر: هو الشفق الفلكي الذي يُحدَّد بوجود مركز الشمس 18° تحت الأفق.
وجدير بالذكر أن قُدامى علماء الفلك المسلمين كانت لهم آراء مختلفة في هذا الأمر، ونذكر على سبيل المثال: ما ذكره فضيلة المرحوم الشيخ أبو العلا البنا، أستاذ الشريعة والفلك في كتابه "المذكرات في علم الهيئة والميقات"؛ حيث ذكر أن الإمام ابن الشاطر ومن تبعه؛ كالنصير الطوسي، والمؤيد العرضي، وابن ريحان البيروني، وغيرهم، يرون أن وقت الإسفار يوجد عندما تكون الشمس تحت الأفق بمقدار 18°، أما وقت الغلس فيكون عندما تكون الشمس 20°، غير أنهم قالوا: الحق أنه يختلف بالنسبة لعرض المحل، وصفاء الهواء وكدرته، وكثرة البخار وقلته، ووجود القمر وغيبوبته، وضعف البصر وحدته. إلى أن قال: إن الذي اعتمد عليه محققو هذا العلم، وعليه عامة الموقتين الآن: أن الشفق الأحمر يغيب في 17° ويدخل وقت العشاء، ويشرق الشفق الأبيض في 19° فيبتدئ وقت الفجر.
مما يؤكد صحة حسابات وقت صلاة الفجر الذي يصدر عن "الهيئة المصرية العامة للمساحة"، بالإضافة إلى المواقيت الأخرى" اهـ.
ورد على هذه الدعوى من المتخصصين أيضًا:
الأستاذة الدكتورة مرفت السيد عوض، أستاذة الفلك وعلوم الفضاء بكلية العلوم بجامعة القاهرة، ردًّا علميًّا بمقال نُشِرَ في مجلة الأزهر، عدد ذي الحجة 1417هـ، الموافق لشهر إبريل 1997م، تحت عنوان: "الفجر الصحيح وترشيد التصحيح"؛ حيث بينت ما في هذا الرأي من افتقاد الدقة، وأنه يعوزه معرفة طرق الرصد العلمية في مثل هذا الشأن الهام، وأن البحث مليء بالمغالطات والأخطاء التي يدعي صاحبُها أنها حقائق علمية، مؤكدة أن الله تعالى "حدد لنا وقت بداية الفجر تحديدًا لا يقبل في تفسيره أي لغو؛ فضوء الفجر يبدأ في الظهور كضوء خافت موازٍ لخط الأفق ويميل لونه للحمرة، بينما يكون كل ما يعلوه من السماء سوادًا كالحًا، وتشبيه هذا الضوء بالخيط لم يأت من فراغ فهو تعبير ربّاني، إن الله سبحانه يخبرنا أن وقت الفجر يبدأ مباشرة بمجرد ظهور أقل ضوء على الأفق، وليس بعد أن ينتشر هذا الضوء، إنه يبدأ في الانتشار فيزداد عرضًا فوق الأفق، كما يزداد انتشارًا على امتداده، وتضطرد الزيادة إلى أن تشرق الشمس لتضيء الأرض بنور ربها".
وخلصت إلى القول: "هاتان الزاويتان لم تُقَدَّرا جزافًا، وإنما بعد دراسات وقياسات دقيقة لإضاءة ضوء السماء قبل لحظة بدء الفجر وبعدها، وكذلك بالنسبة للعشاء، وقد جرت مراجعات عديدة لهذه القيم، وهي -وإن اختلفت بقدر ضئيل تبعًا للظروف الجوية- إلا أننا لا يمكن أن نحدد زاوية لكل يوم من السنة، فهاتان القيمتان (17.5° للعشاء، 19.5° للفجر) تمثلان الواقع بصورة كاملة بما يرضي الله ويُبعد عنا إثم مخالفة شرعه سبحانه".
وإذا كان هذا هو الموقف الديني والرسمي في مصر والعالم الإسلامي في استبعاد الدرجة (16.5°) ورفضها ميقاتًا للفجر الصادق، والتأكيد على أنها لم تُبْن على أبحاث علمية صحيحة، فإن درجة (14.7°) هي أشد شذوذًا وأولى بالرفض وأجدر بالاستنكار؛ لِمَا فيها من مخالفة صريحة للنصوص الشرعية، وبُعدٍ عن الهدي النبوي الذي نقلته الأمة عن سنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولِمَا بينها وبين عمل الأمة سلفًا وخلفًا من بون واسع وبعد شاسع.
هذا فضلًا عن هذه الدرجة المدَّعاة مستندة إلى بحثٍ لم يُجَزْ به صاحبُه، وهو الباحث/ نبيل يوسف حسنين، في بحثه (دراسة الشفق لتحقيق أوقات الصلاة ورؤية الهلال) المكتوب باللغة الإنجليزية سنة 1988م؛ حيث تُوُفِّي رحمه الله تعالى قبل اكتماله؛ فلم يُناقَش البحث ولم تتم إجازتُه علميًّا حتى تُعرَف صحة المعايير الفقهية والضوئية والقياسية والرصدية التي أقام عليها الباحث حساباته، ومثل هذا لا يصح الاحتجاج به ولا الاستناد إليه ولا الاطمئنان إلى نتائجه في أي منهج بحثي علمي معتبر، فضلًا عن الدعوة إلى إحلاله محل التواتر القطعي واليقين العلمي والعملي!
ولذلك كان موقف دار الإفتاء المصرية ثابتًا في رفض هذا التشكيك الذي لا يعتمد على أي أساس علمي صحيح، وأوصت بغلق هذا الباب نهائيًّا، وترك البحث فيه؛ منعًا للفتنة بين المسلمين، وحسمًا لمادة التشكيك في العبادات والطعن في الثوابت؛ فلَمّا طُرِحَ مضمونُ هذا البحث على بساط المناقشة في وقائع "ندوة تحقيق مواقيت صلاتي الفجر والعشاء" -والتي عقدت بمقر المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية، في 23 من شهر ذي الحجة سنة 1420هـ، الموافق 29 مارس سنة 2000م- بمشاركة دار الإفتاء، والمؤسسات الرسمية المعنية، استبعدت الندوة نتائجه ولم تعتمدها، بعد وضوح الموقف الرافض لها مِن قِبَل كل المؤسسات الدينية المشاركة في الندوة:
حيث قامت دار الإفتاء المصرية -وهي الجهة الدينية المصرية المختصة بتقييم هذا الموضوع والإفتاء فيه شرعًا؛ ممثَّلةً في فضيلة الأستاذ الدكتور/ نصر فريد واصل، مفتي الديار المصرية آنذاك- بالرد على هذه الدعوى ورفضها؛ مبينة أن مثل هذا البحث الذي ينطوي على بطلان مواقيت الفجر والعشاء الحالية وبطلان صلاة الفجر عليها: "لا يُفيد ولا يُستَدَلُّ به هنا"، "ولا نُعوِّل عليه في هذا المقام"، "ولا وجه له ولا دليل صحيح يُعوَّل عليه ويُعتَدُّ به"، وأكَّدت رفع هذا الخلاف وعدم الاعتداد به أصلًا؛ حيث أوصت: "بغلق هذا الباب، وترك البحث فيه؛ منعًا للفتنة بين المسلمين، وتشكيكهم في عبادتهم الدينية؛ حيث ثبت بيقين صحة صلاة المسلمين في كل أوقاتها، من قبل هذا الخلاف الذي تم رفعُه، ولا يزول هذا اليقين الذي أثبتناه إلا بيقين مثله أو أقوى منه"، وخلصت إلى أنه: "علينا وجوبًا نحن المسلمين في كل مكان أن نقف عند حدود هذا اليقين القديم الثابت شرعًا في الحال والقديم".
