تجريد الميت من ثيابه عند تغسيله

تجريد الميت من ثيابه عند تغسيله

هل يغسل الميت في ثيابه، أم يجرد ثم يستر بما تيسر؟ 

 تغسيل الميت في ثيابه أو تجريده منها راجعٌ إلى نظر أولياء الميت وحال بدنه ومهارة الغاسل وخبرته في تحقيق مقصد الشرع من الجمع بين التطهير والستر بحسب الإمكان؛ فإن أمكن تطبيق السنة التي غُسِّل عليها الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من عدم نزع الثياب مع تحقق التنقية والتطهير: فذلك أَوْلَى، وإن تعسر ذلك أو تعذر: فلا مانع من تجريده مع ستر عورته وجوبًا وستر سائر جسده استحبابًا؛ فإن حرمة الإنسان ميتًا كحرمته حيًّا.

التفاصيل ....

اتفق الفقهاء على مشروعية تغسيل الموتى، وأنَّه من الفروض الكفائيَّة الثابتة بالسُنَّةِ وإجماع الأُمَّة، والمتعلقة بحق الإنسان على أخيه؛ لِمَا ورد أنَّ الملائكة عليهم السلام غسَّلوا آدم على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام، وقالوا لولده: "هذه سُنَّة موتاكم" أخرجه عبد الرزَّاق في "المُصنَّف" وأحمد في "المُسند"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرجل المحرم الذي وقصته ناقته: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» متفقٌ عليه من حديث عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما.
قال الإمام العيني الحنفي في "البناية شرح الهداية" (3/ 180، ط. دار الكتب العلمية): [وقال صاحب "الدراية": هو واجبٌ على الأحياء بالسنة وإجماع الأمة] اهـ.
وقد أجمع الفقهاء على وجوب ستر عورة الميت أثناء غسله؛ لأنَّ حرمة الإنسان ميتًا كحرمته حيًّا، والجمهور على أن عورته من السرة إلى الركبة، وظاهر الرواية عند الحنفية أنها العورة المغلظة:
قال الحافظ ابن عبد البر في "الاستذكار" (3/ 4، ط. دار الكتب العلمية): [السُّنة المجتمع عليها: تحريم النظر إلى عورة الحي والميت، وحرمة المؤمن ميتًا كحرمته حيًّا، ولا يجوز لأحدٍ أن يُغسل ميتًا إلا وعليه ما يستره، فإن غُسِّل في قميصٍ فحسن، وستره كله حسن، وأقل ما يلزم من الستر له: ستر عورته] اهـ.
والأصل في تغسيل الميت في ثيابه: حديثُ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "لَمّا أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: والله ما ندري! أنجرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم؛ حتى ما منهم رجلٌ إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلِّمٌ من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغسلوه وعليه قميصه؛ يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم" أخرجه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه في "مسنديهما"، وأبو داود وابن ماجه في "السنن"، وابن الجارود في "المنتقى"، وابن حبان في "الصحيح"، والحاكم في "المستدرك" وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وقال الإمام النووي: إسناده حسن.
فمن العلماء من أخذ بعموم هذا الحديث في استحباب تغسيل الميت في ثوبه أو قميصه الذي يعم بدنه؛ لأن الأصل أنَّ ما كان سنّة في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو سنّة في حق غيره حتى يقوم دليل على التخصيص، وسترًا للميت وصونًا لكرامته؛ فإن الميت متى جُرِّد اطَّلع الغاسلُ على جميع أعضائه، وربما رأى على عورته، وقبل الموت كان يكره الاطلاع عليه، فكذلك بعد الموت، كما أنَّ الميت قد يحصل له من تغير البدن بالمرض ما يكره أن يُرَى منه حال حياته.
هذا قول الشافعية في الصحيح عندهم، والإمام أحمد في رواية، وبه قال القاضيان ابن العربي وعياض من المالكية ونقله عن العلماء، وفي معنى ذلك: استحباب ستر صدر الميت، وبه قال أشهب وابن سحنون.
