ما حكم اقتراح تغيير نظام السجون إلى مصانع إنتاج؟ حيث سأل أحد الأدباء الروائيين قال: إن الأستاذ توفيق الحكيم يطالب في كتابه "التعادلية" بإلغاء نظام السجون وتحويلها إلى مصانع وأدوات إنتاج؛ لأن عقاب مرتكب الشر بحبسه -أي بحرمانه من حريته- لا يتعادل مع الذنب الذي ارتكبه وأدى به إلى ضرر الغير، فثمن الجريمة أن يؤدي المذنب عملًا موازيًا للشر الذي ارتكبه بفعل الخير الذي يؤدي إلى نفع الغير، أما السجون فلا نفع لها إلا في تخريج طراز خطر ماهر مدرب من المجرمين المحترفين، وذلك عدا ما تؤديه السجون من انشطار في المجتمع بين أشرار وأخيار، فتخلق طبقتين بين الناس تحقد إحداهما على الأخرى، بينما الشر والخير ليس أصيلًا في الإنسان، وإنما يتعاقب عليه تعاقب الصحة والمرض، وطلب السائل إبداء الرأي فيما ذكر، وهل يجوز إلغاء السجون وتحويلها إلى مصانع وأدوات إنتاج كما رأى الكاتب أو لا؟
اقتراح تغيير نظام السجون إلى مصانع إنتاج
المحتويات
- أنواع العقوبات في الشريعة الإسلامية
- حكم اقتراح تغيير نظام السجون إلى مصانع إنتاج
- ما عليه الفتوى في هذه المسألة
أنواع العقوبات في الشريعة الإسلامية
أولًا: إن العقوبات في الشريعة الإسلامية نوعان: أحدهما مضبوط مقدر، وآخر غير مقدر.
والأول قسمان: أحدهما الحدود بأنواعها؛ وهي عقوبة مقدرة وجبت حقًا لله تعالى، وثانيهما القصاص بأنواعه؛ وهو عقوبة مقدرة وجبت حقًا للعباد وفيها حق الله. وهذا النوع بقسميه لا مجال للعقل ولا للاجتهاد فيهما، ولا يجوز للمحاكم تغيير أية عقوبة منه بأخرى، ولا تركها أو العفو عنها، وإنما يجوز فقط درؤها بالشبهة بالنسبة للحدود، وقبول العفو عنها من ولي المجني عليه بالنسبة للقصاص عدلًا ورحمة منه سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن الله جلت قدرته وحكمته الذي خلق الخلق عالم بطبائعهم وغرائزهم وأهوائهم ودائهم وأدوائهم، وهو أرحم الراحمين بهم وأرأف بعباده من خلقه قدَّر هذه العقوبات فأحكم وجوهها، وفاوت بين درجاتها على أحسن مثال وأحكم إتقان، فرتب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسًا ووصفًا وقدرًا؛ لعلمه بأن هذا أحسن علاج وأنسبه، فلم يشأ سبحانه أن يجعل لأحد من عباده مهما كان سلطانه وعقله وإدراكه وعلمه أن يغير شيئًا مما رآه علاجًا ناجعًا وبلسمًا شافيًا؛ لحكمة يعلمها ومصلحة للعباد يريدها.
النوع الثاني غير المقدر: وهو ما يسمى تعزيرًا، ويكون في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، ولم تأت الشريعة فيه بنوع معين ولا قدر محدود، وإنما تركت أمره إلى رأي الحاكم حسبما يرى المصلحة، والصحيح أنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ويجوز أن يقدر فيه الحاكم عقوبة الحبس.
وجميع العقوبات في الشريعة الإسلامية دائرة على ستة أصول: قتل -ومنه الرجم-، وقطع، وجلد، وتعزير، ونفي، وتغريم مال، ومن هذا يتبين أن السجن والحبس ليسا من العقوبات المقدرة في الشريعة الإسلامية.
حكم اقتراح تغيير نظام السجون إلى مصانع إنتاج
ثانيًا: إذا نظرنا على ضوء ما تقدم إلى اقتراح السيد الكاتب، فإننا نرى أن العقوبات التي هو بصددها عقوبات وضعية منصوص عليها في قانون العقوبات لزجر المجرم وتقويمه، ولمنع غيره من ارتكاب الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، وما دام الحاكم هو الذي وضع هذه العقوبات فإنه يجوز له تغييرها إذا ظهر له أن المصلحة تقضي بذلك، وذلك فيما عدا عقوبة القصاص التي نص عليها القانون وأوجبتها الشريعة؛ فإنه لا يجوز تغييرها ولا يتعرض الكتاب لها.