كما استبعدتها ورفضتها المؤسسة الدينية في دولة الإمارات الشقيقة، التي مثلها في الندوة السيد علي بن السيد عبد الرحمن آل هاشم، مستشار الشئون القضائية والدينية لرئيس دولة الإمارات، ومصدر التقويم الرسمي لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ حيث شارك ببحث أكد فيه "أن جمعًا كبيرًا من علماء الإسلام وفي كل المذاهب المتبوعة قد أفرغوا جهدهم لتحديد المواقيت الشرعية، ولم يألوا جهدًا في استنباط الوقت المحدد، وبذلك أصبح العمل من الثوابت التي لا ينبغي الهرولة لإخضاعها للنظريات الحديثة، على الرغم من جديتها، إلا بعد تمحيص وتدقيق يحظى بإجماع الأمة ولرفع الحرج... ولا هناك ما يدعو للشك أو الارتياب فيما أجمعت عليه الأمة منذ ما يقرب من خمسة عشر قرنًا من الزمان".
ولذلك انتهت الندوة إلى تنحية هذه الدعوى وعدم الأخذ بها، وقررت أنه يجب على كل المسلمين الأخذ باليقين الثابت حالًا ومآلًا واطِّراحُ هذه الأبحاث الظنية، التي تشكك المسلمين في عباداتهم الدينية؛ حيث نصت توصياتُها بكل حسم ووضوح على "حتمية وضرورة الاطمئنان إلى الحسابات الفلكية المعمول بها في الوقت الحاضر، والوقوف عندها، وعدم الخروج عليها؛ وقوفًا على ما ثبت بيقين بالنسبة للمواقيت الحالية عند المسلمين، من عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى الآن؛ لأن اليقين لا يزول إلا بيقين مثله، ولم يتم التوصل إلى هذا اليقين من خلال ما عُرِضَ من أبحاث في هذه الندوة حتى الآن.
وقد قدَّم مفتي الديار المصرية الأسبق، فضيلة الأستاذ الدكتور/ نصر فريد واصل، فيما بعد، للكتيب الذي جمع أبحاث هذه الندوة، بمقدمة مهمة، لخص فيها ما وصلت إليه نتائجها؛ مبينًا أنها انتهت إلى إقرار ما عليه الأمة في مواقيت الصلاة، وأنه قد تم فيها -بشكل قاطع- رفعُ النزاع والخلاف في ذلك؛ بما لا يدع معه طعنًا لطاعن، أو اعتراضًا لمعترض، أو مدخلًا لمتشكك، لتتحقق بذلك وحدة المسلمين، حيث يقول حفظه الله تعالى: [وقد ارتبطت الصلاة المفروضة في الإسلام بأوقاتها المحددة لها من الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]، وتبين ذلك للمؤمنين بواسطة الوحي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته والمؤمنين من بعده بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، وقد تحددت هذه المواقيت للمؤمنين وأصبحت معلومة لهم جميعًا بعلاماتها الشرعية من عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي كل العصور الإسلامية القديمة والحديثة لم يختلف المسلمون حولها، حتى نهاية القرن الميلادي العشرين وبداية القرن الهجري الخامس عشر؛ حيث ظهر خلاف في مواقيت صلاتي الفجر والعشاء بين بعض المسلمين من علماء الفلك والحساب والدين، من حيث البداية والنهاية والتقديم والتأخير، وكاد ذلك الخلاف يحدث فتنة بين المسلمين ويفرق صفوفهم ويشتت شملهم، مما يتعارض ويتناقض تناقضًا كليًّا مع أهداف مشروعية العبادات في الإسلام وأهداف مشروعية الصلاة، وجعلها الركن الأساسي في الدين؛ مما حدا بنا إلى إحالة الأمر في ذلك إلى أهل الذكر والاختصاص؛ كما أمرنا بذلك سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، فأحلناه للبحث والدراسة العلمية والشرعية إلى "مجمع البحوث الإسلامية"، وإلى "رئيس المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية" بجمهورية مصر العربية؛ وذلك لبيان وجه الحق والصواب ورفع الخلاف والنزاع فيه، فأقيم لتحقيق هذا الهدف بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بجمهورية مصر العربية" مؤتمر علمي وندوة خاصة لتحقيق مواقيت صلاتي الفجر والعشاء من الناحية العلمية والشرعية، وذلك تحت رعاية وزير البحث العلمي ومفتي الديار المصرية.
وقد نجحت هذه الندوة والحمد لله، وحققت الهدف المنشود منها في رفع النزاع والخلاف وتحقيق وحدة المسلمين، وذلك من خلال البحوث العلمية المقدمة، والنقاش العلمي المتعلق بها، من العلماء أعضاء المؤتمر بمنهج علمي رصين] اهـ.
كما رد على هذا التشكيك رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، فضيلة الشيخ عطية صقر، رحمه الله تعالى؛ حيث يقول في فتاويه، في مايو 1997م، ردًّا على المشككين في توقيت الفجر المدون بالنتائج: "إن تعيين الفجر الصادق والكاذب تعيينًا مستمَدًّا من الحديث النبوي والأرصاد الحديثة قام به المختصون، وانتهوا إلى أن الفجر الصادق هو الذي يرفع له الأذان، ولا بد من اتباع ذلك، ما لم يظهر شيء آخر يقوم على حقائق علمية وأرصاد يقينية صحيحة. والكلام الذي جاء في السؤال حدث منذ سنوات قليلة. وقد صدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية بتاريخ 22 من نوفمبر 1981م". ثم ساق ملخص الفتوى.
وتتابعت بعد ذلك الفتاوى من دار الإفتاء المصرية تجزم بصحة وقت الفجر المعمول به على جهة القطع واليقين، في عهد المفتي السابق فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة، ثم في عهد المفتي الحالي فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام؛ حيث أكدت فتاوى الدار أن كل هذه التشكيكات لا علاقة لها بالواقع الصحيح، ولا بالبحث العلمي الفلكي الرصين، مبينة أن علماء الفلك المسلمين والمختصين في المواقيت قد فهموا العلامات والمعايير الشرعية الدالة على مواقيت الصلاة فَهمًا دقيقًا، ووضعوها في الاعتبار، وضبطوها بالمعايير الفلكية المعتمدة. وأن التوقيت الحاليّ صحيحٌ يَجبُ الأخذُ به؛ لأنه ثابِتٌ بإقرارِ المُتخصِّصين، وهو ما استَقَرَّت عليه اللِّجانُ العِلمية"، وأن "أمرَ العباداتِ الجماعيةِ المُشتَرَكةِ في الإسلام مَبنِيٌّ على إقرارِ النِّظامِ العامِّ بِجَمْعِ كَلِمَةِ المسلمين ورَفْضِ التناوُلَاتِ الانفِرادِيَّةِ العَشْوَائيَّةِ للشَّعَائرِ العامَّة، وفي مِثلِ ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: «الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» أخرجه الترمذي وصَحَّحَه مِن حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
كما أن دعوى الخطأ في تحديد الفلكيين وعلمـاءِ الجيوديسيا لوقت الفجر هي دعوى باطلة لم تُبْنَ على علمٍ شرعيٍّ أو كَوْنيٍّ صحيح، وهي افتئاتٌ على أهل الاختصاص وأولي الأمر، وشقٌّ لاجتماع المسلمين على ما ارتضاه الله لهم من الالتفاف حول العلماء والأخذ بما صوَّبوه، فلا يجوز القول بها، ولا نشرها في الناس.
الخلاصة
بناءً على ما سبق: فإن دعوى الخطأ في تحديد أهل العلم من الفلكيين والشرعيين لوقت الفجر دعوى باطلة؛ لم تُبْنَ على علم شرعي، أو كوني صحيح، وهي افتياتٌ على أهل العلم وأولي الأمر، وشق لاجتماع المسلمين على ما ارتضاه الله لهم من الأخذ بما صوَّبه العلماء، فلا يجوز القول بها ولا نشرها في الناس" اهـ.
كما أصدرت الهيئة المصرية العامة للمساحة تقريرًا بخصوص مواعيد أذان الفجر، مفاده:
أنه بعد البحث في ملفات الهيئة وُجِدَت بعض الملفات القديمة لسنة 1937م، وسنة 1943م وبها جداول لمواقيت الصلاة مكتوبة بخط اليد، وتم مراجعتها بالحساب على برامج الكمبيوتر المعمول بها حاليًّا بالهيئة على أساس زاوية انخفاض الشمس بقيمة 19.5°، فوجدت النتائج مطابقة لما هو مدوَّن يدويًّا عام 1937 و1943م، مما يثبت أن هذه الدرجة هي المعمول بها منذ إنشاء مصلحة عموم المساحة المصرية.
وممن قرر صحة ما عليه تقاويم الفجر المعمول بها من أهل التخصص:
الأستاذ الدكتور الفلكي المهندس حسين كمال الدين [ت 1407هـ] أستاذ كرسي المساحة والجيوديسيا بكلية الهندسة جامعة أسيوط، والقاهرة، والرياض، وبغداد، والأستاذ المنتدب بالمعهد العالي للمساحة بالقاهرة، وجامعة الأزهر، وجامعة القاهرة؛ وذلك في بحثه المنشور في العدد الثالث من "مجلة البحوث الإسلامية" الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية في عام 1397هـ، تحت عنوان: (تعيين مواقيت الصلاة في أي زمان ومكان على سطح الأرض)، ومما جاء فيه:
[يبدأ وقت الصبح من طلوع الفجر الصادق، وهو أول ظهور ضوء الشمس -الغير مباشر- السابق عليها والذي يظهر من جهة المشرق، ثم ينتشر حتى يعم الأفق جميعه، ويصعد إلى السماء منتشرًا. أما الفجر الكاذب، فلا عبرة به، وهو الضوء الذي لا ينتشر، ويظهر مستطيلاً دقيقًا يتجه إلى السماء وعلى جانبيه ظلمة.
ويبقى بعد ذلك تمييز وقت العشاء ووقت الفجر:
وللوصول إلى ذلك، نلاحظ أن كلاهما يرتبط بانتشار الضوء الأبيض فِي ظلام الليل أو اختفائه كلية، نتيجة انعكاس ضوء الشمس الغير مباشر مع طبقات الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية، ولقد وجد بالاستقراء أن وقت الشفق ووقت الفجر يتساويان فِي المكان الواحد تقريبًا (يعبر عن وقت الشفق: بالزمن من غروب الشمس حتى اختفاء الضوء الأبيض تمامًا، كما يعبر عن وقت الفجر: بالزمن من ابتداء ظهور الضوء الأبيض في ظلمة الليل حتى شروق الشمس)، وأنهما يرتبطان بحركة الشمس تحت الأفق، وأن ضوء الشمس الغير مباشر والمنعكس على الغلاف الهوائي الأرضي ينتهي أو يبدأ عندما تصل درجة ميل الشمس تحت الأفق 18 ْ، والشعاع الضوئي عندما يقابل الغلاف الجوي الأرضي بزاوية أكبر من الزاوية الحرجة فإنه يسير إلى الفضاء الخارجي ولا يصل إلى سطح الأرض، ويستمر هكذا حتى تصل هذه الزاوية إلى المقدار 18 ْ، عند ذلك ينعكس الشعاع الشمسي على الطبقة الهوائية ويتجه إلى سطح الأرض حيث يبدأ ظهور الفجر الصادق، ومثل ذلك يحدث عند انتهاء وقت الشفق، أي أنه من الممكن اعتبار وجود الشمس تحت الأفق الشرقي بمقدار 18 ْ بداية لوقت الفجر، كما يمكن كذلك اعتبار وجود الشمس تحت الأفق الغربي بمقدار 18 ْ هو نهاية وقت الشفق الأبيض، وعلى ذلك يمكن الربط بين وقتي الفجر والعشاء وبين حركة الشمس الظاهرية، أي أن مواقيت الصلاة بالنسبة إلى دوران الشمس حول الأرض تكون كالآتي:
بداية الفجر = وجود الشمس تحت الأفق الشرقي بمقدار 18 ْ.
نهاية الفجر = وصول الحافة العليا للشمس إلى الأفق الشرقي.
وأما وقت العشاء، وكذلك بداية وقت الفجر: فإن الشمس في هذه الآونة تكون تحت الأفق بمقدار 18 ْ درجة، وعلى ذلك فإن لحساب مواقيت الصلاة بالساعات المستعملة الآن: علينا أن نربط بين الزمن الفلكي (الوقت الحقيقي للشمس، أي الزاوية الزمنية للشمس) وبين مواضع وجود الشمس في مدارها التي تعين هذه المواقيت] اهـ بتصرف.
وبذلك صدر القرارات المتعددة للندوات الشرعية والفلكية ومجامع الفقه الإسلامي والهيئات الشرعية والفلكية الرسمية المعتمدة في العالمين العربي والإسلامي، من غير خلاف:
فصدر بذلك قرار "ندوة علماء الشريعة والفلك" التي عقدت في المركز الثقافي بلندن، في شعبان 1404هـ، الموافق لأيار/ مايو 1984م، والذي جاء فيه:
[فقد تدارس المجتمعون النصوص الشرعية التي أوردها الباحثون في خلال دراساتهم المقدمة للمؤتمر، وبعد الاطلاع على القواعد الفلكية العلمية التي عرضها علماء الميقات الفلكيون، وتمشيًا مع روح الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى الوحدة ورفع الحرج والمشقة والتيسير على الناس وفعل الأرفق بهم؛ فقد تم الاتفاق على ما يلي:
أولًا: اتُّفق على القواعد التي يتم بموجبها تحديد أوقات الصلاة بتحديد زوايا انحطاط الشمس تحت الأفق الموافقة لوقتي الفجر والعشاء، وشروق الشمس وغروبها كما يلي:
1- لطلوع الفجر الصادق: الزاوية (18°) درجة تحت الأفق الشرقي.
2- لمغيب الشفق الأحمر: الزاوية (17°) درجة تحت الأفق الغربي.
3- لشروق الشمس: الزاوية (1°) درجة تحت الأفق الشرقي.
4- لمغيب الشمس: الزاوية (1°) درجة تحت الأفق الغربي.
ثانيًا: يضاف (2) دقيقة على وقت زوال الشمس للتمكين في تحديد وقت صلاة الظهر.
ثالثًا: في الأيام التي توجد فيها العلامة منتظمة وفقًا لِمَا أشارت إليه النصوص الشرعية المحددة للأوقات فيجب الأخذ بهذه الأوقات وعدم الخروج عنها مهما كانت؛ لأنه لا مجال للاجتهاد في مورد النصوص] اهـ. نقلًا عن كتاب "مواقيت الصلاة بين علماء الشريعة والفلك" للدكتور محمد الهواري (ص: 79-80).
وبذلك أيضًا صدر قرار المجمع الفقهي الإسلامي بجدة، في دورته التاسعة، في قراره السادس، بتاريخ: 19/ 7/ 1406هـ، الموافق: 30/ 3/ 1986م، "بشأن مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية"، والذي نص على ما يأتي: [أولًا: دفعًا للاضطرابات والاختلافات الناتجة عن تعدد طرق الحساب، يحدد لكل وقت من أوقات الصلاة العلامات الفلكية التي تتفق مع ما أشارت الشريعة إليه، ومع ما أوضحه علماء الميقات الشرعيون في تحويل هذه العلامات إلى حسابات فلكية متصلة بموقع الشمس في السماء فوق الأفق أو تحته كما يلي:
(1) الفجر: ويوافق بزوغ أول خيط من النور الأبيض وانتشاره عرضًا في الأفق الفجر الصادق، ويوافق الزاوية (18) درجة تحت الأفق الشرقي...
(6) العشاء: ويوافق غياب الشفق الأحمر حيث تقع الشمس على زاوية قدرها (17) تحت الأفق الغربي.
ثانيًا: عند التمكين للأوقات يكتفى بإضافة دقيقتين زمنيتين على كل من أوقات الظهر والعصر والمغرب والعشاء وإنقاص دقيقتين زمنيتين من كل من وقتي الفجر والشروق] اهـ.
وهو منشور على موقع "رابطة العالم الإسلامي" على هذا الرابط:
http://www.themwl.org/Fatwa/default.aspx?d=1&cidi=110&cid=11
كما صدر بتأييد هذا القرار: قرارُ "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث" رقم (2/ 12) "بشأن مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية"، في دورته العادية الثانية عشرة، المنعقدة في مقر المجلس بدبلن، بأيرلندة، في الفترة من 6-10 من ذي القعدة 1424هـ، الموافق لـ31 ديسمبر 2003م إلى 4 يناير 2004م، ونصه: [ت داول أعضاء المجلس في موضوع مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية، واستمعوا إلى الدراسات الشرعية والفلكية المقدمة من بعض الأعضاء، والعروض التوضيحية للجوانب الفنية ذات الصلة التي تمت التوصية بها في الدورة الحادية عشرة للمجلس، وبناءً على ذلك قرر ما يلي:
أولًا: تأكيد القرار السادس الصادر عن المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، بشأن مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية، ونصه... -ثم ساق نص القرار السابق-] اهـ. نقلًا عن كتاب "مواقيت الصلاة بين علماء الشريعة والفلك، للدكتور محمد الهواري (ص: 145).
وفيما يلي تقرير اللجنة الفلكية المقدم إلى المجمع الفقهي الإسلامي بجدة، والذي كان أساسًا للقرار السابق:
تقرير اللجنة الفلكية: [الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد اجتمعت اللجنة الفلكية المؤلفة من الأساتذة: الدكتورة حسين كمال الدين، والدكتور صالح حامد، والدكتور زغلول النجار، والدكتور محمد الهواري، والدكتور محمد رياض عرفة، والفلكي السيد حبيب علوي. وتدارست موضوع تحديد أوقات الصلاة بصورة عامة وأوقات الصلاة والصيام في البلاد ذات الدرجات العالية، ورأت اللجنة ما يلي:
أولًا: دفعًا للاضطرابات والاختلافات الناتجة عن تعدد طرق الحساب، فإن اللجنة تقترح أن يحدد لكل وقت من أوقات الصلاة العلامات الفلكية التي تتفق مع ما أشارت الشريعة إليه، ومع ما أوضحه علماء الميقات الشرعيون، في تحويل هذه العلامات إلى حسابات فلكية متصلة بموقع الشمس فوق الأفق أو تحته، وهي كما يلي:
(1) الفجر: ويوافق بزوغ أول خيط من النور الأبيض وانتشاره عرضيًّا في الأفق (الفجر الصادق)، ويوافق الزاوية (18°) درجة تحت الأفق الشرقي...
