الرد على من زعم أن الإمام البخاري ليس فقيهًا

الرد على من زعم أن الإمام البخاري ليس فقيهًا

كيف نردُّ على من يُشَكِّكُ في علم الإمام البخاري ويزعم أنه مجرد راوٍ وليس فقيهًا؟

الإمام البخاري رحمه الله تعالى من فقهاء الأمة المعتبرين وأئمتها المجتهدين، وهو من العلماء الذين جمعوا بدقةٍ بالغة بين العلوم المختلفة، وقد شهد بإمامته في علم الفقه الفقهاءُ أنفسُهم، وهذا ما عليه السابقون واللاحقون من علماء المسلمين وأئمتهم من غير نكير، ولا يعْدُو هذا الطعن الأثيم في الإمام البخاري أن يكون جهلًا وسفاهةً وقلة حياء وضعف دين، وعلى المسلمين أن يتكاتفوا للدفاع عن أئمتهم وعلمائهم ضد هؤلاء المفسدين.

التفاصيل ....

الإمام الفقيه اللغويُّ المجتهد أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري [ت256هـ] صاحب "الصحيح"، رحمه الله تعالى ورضي عنه هو زَيْنُ هذه الأمة، وكان إمامًا حافظًا فقيهًا واعيًا.

وقد أجمع علماء المسلمين وأئمتهم وفقهاؤهم عبر القرون على إمامته وتقدمه.

وكما كان البخاري إمامًا في الحديث، فقد كان إمامًا في الفقه واللغة والتاريخ، وكان موصوفًا بالموسوعية التي لم تتأتَّ لغيره من المحدثين، حتى نُعِتَ بأنه كان آيةً من آيات الله وأمةً وحدَه، وأنه لم يكن في الدنيا مثله:

فوصفه شيخُه محمد بن بشار بُندَار بالسيادة على الفقهاء وأنه أفقه خلق الله في عصره؛ فلَمَّا قدم الإمام البخاري البصرة قال محمد بن بشار: دخل اليوم سيد الفقهاء.

وقال محمد بن يوسف: كنا مع أبي عبد الله عند محمد بن بشار، فسأله محمد بن بشار عن حديث، فأجابه، فقال: هذا أفقه خلق الله في زماننا، وأشار إلى محمد بن إسماعيل.

وقال عنه شيخاه الإمامان الحافظان يعقوب بن إبراهيم الدورقي ونُعَيمُ بن حماد المروزي: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة.

وقال عنه شيخُه قتيبة بن سعيد: لو كان مُحَمَّد بن إسماعيل في الصحابة لكان آية.

وقال الفربري: كنا عند قتيبة، فسئل عن طلاق السكران، فقال: هذا أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن المديني، قد ساقهم الله إليك، وأشار إلى البخاري.

وقال عبد الله بن سعيد بن جعفر: كنت أسمع أهل المعرفة بنيسابور ينظرون ويقولون: محمد أفقه من إسحاق؛ يعني: ابن راهويه.

وقال حاتم بن مالك الوراق: سمعت علماء مكة يقولون: محمد بن إسماعيل إمامنا وفقيهنا وفقيه خراسان.

وقال الإمام الحافظ أبو علي الحسين بن محمد المعروف بـعُبَيْدٍ العِجْلِ: كان محمد بن إسماعيل أُمَّةً مِن الأمم، وكان ديِّنًا فاضلًا، يُحسِنُ كلَّ شيء.

وقال الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي: كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير، فلما قام من عنده قال له: يا أبا عبد الله، جعلك الله زين هذه الأمة، قال الترمذي: استجيب له فيه.

وقال الحافظ موسى بن هارون الحمال: عندي لو أن أهل الإسلام اجتمعوا على أن ينصبوا مثل محمدِ بنِ إسماعيلَ آخَرَ ما قدروا عليه.

وكتب أهل بغداد إلى الإمام البخاري:

المسلمون بخير ما بَقِيتَ لهم ... وليس بعدك خيرٌ حين تُفتَقَدُ

وقال رجاء بن المرجى الحافظ: هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض.

وقال أبو الطيب حاتم بن منصور الكِسي: محمد بن إسماعيل آية من آيات الله في بصره ونفاذه من العلم.

وقال الإمام أبو جعفر عبد الله بن محمد الجعفي المسندي: محمد بن إسماعيل إمام، فمن لم يجعله إمامًا فاتَّهِمْه.

وجاء الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري [ت265هـ] للإمام البخاري، فقبل بين عينيه، وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذِين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، وقال له أيضًا: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك.

ويوصي الإمامُ الحافظُ إسحاق بن راهويه أصحابَ الحديث بالأخذ عن الإمام البخاري؛ فيقول: يا معشر أصحاب الحديث، انظروا إلى هذا الشاب واكتبوا عنه، فإنه لو كان في زمن الحسن بن أبي الحسن لاحتاج إليه الناس لمعرفته بالحديث وفقهه.