هذا كله من الناحية التشريعية، أما من ناحية المنطق والعقل والعرف والعادة والتجربة: فإن اقتراح تغيير العقوبات على الوجه الوارد بالكتاب -مع احترامنا لرأي الكاتب وتقديرنا للروح الطيبة التي أملته عليه- لا نوافقه عليه؛ لأن هذا الاقتراح وإن سبقتنا إليه بعض الدول الأجنبية فيما نعلم، إلا أننا لا نعلم مقدار نجاحه، ولم يجرب بعد التجربة الكافية للأخذ به.
وعلى فرض نجاحه فيها، فإن ذلك لا يبرر نجاحه عندنا؛ لاختلاف البيئة واختلاف درجة الثقافة، ونحن نتفق مع الكاتب في أنه يجب أن ترفع العقوبة من مستوى المجرم الأخلاقي، وأن يخرج بعد تنفيذ العقوبة عليه وقد تحولت نفسه إلى ناحية الخير، كما أننا نوافقه على أن نظام السجون لا يحقق هذه الغاية في كثير من الحالات، ولكننا لا نوافقه على النظام الذي اقترحه؛ لأنه يؤدي إلى تشجيع المجرمين على زيادة جرائمهم واستهانتهم بالعقوبة التي يعاقبون بها ما دامت لا تحد من حريتهم ولا تمنعهم من الحياة مع أزواجهم وأولادهم، كما أنها تؤدي إلى تشجيع من وقع عليه الضرر ليثأر لنفسه من غريمه ما دام لا يجد في العقوبة شفاء لغلته واقتصاصًا ممن اعتدى عليه.
ما عليه الفتوى في هذه المسألة
نرى تحقيقًا للغرض الذي يرمي إليه الكاتب أن تحول السجون إلى مصانع تنتج للأمة ما تحتاجها، فيعوض المسجون على المجتمع الأضرار المادية التي ألحقها به من طريق الصناعة والإنتاج، وأن يبقى المسجون في سجنه محرومًا من حريته، وأن يعامل المسجون المعاملة التي تتناسب مع حالته ودرجة إجرامه والتي توجهه الوجهة الصالحة، ونرى أيضًا تحويل بعضها إلى معاهد ومدارس ومستشفيات لتثقيف وتوجيه من يحتاج إلى التثقيف والتوجيه ومعالجة من يحتاج إلى العلاج الجسماني أو النفسي أو الروحي وغير ذلك مما هو معلوم.
وهذا هو الذي يتفق مع المنطق السليم ومع ما جبلت عليه النفوس البشرية من شر وحقد وحسد وضغائن وحب الانتقام وسلطان القوي على الضعيف.
وفي اعتقادي أنه لا علاج مع ما تقدم أنجح ولا بلسم أشفى سوى العمل الدائب على ارتفاع المستوى الخلقي بين الأفراد والجماعات وبذره في أعماق النفوس، على أن يقوم ذلك على دعائم قوية من التعاليم الدينية وحب الخير وبغض الشر وتطهير النفوس وحب الإخاء والتعاون على البر والتقوى ومعرفة حق الغير والنطق الحسن والاستقامة والسير في الطريق السوي ومعرفة واجبات كل فرد نحو ربه ونفسه وأسرته وعشيرته وجيرانه ووطنه، فإننا إن فعلنا ذلك ونجحنا قلَّت الجرائم وسادت الطمأنينة، وتقدمت الأمة وحصلنا على خير كثير، ولو أن الباحثين والكاتبين ممن لهم قراء بذلوا مجهودًا في هذا التدعيم الخلقي وخرجوا للمجتمع بكنوز تراثنا ومبادئ ديننا القويم وبثوا هذه الروح في الشعب ووجهوه الوجهة الصالحة لكان في ذلك كل الخير ولكان أجدى من تقليد الغير فيما لا يصلح لنا، ولكان فيه أيضًا كل العزة والكرامة فضلًا عما فيه من إرضاء الله والناس والوطن.
ومن هذا يعلم الجواب عن الاستفتاء، والله سبحانه الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
والله سبحانه وتعالى أعلم.