(6) العشاء: ويوافق غياب الشفق الأحمر، وتقدر زاوية الشمس فيه بـ(17°) تحت الأفق الغربي، ويليه الشفق الأبيض الذي يقدره الفلكيون بموضع الشمس على زاوية تبلغ (18°) درجة زاويّة تحت الأفق الغربي.
ثانيًا: ترى اللجنة عند التمكين لهذه الأوقات أن يكون ذلك بالدقائق الزمنية وليس بالدرجات الزاويّة.
ثالثًا: الأصل في حساب المواقيت الأخذُ بالعلامات الفلكية الخاصة بكل منها والالتزام بها في كل زمان ومكان، وهذا هو الأمر السائد طيلة أيام السنة في جميع الأماكن التي تقع بين خطي عرض (48°) درجة شمالًا و(48°) درجة جنوبًا] اهـ. نقلًا عن كتاب "مواقيت الصلاة بين علماء الشريعة والفلك" للدكتور محمد الهواري (ص: 89-87).
والطعن في التوقيت الذي تسير عليه الأمة الإسلامية كلُّها الآن في صلاة الفجر: قد توارد على ردِّه أهل العلم بالشريعة والهيئة والتقويم والفلك في كل بلدان المسلمين التي أثيرت فيها هذه الفرية، ورفضه المتخصصون والعلماء الشرعيون في كل الندوات والمؤتمرات التي نوقشت فيها هذه القضية، وخرجت كل فتاوى دور الفتوى والشئون الإسلامية في العالم -ومنها فتاوى دار الإفتاء المصرية- بإنكارها وإبطلاها؛ ولذلك لم تعول عليها أي مؤسسة رسمية علمية أو دينية في العالم الإسلامي كله، فلا يجوز التعويل عليها ولا الالتفات إليها.
وقد ألَّف جماعة من العلماء والباحثين والمتخصصين في رد هذه الدعوى الطاعنة في توقيت الفجر والعشاء الذي تسير عليه الأمة من قديم الزمان؛ ومنهم إضافة إلى من سبق ذكرهم:
العالم الأزهري الجليل، فضيلة الأستاذ الدكتور/ طه الدسوقي حبيشي الدمياطي الحسيني، أستاذ ورئيس قسم العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر الشريف، في كتابه "شيطان منكري السُّنة يعبث بمواقيت الصلاة"، وقد طبع سنة 2000م.
ومنهم: الأستاذ الدكتور/ إبراهيم بن محمد الصبيحي، رئيس قسم السنة وعلومها بكلية أصول الدين، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، رحمه الله تعالى [ت 1437هـ]؛ فقد كتب كتابًا في الرد على دعوى الخطأ في العشاء والفجر، سماه: "طلوع الفجر الصادق بين تحديد القرآن وإطلاق اللغة"، وقد قدم له المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، بمقدمة قال فيها: "وقرر فيها ما استقر عليه العمل عليه في هذه البلاد منذ عشرات السنين، وتتابع على إقراره علماء هذه البلاد المباركة، وقد أوصينا بطباعته لتعميم النفع به".
ونقل فيه بيان المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء السابق الشيخ/ عبد العزيز بن باز، رحمه الله تعالى، الصادر بتاريخ: 22/ 7/ 1417هـ، حول مواقيت الصلاة في تقويم أم القرى، الذي يأخذ بالدرجة 19° في توقيت الفجر الصادق، جاء فيه (ص: 31-32): "كلفت لجنة من أهل العلم بالذهاب إلى خارج مدينة الرياض بعيدًا عن الأنوار لمراقبة طلوع الفجر ومعرفة مدى مطابقة التقويم المذكور للواقع، وقد قررت اللجنة بالإجماع مطابقة توقيت التقويم لطلوع الفجر، وأنه لا صحة لِمَا يدَّعيه بعض الناس من تقدمه عليه، ولأجل إزالة الشكوك التي شوشت على بعض الناس صلاتهم جرى بيانه. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل".
كما نقل أيضًا بيان المفتي الحالي سماحة الشيخ/ عبد العزيز آل الشيخ، في انتقاد الآراء التي تشكك في صحة تقويم أم القرى، وعدم انضباطه في توقيت الإمساك والإفطار في شهر رمضان، وأكد أن "جميع الآراء التي طرحت بهذا الصدد خاطئة ومجانبة للصواب، ويجب ألا يلتفت إليها؛ لِمَا تسببه من إثارة التشكيك عند المسلمين".
موضحًا "أن تقويم أم القرى رسمي وشرعي ولا غبار عليه؛ حيث أشرف عليه نخبة من أهل العلم الموثوق في علمهم وأمانتهم، وسار عليه العمل منذ زمن حتى وقتنا الحاضر، وأن سماحة المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز، وجه آنذاك بتشكيل لجنة من العلماء وأهل الاختصاص للنظر في صحة تقويم أم القرى.. وأكدت اللجنة في تقرير رسمي لها صحة تطابق التوقيت مع طلوع الفجر، مشددًا على ضرورة العمل بتقويم أم القرى وعدم تأخير وقت الإمساك أو الإفطار.. ويجب على جميع المؤذنين أن يلتزموا بذلك، وليس لأحد أن يدخل في هذه المسائل من جهته.. لهذا يترك الأمر لأهله، فيبقى الأمر على ما هو عليه، ولا يجوز التشكيك فيه".
وساق في كتابه رأي عالم الفلك الكويتي الشهير/ الدكتور صالح بن محمد العجيري، الذي أكد أن التلوث في الجو هو الذي جعل بعض الناس يخيل إليهم أن الشفق يتأخر بعض الشيء، قال (ص: 148-149): "وأود أن أشير بهذا الشأن أننا كنا في الخليج نؤذن للفجر قبل شروق الشمس بساعة ونصف، وكذلك كنا نؤذن للعشاء بعد ساعة ونصف عن غروب الشمس، كما أتذكر أن المرحوم محمد العبد المحسن الدعيج في سنة 1938م ذكر لي أنه كان يراقب طلوع الفجر ويستعمل روزنامة الصباغ المصرية، فكانت قريبة الصواب في جميع فصول السنة.
ولا يفوتنا أن نذكر أن الدولة العثمانية التي سادت لقرون عديدة وكان حكمها يشمل أجزاء كبيرة من شبه جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق والشمال الأفريقي وأجزاء كبيرة من القارة الأوروبية، لم يحدث أن اعترض أحد على التوقيت الذي استُعمِل في تلك البقاع الشاسعة وطوال عقود بل قرون من الزمان".