وقال شيخُه الإمامُ الحافظ الحجَّة محدِّث ما وراء النهر أبو زكريا يحيى بن جعفر بن أعين البيكندي [ت243هـ]: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت؛ فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم.

بل إن خصومه الذين قاطعوه بسبب مسألة اللفظ، كانوا يسألونه ويرجعون إلى قوله:

قال أبو حامد الأعمش: رأيتُ محمد بن إسماعيل البخاريَّ في جنازة أبي عثمان سعيدِ بن مروانَ، ومحمدُ بنُ يحيى يسأله عن الأسامي والكُنى وعللِ الحديث، ويَمُرُّ فيه محمدُ بن إسماعيل مثل السهم، كأنه يقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾، فما أتى على هذا شهر حتى قال محمد بن يحيى: ألا من يختلف إلى مجلسه لا يختلف إلينا؛ فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في اللفظ ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه، ومن يقربه فلا يقربنا.

ولمَّا ذُكِرَتْ قصةُ الإمام البخاري مع الإمام الذُّهلي للإمام الحافظ الحسين بن محمد المعروف بعبيدٍ العجلِ قال: ما له ولمحمد بن إسماعيل! كان محمد بن إسماعيل أمَّةً من الأمم، وكان أعلم من محمد بن يحيى بكذا وكذا، وكان محمد بن إسماعيل ديِّنًا فاضلًا يُحسن كل شيء.

ذكر هذه الأقوالَ وغيرَها الإمامُ الحافظ الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"، والإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات"، والحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، والحافظ ابن حجر العسقلاني في "تغليق التعليق"، وغيرهم. ولم يكن أهل الحديث وعلماء الآثار وأئمة المسلمين ليطلقوا هذا الثناء على الإمام البخاري جزافًا، فإنهم كانوا أحرص الناس على صياغة عباراتهم وضبط ألفاظهم؛ مدحًا أو قدحًا، ولذلك قال الإمام النووي بعد أن ساق كلام العلماء في فضله وعلمه وتقدمه وإمامته في كتاب "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 76): [عن أن تُحْصَى، وهي منقسمة إلى حفظ، ودراية، واجتهاد في التحصيل، ورواية، ونسك، وإفادة، وورع، وزهادة، وتحقيق، وإتقان، وتمكن، وعرفان، وأحوال، وكرامات، وغيرها من أنواع المكرمات، ويوضح ذلك ما أشرت إليه من أقوال أعلام المسلمين أولي الفضل والورع، والدين، والحفاظ والنقاد المتقنين، الذين لا يجازفون في العبارات، بل يتأملونها ويحررونها، ويحافظون على صيانتها أشدَّ المحافظات، وأقاويلهم بنحو ما ذكرته غير منحصرة، وفيما أشرت إليه أبلغ كفاية للمستبصر، رضي الله عنه وأرضاه، وجمع بيني وبينه وجميع أحبابنا في دار كرامته مع من اصطفاه، وجزاه عني وعن سائر المسلمين أكمل الجزاء، وحباه مِن فضله أبلغ الحباء] اهـ.

وقال الشيخ ابن تيمية في "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (1/ 184-185، ط. مكتبة الفرقان): [البخاري مِن أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحدًا أعلمَ بالعلل منه] اهـ.

وقال الإمام الذهبي في "الكاشف" (2/ 157، ط. دار القبلة): [وكان إمامًا حافظًا حجة رأسًا في الفقه والحديث مجتهدًا من أفراد العالم، مع الدين والورع والتأله] اهـ.

وقال أمير المؤمنين في الحديث الحافظ ابن حجر العسقلاني [ت852هـ] في "تقريب التهذيب": [جبل الحفظ وإمام الدنيا في فقه الحديث] اهـ.

وقال الحافظ السخاوي [ت902هـ] في "التحفة اللطيفة" (2/ 448، ط. الكتب العلمية): [الإمام العلم، حجة الله في أرضه على خلقه] اهـ.

وعلى ذلك: فقد صرَّح علماء المسلمين وأئمتهم عبر القرون بأن الإمام البخاري كان إمام زمانه. واجتماع كل هذه الطبقات على الشهادة له بالإمامة يجعل ذلك أمرًا قطعيًّا لا مرية فيه. ومما يزيد ذلك قطعيةً ورسوخًا ويقينًا: أن بعض هؤلاء الأئمة الشاهدين له بالعلم والإمامة والفهم كانت لهم معه مواقفُ قطيعةٍ وخصومةٍ أدت إلى خروجه من بلده؛ كالحافظ محمد بن يحيى الذُّهْلي، والإمامين الحافظين أبي زرعة وأبي حاتم، ولم يمنعهم ذلك من قول الحق والشهادة له بالتفرد والأهلية.

فإذا انضاف إلى ذلك: أن الأئمة قديمًا وحديثًا نقلوا الإجماع على إمامته، فإن ذلك يقطع كل شبهة ويرد كل تشغيب.

وبذلك يكون الطعن في الإمام البخاري رحمه الله تعالى خروجًا عن المسلك العلمي وشذوذًا عن المنهج الإسلامي، وذلك من وجوه عدة: ففيه إهدارٌ لشهادة أهل التخصص على اختلاف أزمانهم وبلدانهم وطبقاتهم؛ فقد ثبتت إمامته وأهليته وإتقانه، وإهدار شهادتهم مخالف لِمَا اتفق عليه العقلاء مِن الرجوع في كل علمٍ وفنٍّ إلى قول أهله، وقد قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].

والطاعنون في الإمام البخاري لا هُمْ من أهل التخصص، ولا هم أحالوا في طعنهم هذا على منهج علمي معياري بديلٍ يمكن الرجوع إليه، ولا يخفى أن في الطعن في الناقل طعنًا في المنقول.

ولذلك كثف أعداء الإسلام عبر القرون محاولاتهم اليائسة للطعن في نقلَةِ الحديث النبوي ورواة السنة النبوية الشريفة، يريدون التوصل بذلك إلى الطعن في السنة وإسقاط المصدر الثاني للشريعة، وفي الطعن في الإمام البخاري إمامِ أهل الصنعة الحديثية: طعنٌ في المعيار الذي انطلق منه أئمة أهل الحديث واعتمدوه، وبَنَوْا عليه هذه الشهادة في بيان علم الإمام البخاري وإمامته، وعلو شأنه ومكانته، وهذا طعنٌ في المنظومة العلمية الحديثية التي صرح الأئمة بتقدمه فيها؛ فإن الطاعنين في علمه وأهليته لا يعنيهم شخصه وإنما يريدون وصفه، ويقصدون إلى القدح في إمامته وأهليته الحديثية التي صرح الأئمة بتقدمه فيها، وهذا يئول إلى الطعن في المصدر الثاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم وهو السنة النبوية الشريفة، ثم هو خروج عن إجماع المسلمين عبر القرون على تقديم الإمام البخاري وإمامته، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وحذر القرآن الكريم من مخالفة الإجماع أيَّما تحذير، وجعل في هذه المخالفة مشاقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، واتباعًا لغير سبيل المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115].

وبناءً على ذلك: فالإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، إمام مجتهد من أكابر أئمة المسلمين في الفقه، ولا يخفى أن الطعن في علمه وإمامته نوع من الفسق المسقط لعدالة صاحبه وشهادته؛ لأن فيه مخالفة لما عليه إجماع المسلمين في قديم الدهر وحديثه، بل فيه اتهام للأمة كلها بالجهل والضلالة، وتسفيه لعلماء المسلمين عبر القرون حيث اتفقت كلمتهم على إمامته وتفوقه.

ولا يعدو هذا الكلام السيئ والطعن الأثيم في الإمام البخاري أن يكون جهلًا وسفاهةً وقلة حياء وضعف دين، فضلًا عن كونه مخالفًا للمنهج العلمي الذي اتفق عليه عقلاء البشر؛ مِن إرجاع الكلام في كل علم إلى أهله، واعتماد قول أهل التخصص فيه دون غيرهم.

وهذا الكلام الخارج عن سبُل التوفيق وسَنَن الهدى إنما يتوصل به أصحابُه إلى الطعن في المصدر الثاني للإسلام، ألا وهو السنة النبوية المشرفة التي يُعَدُّ الإمام البخاري علمًا من أعلامها ومنارة مِن منارات هداها، وهذا شأن المُضلِّين الساعين لإفساد العقول، الداعين إلى الطعن في تراث الأمة وعلومها ومعارفها، المشككين للناس في دينهم وعقائدهم، حتى يعود شباب الأمة لا يرون سلفهم وعلماءهم من أئمة الهدى إلا شُذَّاذ آفاق مُضِلِّين. فحسبنا الله ونعم الوكيل في كل جاهل سفيه يطعن في أئمة المسلمين وعلومهم ودينهم.

وعلى المسلمين أن يتكاتفوا للدفاع عن أئمتهم وعلمائهم ضد هؤلاء المفسدين، وأن يأخذوا على أيدي المغرضين، الذين يتكلمون فيما لا يحسنون، ويهرفون بما لا يعرفون، والله تعالى كفيل بهم، مبطلٌ لكيدهم، وسيذهبون كما ذهب غيرهم، وسيبقى الإمام البخاري رحمه الله تعالى ورضي عنه جبلًا شامخًا ومنار هدًى وعلامة فارقة في تاريخ الأمة وعلومها وتراثها؛ مصداقًا لقول الحق جل شأنه وتبارك اسمه: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17].

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا