دخول الصالحين في البلاء العام

دخول الصالحين في البلاء العام

 لماذا ينزل بلاء عام ويدخل فيه الصالحون؟

 نزول البلاء سنةٌ كونيةٌ لتمحيص العباد، وابتلاء الله تعالى للعباد ليس مخصوصًا بالظالمين والعصاة والمذنبين، بل يصيب أيضًا الأنبياء والأولياء والصالحين، وابتلاء الله للصالحين لا يُعدّ هوانًا بهم أو ظلمًا لهم، وإنما هو علامةٌ على حبّه لهم، ورِفعةٌ في درجاتهم، ما لم يُقَصِّرُوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فأخرج البيهقي في "الآداب" عن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ الله إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»، وعنه رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ خَيْرًا ابْتَلَاهُمْ».

التفاصيل ....

 البلاء سُنَّةٌ إلهيةٌ ساريةٌ في الخلق، والدنيا دارٌ للابتلاء والامتحان، والبشرية كلها محلٌّ للبلوى، حتى إنَّ البشر في حال تقلُّبِهم في النعم لا يخلون من البلاء؛ قال العلامة محيي الدين ابن العربي في "الفتوحات المكية" (3/ 564، ط. دار الكتب العربية الكبرى): [واعلم أن البلايا أكثر من النعم في الدنيا؛ فإنه ما من نعمة ينعمها الله على عباده تكون خالصة من البلاء، فإن الله يطالبه بالقيام بحقها: من الشكر عليها، وإضافتها إلى من يستحقها بالإيجاد، وأن يصرفها في الموطن الذى أمره الحق أن يصرفها فيه، فمن كان شهوده في النعم هذا الشهود، متى يتفرَّغ للالتذاذ بها؟! وكذلك في الرزايا، هي في نفسها مصائب وبلايا، ويتضمنها من التكليف ما تتضمنه النعم من: طلب الصبر عليها، ورجوعه إلى الحق في رفعها عنه، وتلقيها بالرضى، أو الصبر الذي هو حبس النفس عن الشكوى بالله إلى غير الله... وقد علمت أن الدار دار بلاء، لا يخلص فيها النعيم عن البلاء وقتًا واحدًا] اهـ.
والبلاء في معهود كلام العرب يدور على معان عِدَّة، فيدل على: الاختبار والامتحان، وعلى الشيء إذا ما تَلِفَ وذهب رونقه، كما يدل أيضًا على الإخبار؛ قال العلامة ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (1/ 292-294، ط. دار الفكر): [الباء واللام والواو والياء، أصلان: أحدهما إِخْلَاقُ الشيء، والثاني نوعٌ من الاختبار، ويُحمل عليه الإخبار أيضًا] اهـ.
وعن مدى الترابط الوثيق بين المعاني الدلالية التي يشير إليها لفظ "البلاء" قال العلامة الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (1/ 145، ط. دار القلم): [يُقال: بَلِيَ الثوبُ بِلًى وبَلَاءً، أي: خَلِقَ... وبَلَوْتُهُ: اختبرته؛ كأني أخْلَقْته من كثرة اختباري له... ولذلك قيل: بلوت فلانًا: إذا اختبرته، وسُمِّيَ الغمُّ بلاءً من حيث إنه يُبلِي الجسم] اهـ.
ولقد ورد ذكر لفظ "البلاء" في القرآن الكريم في غير ما موضع؛ حيث جاء بصيغة المفرد النكرة في أربعة مواضع، وبصيغة المفرد المعرف بالألف واللام في موضع واحد.
والبلاء هو وجود الألم في نفس المُبتلَى؛ قال العلامة محيي الدين بن العربي في "الفتوحات المكية" (11/ 138، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب): [فاعلم أنَّ البلاء المحقَّق إنما هو: قيام الألم ووجوده في نفس المتألم] اهـ.