ثم قال: "ولنذكر مثالًا لدرجات طلوع الفجر الصادق المستعملة حاليًّا؛ ففي الكويت: 18 درجة، وفي المملكة العربية السعودية: 19 درجة، وفي مصر: 19 درجة ونصف، ومعلوم أن الدرجة يختلف مقدارها من فصل لآخر، ومن موقع جغرافي لآخر أيضًا، والمثال على ذلك: فإن حصة طلوع الفجر الصادق في الكويت هو: 1 ساعة و19 دقيقة في فصلي الربيع والخريف، وهي الأقل، أما في فصل الصيف فترقى إلى: 1 ساعة و35 دقيقة، وهي الأكبر، وفي فصل الشتاء: 1 ساعة و25 دقيقة، وهي الوسط" اهـ.
وفي كتاب "الحساب الفلكي لمواقيت الصلاة" إعداد الدكتور وهيب عيسى الناصر، والدكتور نبيل شكري عوض الله (ص: 22، ط. على نفقة أمير البحرين): [يحين موعد صلاة الفجر عندما تكون الشمس على ارتفاع -19.5°؛ أي: أن الشمس تكون تحت الأفق بمقدار 19.5°] اهـ.
وممن استنكر هذه الأقوال الشاذة والتشكيكات الباطلة: الأستاذ الدكتور أنس عثمان، رئيس المعهد القومي للبحوث الفلكية الأسبق؛ حيث وصفها بأنها غير الدقيقة وأن الغرض منها الشهرة وجذب الانتباه، مبينا أن تحديد مواقيت الصلاة لابد أن يتم بطرق علمية تخضع للتحقيق والتدقيق العلمي وليس للتصريحات الصحفية، مطالبًا من يدَّعي ذلك بالمنهج العلمي والدراسة متعددة الأماكن والمطالع والزوايا، وذلك على هذا الرابط:
http://www.albawabhnews.com/894903
كما أصدر "مركز الفلك الدولي" -وهو مركز علمي رسمي إماراتي، يضم كوكبة من كبار الفلكيين والباحثين والراصدين في العالمين العربي والإسلامي- بيانًا قاطعًا للتأكيد على صحة التوقيت لصلاة الفجر والمعمول به في كل الدول العربية والإسلامية، وهو ما بين درجتي (18°، و19.5°) من انخفاض الشمس تحت الأفق الشرقي، وقد نُشِر هذا البيان على موقع المركز الرسمي، بتاريخ: 18 رمضان 1436هـ الموافق 5 تموز/ يوليو 2015م، تحت عنوان: (باتفاق المتخصصين: لا صحة للقول بأن موعد الفجر المبين في التقاويم متقدم عن الوقت الحقيقي لطلوع الفجر الصادق)، وجاء فيه:
[يكثر بين الفينة والأخرى حديث البعض عن عدم صحة موعد صلاة الفجر الموجود في تقاويم الدول الإسلامية، وأنه متقدم على الوقت الحقيقي، وأن الأذان يرفع قبل وقته والسماء ما زالت مظلمة.
وهذا كلام غير صحيح! فموعد صلاة الفجر الموجود في معظم تقاويم الدول الإسلامية صحيح. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن موعد صلاة الفجر المبين في تقاويم الدول التالية صحيح: السعودية، ومصر، والأردن، وفلسطين، وقطر، والكويت، والبحرين، وسلطنة عمان، والعراق، واليمن، والسودان، وتونس، والجزائر، والمغرب، وغيرها.
وحجة المشككين: أنهم رصدوا الفجر من مكان مظلم ولم يتبين لهم الفجر الصادق إلا بعد الأذان بفترة من الوقت، والخطأ الذي وقع به هؤلاء -بحسن نية- أنهم رصدوا الفجر من أماكن غير مناسبة؛ إما بسبب وجود إضاءة مدن قريبة، أو بسبب الرصد من مكان غير صاف، وبالتالي لم يشاهدوا الفجر على الرغم من طلوعه، ولو رصدوا الفجر من مكان مظلم تمامًا وصاف تمامًا، لشاهدوا الفجر مع الأذان.
وقد أثبتت عدة أرصاد حديثة تمت من أماكن مناسبة توافق موعد الأذان الموجود في التقويم مع طلوع الفجر الصادق، ومن هذه الأرصاد: ما تم في الأردن، واليمن، وليبيا، والسعودية، ومصر، وإيران، وغيرها.
كما أن الوقت المحسوب بالتقاويم هو ما نص عليه كبار علماء الفلك المسلمين، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: الصوفي، والبتاني، والبيروني، والخوارزمي، والطوسي، وابن الشاطر: وهو كان الموقت في الجامع الأموي، فضلًا عن كونه من علماء الفلك! وهؤلاء علماء فلك عظام، منهم أخذ الغرب الكثير من المعارف الفلكية، وتكريمًا لجهودهم فقد أطلق الغرب أسماءهم على فوهات على القمر، في الوقت الذي يقلل البعض من شأنهم ويتهمهم بالخطأ وعدة المعرفة!
وتوجد العديد من الأبحاث التي ناقشت هذه المسألة بالتفصيل، وبينت مواطن التشكيك بالأدلة والحجة، وأوردت أقوال هؤلاء الفلكيين من كتبهم، وذكرت هذه الأبحاثُ الأرصادَ الحديثة التي تمت في ظروف مناسبةٍ، مبينةً تفاصيلها.
ومن هذه الأبحاث:
بحث بعنوان "إشكاليات فلكية وفقهية حول مواقيت الصلاة"، ويمكن قراءته على الرابط التالي:
http://www.icoproject.org/pdf/Salat_Problems_2010.pd
وبحث بعنوان: "كيفية التحقق من صحة مواقيت الصلاة في التقاويم" ويمكن قراءته على الرابط التالي:
http://www.icoproject.org/pdf/2012_Salat_Observation.pdf
وإضافة إلى ذلك: فقد كتب الشيخ عبد الملك علي الكليب في عام 1975م رسالة إلى وزارة الأوقاف الكويتية، يعترض فيها على موعد صلاة الفجر الموجود في التقويم الكويتي، وهو ما يوافق تقاويم الدول الإسلامية الأخرى، وأن الزاوية الصحيحة لصلاة الفجر هي 16.5 وليس 18، وهذا هو نفس اعتراض البعض في وقتنا الحاضر، بل إن البعض في وقتنا الحاضر بالغ ونادى بالزاوية 15 بدلًا من 18، فقامت وزارة العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية آنذاك بتحويل الرسالة إلى الأستاذ العلامة السيد عبد الله كنون، رئيس رابطة علماء المغرب، وذلك لإحالته للمختصين للرد على الرسالة، فقام هو بدوره بتحويله إلى أحد أشهر علماء الفلك والتوقيت في المغرب، وهو العالم الشهير السيد الحاج محمد بن عبد الوهاب بن عبد الرازق الأندلسي أصلًا الفاسي المراكشي، وهو صاحب كتاب "العذب الزلال في مباحث الهلال"، وهو يعتبر من أشهر كتب الفلك الشرعي حول الهلال ورؤيته، فقام المراكشي بالرد على الرسالة في كتيب بلغ عدد صفحاته 42 صفحة، وقد بين بالتفصيل وبالأدلة والحجة وسرد أقوال العديد من كبار الفلكيين والموقتين، وأكد أن الفجر الصادق يطلع على الزاوية 18، بل إن قسمًا كبيرًا منهم يرى أنه يطلع على الزاوية 19.
ويمكن قراءة هذا الكتيب من الرابط التالي:
http://www.icoproject.org/pdf/fajer.pdf
وتجدر الإشارة إلى أن الفلكيين العاملين في شؤون مواقيت الصلاة يعرفون الفجر الكاذب جيدًا، وأن تأكيدهم بأن الفجر يطلع ما بين الزاوية 18 و19 إنما هو للفجر الصادق، فالفجر الكاذب ظاهرة فلكية معروفة عند المسلمين وعند غيرهم؛ وهو يظهر قبل الزاوية 19 بكثير، وقد علم ذلك بالرصد المستفيض سواء من قبل المسلمين أو غير المسلمين المهتمين بالظواهر الفلكية بشكل عام، وبالتالي إن توهم البعض أن قول الفلكيين الموقتين بأن الفجر يطلع على الزاوية 19 أو 18 لالتباس الفجر الكاذب عليهم هو قول لا يصح.
وبالنظر إلى ما هو معمول به في جميع (ونركز على كلمة جميع) الدول الإسلامية في وقتنا الحاضر، نجد أن جميع تقاويم الدول الإسلامية تجعل صلاة الفجر على زاوية ما بين 19.5 و18، ولا توجد ولا دولة إسلامية واحدة تعتمد للفجر زاوية أقل من 18، بل حتى جمعية "إسنا" في الولايات المتحدة التي شاع أنها تعتمد الزاوية 15؛ فقد تمت مخاطبتهم رسميًّا وتم الاجتماع مع المدير التنفيذي للجمعية الدكتور ذو الفقار شاه، والذي أكد أن المعتمد في "إسنا" لصلاة الفجر هو الزاوية 18، إلى أن تم تعديلها مؤخرا عام 2011م لتصبح 17.5.
فمصر: تعتمد الزاوية 19.5°.
والمغرب: تعتمد الزاوية 19°.
والسعودية: تعتمد الزاوية 18.5°.
في حين تعتمد الزاويةَ 18° كلٌّ من: الأردن، وفلسطين، والكويت، وسلطنة عمان، والبحرين، وقطر، والعراق، واليمن، والسودان، وتونس، والجزائر، وتركيا، وغيرها من الدول الإسلامية.
الموقعون على البيان:
1- الدكتور سليمان محمد بركة، حامل كرسي اليونسكو في علوم الفلك والفضاء والفيزياء الفلكية في فلسطين، ومدير مركز أبحاث الفلك والفضاء في جامعة الأقصى.
2- الأستاذ الدكتور مشهور الوردات، أستاذ في علم الفلك، وعميد كلية العلوم السابق في جامعة الحسين بن طلال، الأردن.
3- الأستاذ الدكتور شرف القضاة، أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية، ورئيس قسم أصول الدين السابق في الجامعة الأردنية.
4- الأستاذ الدكتور عبد السلام غيث، أستاذ في علم الفلك ورئيس الجمعية الفلكية الأردنية.
5- الأستاذ الدكتور عبد القادر عابد، خبير في الفلك الشرعي، الجامعة الأردنية، الأردن.
6- الأستاذ الدكتور جلال الدين خانجي، خبير في الفلك الشرعي، والمدير السابق لجامعة إيبلا في حلب، سوريا.
7- الأستاذ الدكتور هيمن زين العابدين متولي، أستاذ علوم الفلك والفضاء، جامعة القاهرة، مصر.
8- الدكتور معاوية شداد، أستاذ الفيزياء والفلك في جامعة الخرطوم، السودان.
9- الدكتور شرف السفياني، المشرف العام على مرصد السفياني الفلكي، السعودية.
10- الدكتور علي بن محمد الشكري، قسم الفيزياء، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، الظهران، المملكة العربية السعودية.
11- الأستاذ الدكتور حميد النعيمي، رئيس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك ومدير جامعة الشارقة، الإمارات.
12- الشيخ حمد بن محمد صالح، باحث أول معد تقويم في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي. أطروحة ماجيستير بعنوان "الإعلام بدخول وقت الصلاة: أحكامه، ضوابطه، ومستجداته".
13- المهندس محمد شوكت عودة، مدير مركز الفلك الدولي، الإمارات.
14- الدكتور مجيد جراد، أستاذ الفلك في جامعة الأنبار، والمستشار العلمي الفلكي للأوقاف، العراق.
15- الأستاذ الدكتور وهيب عيسى الناصر، أستاذ الفيزياء التطبيقية في جامعة البحرين ورئيس الجمعية الفلكية البحرينية.
16- الدكتور جمال ميموني، أستاذ الفلك في جامعة قسنطينة، الجزائر.
17- الدكتور نسيم سيغواني، مدير قسم علم الفلك في مرصد الجزائر] اهـ البيان.
وحينئذ فلم يَعُدْ هناك مجال لمشكك، ولا مدخل لمعترض، ولا دعوى لمدَّعٍ، بعد كل هذه الردود والجهود، والأرصاد والدراسات، والتوصيات والبيانات، والندوات والتحذيرات، والفتاوى والقرارات، في كل أنحاء العالمين العربي والإسلامي.
ومن أوائل من حاولوا التشكيك في توقيت صلاة الفجر: سيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن" حيث يقول (1/ 175، ط. دار الشروق): [أي حتى ينتشر النور في الأفق وعلى قمم الجبال. وليس هو ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ما يسمى بالفجر الكاذب. وحسب الروايات التي وردت في تحديد وقت الإمساك نستطيع أن نقول: إنه قبل طلوع الشمس بقليل. وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت... ربما زيادة في الاحتياط... والفجر المستطير في الأفق يسبق طلوع الشمس بوقت قليل] اهـ.
وأما ما يدَّعيه البعض من طعن بعض العلماء في مصر في توقيت الفجر المعمول به -ويذكرون منهم: الشيخ محمد رشيد رضا- فمحض افتراء، ونسبته إليه إنما أتت من سوء فهم كلامه ومحاولة تطويعه لمراد المشككين:
فإنه قال في "تفسير المنار" (2/ 148، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب) عند قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾: [ومن مبالغة الخلف في تحديد الظواهر مع التفريط في إصلاح الباطن من البر والتقوى، أنهم حددوا أول الفجر وضبطوه بالدقائق وزادوا عليه في الصيام إمساك عشرين دقيقة قبله للاحتياط، والواقع أن تبين بياض النهار لا يظهر للناس إلا بعده بعشرين دقيقة تقريبًا... وأخذ الناس كلهم أو أكثرهم فيه بقول أئمة المذاهب المدونة المتبعة أضبط وأحوط وأوفى بحاجة سكان الأمصار، بيد أنه يجب إعلام عامة المسلمين في الدروس الدينية وخطب الجمعة وفي الصحف المنشرة أيضا بأن وقت الإمساك الذي يرونه في التقاويم (النتائج) والصحف إنما وضع لتنبيه الناس إلى قرب طلوع الفجر الذي يجب فيه بدء الصيام كصلاة الفجر ليتعجل المتأخر في سحوره اتباعا للسنة بإتمامه والاستعداد للصلاة، ولا سيما الذين يذهبون إلى صلاة الجماعة في المساجد، وأن من أكل وشرب حتى طلوع الفجر الذي تصح فيه صلاته، ولو بدقيقة واحدة فإن صيامه صحيح] اهـ.
فقد صرَّح أن مقصوده بالإنكار: جعلُ وقت الإمساك سابقًا على طلوع الفجر، وهذا الإنكار إنما يتوجه إذا ادُّعِيَ وجوب الإمساك حينئذ، فأما على جهة الاحتياط فلا إنكار؛ ولذلك فقد عاد وقرر أنه أضبط وأحوط وأوفى لسكان الأمصار، كما أن كلامه يقتضي صحة التقويم في حساب طلوع الفجر.
فتوقيت الإمساك أمر إجرائي سلكه الموقتون على جهة الاحتياط الذي يسميه الفقهاء "بالتمكين"، وفي توجيهه يقول العلامة الغازي أحمد باشا مختار في "رياض المختار مرآة الميقات والأدوار" (ص: 203، ط. الأميرية 1306هـ): [إن علماء الإسلام كانوا إلى القرن السابع أو الثامن من الهجرة النبوية يرسمون على آلاتهم الرصدية كالاسطرلاب وغيره خطوط الفجر، وألفوا في ذلك كتبًا ورسائل عديدة، ولكن ذلك مبنيًّا على اعتبارهم وقتَ الإمساك عند ابتداء الفجر؛ ولهذا لم يرسموا على آلاتهم خطوطًا أخر للإمساك... ولكن جرت العادة عند المتأخرين أن يعتبروا وقت الإمساك عندما تكون الشمس تحت الأفق الشرقي بقدر إحدى وعشرين درجة ونصف درجة، محسوبة على محيط دائرة سمت المحل؛ أي: دائرة ارتفاعه، وحيث إن الفجر يبتدئ في تسع عشرة درجة يكون وقت الإمساك متقدمًا عند المتأخرين على وقت الفجر بدرجتين ونصف درجة؛ أي بقدر: اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة دقيقة زمانية تقريبًا، وتُسمَّى في اصطلاحهم "بالتمكين"، والقصد منها: زيادة الاحتياط في ضبط وقت الإمساك] اهـ.
وهذه المسألة أجاب عنها مفتي الديار المصرية الأسبق فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف: [أن غاية إباحة الأكل والشرب هي طلوع الفجر وهو الفجر الصادق، فيحل له أن يأكل ويشرب إلى قبيل طلوعه بأيسر زمن، ويحرم عليه الأكل والشرب إذا طلع الفجر... ومن هذا يعلم أن الإمساك لا يجب إلا قبيل الطلوع، وأن المستحب أن يكون بينه وبين الطلوع قدر قراءة خمسين آية، ويقدر ذلك زمنا بعشر دقائق تقريبًا] اهـ.
وصنف فيها العلامة الفلكي المغربي محمد بن عبد الوهاب بن عبد الرازق الفاسي رسالته "إسماع مصغي الآذان، أن الإمساك لا يجب قبل الأذان".
فإذا أضيف إلى ذلك إقرارُ هذه الدرجة من علماء مصر طيلة هذه العقود، حيث كان علم الهيئة من العلوم المقررة في الأزهر الشريف، ولم ينكر ذلك أحد من أهل العلم والفتوى في مصر على مدى قرن من الزمان، مع توقف صلاتهم وصيامهم على صحة ذلك، وهم أئمة الأمة وسادة أهل العلم فيها، كان ذلك إجماعًا واضحًا من علماء مصر وفلكييها وأهل الهيئة فيها على صحة هذا التوقيت لأذان الفجر.
وبتأييد صحة العمل بهذه الدرجة (18-19.5) صدر بيان "مركز الفلك الدولي" بتاريخ 18 رمضان 1436هـ، الموافق 5 يوليو 2015م، مؤكدًا اتفاق المتخصصين على أنه لا صحة للقول بأن موعد الفجر المبين في التقاويم متقدم عن الوقت الحقيقي لطلوع الفجر الصادق، ومبينًا أن كل بلدان العالم الإسلامي قاطبة تجعل صلاة الفجر ما بين (18-19.5)، وأن ما يثار عن أن بعض الجمعيات الفلكية تعتمد الزاوية 15 غير صحيح على الإطلاق.
وهذه الدعاوى، وإن كانت تُساق بحجة الاطمئنان على صحة صلاة المسلمين، إلا أنها تنطوي في حقيقة أمرها على الطعن في عبادات المسلمين وشعائرهم وأركان دينهم التي أَدَّوْها ومارسوها عبر القرون المتطاولة؛ من صلاة وصيام وغيرهما، فضلًا عما تستلزمه من تجهيل علماء الشريعة والفلك المسلمين عبر كل هذه العصور إلى يومنا هذا.
ولا يخفى ما في الترويج لهذه الآراء الشاذة في المؤسسات الرسمية المصرية -بعد أن اتفقت كل الدول الإسلامية على نبذها واطِّراحها- من تقليل لهيبة مصر وإنقاص من ريادتها الدينية كمرجعية إسلامية في العالم كله، فبعد أن كسدت سوق هذه الأقوال الشاذة في كل المؤسسات الدينية ببلاد المسلمين، يأتي من يروج لها في بلد الأزهر الشريف قلعة الإسلام وحصن الشريعة!
ودار الإفتاء المصرية تهيب بعموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن لا يلتفتوا إلى هذه الدعاوى التي تهرف بما لا تعرف؛ تشكيكًا للمسلمين في صلاتهم وطعنًا في ثوابتهم، وأن لا يأخذوا أحكام الدين إلا من أهل العلم المؤهلين، ولا يتركوا عقولهم نهبًا لكل من هب ودب؛ ممن يخرج بين الفينة والأخرى طعنًا في الثوابت وتشكيكًا في القطعيات.
والله سبحانه وتعالى أعلم.