قال الإمام الشافعي في "الأم" (1/ 302، ط. دار المعرفة): [والذي أحب من غسل الميت أن يوضع على سرير الموتى، ويغسل في قميص.. فإن لم يغسل في قميص ألقيت على عورته خرقة لطيفة تواريها، ويستر بثوب] اهـ.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "المُهذَّب" (1/ 239، ط. دار الكتب العلمية): [والأولى أن يُغَسَّل في قميصٍ؛ لِمَا روت عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غسَّلوه وعليه قميصٌ؛ يصبون عليه الماء ويدلكونه من فوقه، ولأنَّ ذلك أستَرَ؛ فكان أَوْلَى] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (2/ 99، ط. المكتب الإسلامي): [ويُغَسَّل في قميصٍ يلبسه عند إرادته غسله، ولنا وجه: أنَّ الأولى أن يجرد، والصحيح المعروف: هو الأوَّل] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدامة الحنبلي في "المُغني" (2/ 338): [روى المروزي عن أحمد أنه قال: يعجبني أن يُغَسَّلَ الميت وعليه ثوب يدخل يده من تحت الثوب. قال: وكان أبو قلابة إذا غسَّل ميتًا جلَّله بثوب.
قال القاضي: السنة أن يُغسَّل في قميص رقيق ينزل الماء فيه، ولا يمنع أن يصل إلى بدنه، ويدخل يده في كم القميص، فيمرها على بدنه والماء يصب، فإن كان القميص ضيِّقًا: فتق رأس الدخاريص، وأدخل يده منه. وهذا مذهب الشافعي؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم غسل في قميصه، وقال سعد رضي الله عنه: "اصنعوا بي كما صُنِعَ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"] اهـ.
وقال القاضي ابن العربي المالكي في "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" (1/ 438، ط. دار الغرب الإسلامي): [واعلموا، وفَّقكم الله تعالى، أن الميت كله عورة؛ فلذلك يستحب أن يغسل على ثوب، وقد نُهِيَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نزع قميصه حين غُسِّل فيه، وما أحسنَ الاقتداءَ به حيًّا وميتًا] اهـ.
وقال القاضي عياض المالكي في "إكمال المُعلم" (3/ 397، ط. دار الوفاء): [وفي أمره بغسله في القميص ونهيهم عن نزعه عنه عليه وآله الصلاة والسلام: ما يُستدل به على ستر جسد الميت، واستحب العلماء أن يُغسَل تحت ثوبٍ لتغيّر جَسَدِه بالمرض، وأنه كان في حياته يكره على أن يُطَّلَع على ذلك منه بتلك الصفة] اهـ.
وقال الإمام زروق المالكي في "شرحه على الرسالة" (1/ 408، ط. دار الكتب العلمية): [المازري: واستحب سحنون ستر صدره. ابن العربي: كله عورة فلا يجرد. عياض: واستحب العلماء غسله تحت ثوب إذا تغير بالمرض إذا كان يكره أن يطلع عليه وهو بتلك الصفة. الباجي: عن أشهب ستر وجهه وصدره، واستحب سحنون في نحيل الجسم ستر صدره، واختاره اللخمي بهذا القيد] اهـ.
بينما استحبَّ الحنفية والمالكية، والشافعية في قولٍ، وأحمد في رواية، وهو قول ابن سيرين، أن يجرد الميت من ثيابه ثم يوضع عليه ما يستره، على الخلاف فيما يجب ستره منه عند الغسل، فيُستَر ما بين السُّرّة والركبة؛ كما هو قول الجمهور وحُكِيَ فيه الإجماع، أو عورتُه المغلَّظة؛ كما هو ظاهر الرواية عند الحنفية.
واحتجوا بأن الحديث مخصوص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لعظيم حرمته، بدليل ما جاء فيه من قول الصحابة: "كما نجرد موتانا"، وأن التجريد أبلغ في تطهير جسد الميت وتنظيفه، وأوكد في صيانته عن النجاسة، أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه طيب في حياته ومماته، وليس شأنه صلى الله عليه وآله وسلم كشأن غيره.
قال العلَّامة برهان الدين الحنفي في "المحيط البرهاني" (2/ 154-155، ط. دار الكتب العلمية): [فقد اجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أن السنّة في سائر الموتى التجريد، والمعنى فيه، وهو أنَّ هذا غسل واجب، فلا يقام مع الثياب؛ اعتبارًا بحالة الحياة، وهذا لأنَّ المقصود من الغسل هو التطهر، والتطهير لا يحصل إذا غسل مع ثيابه؛ لأن الثوب متى تنجس الغسالة تتنجس يديه ثانيًا بنجاسة الثوب، فلا يفيد الغسل، فيجب التجريد..
أصلنا بين أمرين: بين أن نغسله في ثيابه حتى لا يطلع على عورته غيره، وبين أن يجرده فيقع الاحتراز عن نجاسة تصيبه من الثوب، والتجريد أولى؛ لأن صيانته عن النجاسة فرض، واطلاع الغاسل على عورة الميت مكروه. فكان مراعاة التطهير وأنه فرض: أولى من مراعاة الاطلاع على عورة الميت وأنه مكروه] اهـ.
وقال العلَّامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 300، ط. دار الكتب العلمية): [وأما بيان كيفية الغسل فنقول: يُجَرَّد الميت إذا أريد غسله عندنا، وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجرد بل يُغَسَّل وعليه ثوبه، استدلالًا بغسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث غُسِّلَ في قميصه، ولنا: أنَّ المقصود من الغسل هو التطهير، ومعنى التطهير لا يحصل بالغسل وعليه الثوب؛ لتنجس الثوب بالغسالات التي تنجست بما عليه من النجاسات الحقيقية، وتعذر عصره أو حصوله بالتجريد أبلغ؛ فكان أولى] اهـ.
وقال الإمَام أبو الوليد الباجي المالكي في "المنتقى شرح الموطأ" (2/ 2، ط. مطبعة السعادة): [والذي ذهب إليه مالك وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء إلى أنَّ الميت يُجرَّد عن قميصه للغسل، ولا يغسل على قميصه، وقال الشافعي: لا يجرد الميت ويغسل على قميصه.
ودليل ما ذهب إليه مالك: أن ما لم يكن عورة من الحي فليس بعورة من الميت كالوجه، وإذا لم يكن جسد الميت عورة فلا معنى لستره بالقميص؛ لأن تجريده منه أمكن لغسله وأبلغ في تنقيته.
قال أشهب في كتاب ابن سحنون: وإذا جُرِّدَ للغسل لا يطلع عليه إلا الغاسل ومَن يليه.
ووجه ذلك: أنها حالة لا يجوز للحي أن يطلع عليه فيها غالبًا إلَّا لضرورة وحسن الزي، فلا يطلع على الميت ما دام عليها إلا لضرورة] اهـ.
وقال العلَّامة شهاب الدين النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني" (1/ 287، ط. دار الفكر): [(تتمة): بقي من مستحبات الغسل تجريد الميت من ثيابه التي مات فيها، إلا ساتر عورته] اهـ.
وقال العلَّامة الدردير المالكي في "الشرح الصغير" (1/ 546، ط. دار المعارف): [(ووجب) على الغاسل (ستر عورته من سرته لركبتيه) الذكر مع الذكر والأنثى مع الأنثى] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدامة الحنبلي في "الشرح الكبير" (2/ 316، ط. دار الكتاب العربي): [(فصل) ويستحب تجريد الميت عند غسله ما سوى عورته، رواه الأثرم عن أحمد، وهذا ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي الخطاب، وإليه ذهب ابن سيرين ومالك وأبو حنيفة] اهـ.
وعلى ذلك: فمقصود الشرع في غسل الميت: تطهيرُه وإزالة الخبث والنجاسة عنه، مع المحافظة على كرامته وصونه وستر عورته مهما أمكن ذلك؛ فمن العلماء من غلَّب جانب الستر والصون فجعل الأَوْلَى تغسيل الميت في ثوبٍ يعم بدنه؛ تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، وهم الشافعية وأحمد في رواية وبعض المالكية، ومنهم من غلَّب جانب التطهير والتنقية وإزالة النجاسة وإماطتها عن الثياب، فجعل الأَولَى التجريد مع الستر بمئزر ونحوه؛ ليكون أعون على غسله وتنقيته، وهم الحنفية والمالكية.
والتحقيق: أن مآل القولين واحد؛ فإنه "لا يجوز لأحدٍ أن يغسل ميتًا إلا وعليه ما يستره" -كما يقول الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 160، ط. أوقاف المغرب)-، "فإن غُسِّلَ في قميصه فحسن، وإن سُتِرَ وجرد عنه قميصه وسُجِّي بثوبٍ غُطِّيَ به رأسُه وسائرُ جسمه إلى أطراف قدميه فحسن، وإلا فأقلُّ ما يلزم من ستره: أن تُستَرَ عورتُه" اهـ.
وبناءً على ذلك: فالخلاف في الوسائل لا في المقاصد، والأمر راجعٌ إلى نظر أولياء الميت وحال بدن الميت ومهارة غاسله وخبرته في تحقيق مقصد الشرع من الجمع بين التطهير والستر بحسب الإمكان؛ فإن أمكن تطبيق السنة التي غُسِّل عليها الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع تحقق التنقية والتطهير: فذلك أَوْلَى، وإن تعسر ذلك أو تعذر: فلا مانع من تجريده مع ستر عورته وجوبًا وستر سائر جسده استحبابًا؛ فإن حرمة الإنسان ميتًا كحرمته حيًّا.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

اقرأ أيضا