وقد تكون هذه الآلام حسيةً تصيب المُبتلَى في بدنه: كالجروح، والحروق، والأمراض وما أشبه ذلك، وقد تكون آلامًا نفسية: كضياع المال، والهم والغم، والمصيبة في الأهل والولد، ومثل هذه الأمور في العادة توجب الآلام، ومن ثمَّ يتعين شرعًا على المُبتلَى بها: الصبر، والرضى، والتسليم؛ لجريان الأقدار عليه بذلك؛ قال العلامة محيي الدين بن العربي في المرجع السابق (11/ 137): [ضياع المال، والمصيبة في الأهل والولد، والتوعد بالوعيد... مثل هذه الأمور في العادة يوجب الآلام؛ فيتعين شرعًا على المبتلى بها الصبر والرضى والتسليم لجريان الأقدار عليه بذلك] اهـ.
والعبادة هي الغاية من الخلق والإيجاد؛ لقول الله عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ولا يُتصور عبادةٌ أصلًا بغير تكليف، وكان التكليف عين البلاء؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾ [الإنسان: 2]، قال الإمام الواحدي في "الوجيز" (1/ 1175، ط. دار القلم): [خلقناه كذلك؛ لنختبره بالتَّكليف والأمر والنَّهي] اهـ. وإلى ذلك المعنى أيضًا أشار العلامة الألوسي في "روح المعاني" (15/ 169، ط. دار الكتب العلمية) فقال: [نَبْتَلِيهِ: مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف] اهـ.
وعن العلة التي من أجلها عُدَّ التكليف بلاءً، قال العلامة الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (1/ 145، ط. دار القلم): [وسُمِّي التكليف بلاءً من أوجه: أحدها: أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان، فصارت من هذا الوجه بلاءً. والثاني: أنَّها اختباراتٌ. والثالث: أنَّ اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسارِّ؛ ليشكروا، وتارة بالمضارِّ؛ ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعًا بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر] اهـ.
وقد ورد في السنة النبوية الشريفة كذلك ما يشير إلى البلاء العام وأسباب حصوله؛ ومن ذلك ما رواه ابن ماجه في "سننه" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا أَنْزَلَ اللهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ»، قال العلامة ابن الجوزي في "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (2/ 512، ط. دار الوطن): [قد يشكل هذا فيقال: كيف يصيب العذاب من لم يفعل أفعالهم؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن يكون فيهم راضيًا بأفعالهم، أو غير منكر لها، فيعذب برضاه المعصية، وسكوته عن الإنكار، فإن الصالحين من بني إسرائيل لما أنكروا على المفسدين ثم واكلوهم وصافوهم عم العذاب الكل. والثاني: أن يكون إصابة العذاب لهم لا على وجه التعذيب، ولكن يكون إماتة لهم عند انتهاء آجالهم، كما هلكت البهائم والمواشي في الطوفان بآجالها لا بالتعذيب] اهـ.
وقال العلامة ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (10/ 53، ط. مكتبة الرشد): [هذا الحديث يبين حديث زينب بنت جحش أنها قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نَعَم، إذَا كَثُر الخَبَث»؛ فيكون إهلاك جميع الناس عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي، ودلَّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ثمّ بعثُوا علَى أعمَالِهِم» أن ذلك الهلاك العام يكون طهرةً للمؤمنين، ونقمةً للفاسقين] اهـ.
فمن أهم الأسباب التي تجلب نزول البلاء كثرة الذنوب؛ روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها فزعًا يقول: «لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ».
قال القاضي عياض في "إكمال المُعلِم" (8/ 416، ط. دار الوفاء للطباعة والنشر): [في هذا الحديث من الفقه: تجنب أهل المعاصي والبعد عنهم، وتجنب مجالس الظلم وجموع البغي؛ لئلا يعم البلاء ويحيق بالجميع المكر... وأن المعاصي إذا كثُرت ولم تُنكر ولم تُغيَّر، عمت العقوبة؛ قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال:25] اهـ.
ومن أسباب نزول البلاء وعمومه كذلك عدم إنكار المنكر؛ قال العلامة أبو بكر بن العربي المعافري في "القبس" (1/ 1173، ط. دار الغرب الإسلامي): [قال عمر رضي الله عنه: "إن الله لا يُعذب العامة بذنب الخاصَّة، ولكن إذا عُمل المنكر جهارًا استحقوا العقوبة كلهم"، وخطبَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه الناس فقال: "يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتتأوَّلونها على غير تأويلها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105]، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده"] اهـ.
وقال العلامة ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (13/ 60، ط. دار المعرفة): [وجنح ابن أبي جمرة إلى أن الذين يقع لهم ذلك إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقًّا، لا يُرسل الله عليهم العذاب، بل يدفع بهم العذاب، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص: 59]. ويدل على تعميم العذاب لمن لم ينه عن المنكر وإن لم يتعاطاه قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: 140]. ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة؛ لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يُعِنْهم، ولم يَرْضَ بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم] اهـ.
وعلى هذا فإنَّ البلاء لا ينزل ويعمُّ إلا إذا كثُرت الذنوبُ وجُهِرَ بها ولم يُنه عنها، ولا يَرفع البلاءَ إلا التوبةُ النصوحُ والاستغفارُ؛ قال العلامة ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 497): [إن العباس لما استسقى به عمر قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولم يُكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك؛ لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث"، فأرخت السماء مثل الجبال، حتى أخصبت الأرض وعاش الناس] اهـ.
قال العلامة التجيبي في "المنتقى" (7/ 316، ط. مطبعة السعادة): [سألَت أمُّ سلمة زوجُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الأمة خاصة، واعتقدَت أنها لَمَّا لم تُعذب مع بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها، أنها لا تهلك ما دام فيها صالحٌ من أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأعلمها أنه ليس حال الصالح من أمته في ذلك كحاله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه قد تهلك جماعة من أمته فيها صالحٌ وصالحون] اهـ.
والعلة في ذلك تعود إلى كثرة انتشار المنكر، والجهر به وترك النهي عنه؛ فيصبح عامل المنكَر وتارك النهي عنه عاصيَيْن مستوجبَيْن نزولَ العقوبة، إلا أن يكون المنكِر له مُستَضعفًا لا يقدر على شيء فينكره بقلبه، فإن أصابه ما أصابهم، كان له بذلك كفارة وحُشِرَ على نيته؛ قال العلامة ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (10/ 6): [فإذا ظهرت المعاصي ولم تُغيَّر، وجب على المؤمنين المنكِرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، فإن لم يفعلوا فقد تعرضوا للهلاك، إلا أن الهلاك طهارةٌ للمؤمنين ونقمةٌ على الفاسقين، وبهذا قال السلف. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: تُهجر الأرض التي يُصنَع فيها المنكر جهارًا ولا يُستقر فيها] اهـ.
وقد بيَّن العلامة شمس الدين الكِرمانيُّ سبب شقاء الصالحين بفساد العصاة، وعدم سعادة العصاة بصلاح الصالحين، في "الكواكب الدراري" (24/ 190، ط. دار إحياء التراث العربي) فقال: [فإن قلت: لم لا يكون الأمر بالعكس، كما جاء لا يشقى جليسهم، وتغلُب بركة الخير على شؤم الشر؟! قلت: هو في القليل كذلك، بخلاف ما إذا كثُر الخبثُ؛ فإن الأكثر يَغْلِبُ الأقل، وحاصله أن الغلبة للأكثر] اهـ.
ومن هنا وجب على الصالحين البعدُ عن المجاهرين بالمعاصي؛ لئلا يشملهم ويعمهم نزول البلاء، قال العلامة القاضي عياض في "إكمال المُعْلِم" (8/ 416): [من الفقه: تَجَنُّبُ أهل المعاصي والبعد عنهم، وتَجَنُّبُ مجالس الظلم وجموع البغي؛ لئلَّا يعُمَّ البلاءُ ويحيق بالجميع المكر، وفيه أن من كثَّرَ سواد قوم فهو منهم، وأن المعاصي إذا كثُرتْ ولم تُنكر ولم تُغيَّر، عمَّت العقوبةُ؛ قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال:25] اهـ.
أما إذا كان الصالحون ممن قد أدى حقَّ الله عز وجل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم أدى حقَّ الأمة في النُّصح، وبذل الوُسع في ذلك، فيكون دخولهم في البلاء العامِّ النَّازِلِ حينئذٍ من قبيل تعظيم الأجر، وإرادة الخير والحب لهم؛ يدل على ذلك ما أخرجه الإمام البيهقي في "الآداب" باب (المؤمن قَلَّمَا يخلو من البلاء لِمَا يُرادُ به من الخير) عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ الله إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»، وعنه رضي الله تعالى عنه قال: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ خَيْرًا ابْتَلَاهُمْ».
والبلاء لا يكون مخصوصًا بالظالمين والعصاة والمذنبين، بل هو يصيب أيضًا الأمثال الكُمَّل من الأنبياء والأولياء والصالحين؛ والسرُّ في ابتلائهم مردُّه إلى وجود تناسبٍ بين شدة البلاء وعِظَم النِّعم التي نالوها؛ فقد روى الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ كَمَا يُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ»؛ قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (10/ 111): [والسر فيه أنَّ البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر، كان بلاؤه أشد؛ ومن ثمَّ ضُوعِف حدُّ الحُرِّ على العبد، وقيل لأمهات المؤمنين: ﴿مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب:30] اهـ.
وهو ما أشار إليه القاضي عِيَاض في "إكمال المُعْلِم" (8/ 39-40) حيث قال: [يخصُّ الله أنبياءه وأولياءه بذلك، بحسب ما خصَّهم به من قوة العزم والصبر والاحتساب؛ ليُتِمَّ لهمُ الخيرَ، ويُعَظِّمَ لهم به الأجر، ويستخرج منهم حالات الصبر والرضى، وتوفيةً لثوابهم؛ لتصابرهم في رحمة الممتحنين، والشفقة على المبتلين... وموعظةً لمن ليس في درجتهم؛ ليتأسُّوا بهم، ويقتدوا برضاهم وصبرهم] اهـ.
وإذا كان تعلق البلاء بالصالحين مقررًا بلسان الشريعة، فإن الواقع قد أيده، فلا يُعدُّ نزول البلاء في حق الصالحين هوانًا بهم أو ظلمًا لهم؛ قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (1/ 518، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [ومن ظنَّ أنَّ شدة البلاء هوانٌ بالعبد فقد ذهب لُبُّه وعميَ قلبه؛ فقد ابتُلِيَ من الأكابر ما لا يُحصى، ألا ترى إلى ذبح نبي الله يحيى بن زكريا، وقتل الخلفاء الثلاثة والحسين وابن الزبير وابن جبير، وقد ضُرِبَ أبو حنيفة وحُبِس ومات بالسجن، وجُرِّد مالكٌ وضُرب بالسياط وجُذبت يده حتى انخلعت من كتفه، وضُرِبَ أحمدُ حتى أغميَ عليه، وقُطع مِن لحمه وهو حيٌّ، وأُمِر بصلب سفيان فاختفى، ومات البُوَيْطِيُّ مسجونًا في قيوده، ونُفِيَ البخاريُّ من بلده، إلى غير ذلك مما يطول] اهـ.
وبناءً على ذلك: فإن نزول البلاء لا يعني غضب الله عز وجل على عباده، وإنما هو سنةٌ كونيةٌ لتمحيص العباد، لا فرق في ذلك بين الصالحين وغيرهم، بل يكون ابتلاءُ الله تعالى للصالحين علامةً على حبه لهم؛ فإنَّ الله تعالى إذا أحب عبدًا ابتلاه، كما أنَّ وجود الصالحين يمنع نزول البلاء العام ما لم ينتشر الفساد، أما إذا عم الفساد وانتشر في الأرض فإن البلاء ينزل بالجميع، وحينئذٍ قد يهلك الصالحون والمفسدون، ويكون هلاكُ الصالحين رِفعةً في درجاتهم، ما لم يُقَصِّرُوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا