ما حكم صلاة الجنازة على الميت الغائب؟ وهل يكون ذلك مسقطًا لفرض الصلاة عليه؟
حكم صلاة الجنازة على الغائب
أجمع العلماء على أنَّ صلاة الجنازة فرض كفاية؛ إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين.
والأصل في صلاة الجنازة أن تكون على ميت حاضر، ويجوز لمن لم يتمكن من الصلاة على الميت حاضرًا أن يصلي عليه غائبًا؛ سواء كانت الصلاة جماعةً أو فُرادى، وسواء أكان قد صُلِّي عليه أم لا، ويُسْقِط ذلك فرض الصلاة عليه.
التفاصيل ....المحتويات
- ترغيب الشرع في صلاة الجنازة وثواب ذلك
- حكم صلاة الجنازة
- حكم صلاة الجنازة على الغائب
- نصوص الفقهاء في صلاة الجنازة على الغائب
- الخلاصة
ترغيب الشرع في صلاة الجنازة وثواب ذلك
حثَّ الشرعُ الشريفُ على حضور صلاة الجنازة، ورتَّبَ عليها الأجرَ والثوابَ، وجعلها من حقِّ المسلم على أخيه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّي، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ»، قيل: وما القيراطان؟ قال: «مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ» متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خَمْسٌ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ: رَدُّ التَّحِيَّةِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَشُهُودُ الْجِنَازَةِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللهَ». أخرجه أحمد في "مسنده"، وابن ماجه في "سننه"، وغيرهما.
حكم صلاة الجنازة
قد أجمع العلماء على أنَّ حضور صلاة الجنازة؛ إذا قام بها البعض يسقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم بها أحد أثِمَ الجميع، وأنَّ شهودها من أعمال البر والخير الذي لا يُتْرَكْ:
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 311، ط. دار الكتب العلمية): [الإجماع منعقد على فرضيتها أيضًا، إلا أنها فرض كفاية؛ إذا قام به البعض يسقط عن الباقين؛ لأن ما هو الفرض وهو قضاء حقّ الميت يحصل بالبعض، ولا يمكن إيجابها على كل واحدٍ من آحاد الناس؛ فصار بمنزلة الجهاد، لكن لا يسع الاجتماع على تركها] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الاستذكار" (3/ 27، ط. دار الكتب العلمية): [أجمعوا أن شهود الجنائز خيرٌ وفضلٌ وعملُ برٍّ] اهـ. وقال (3/ 29): [وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين، من أهل الكبائر كانوا أو صالحين، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم قولًا وعملًا، واتفق الفقهاء على ذلك] اهـ. بتصرف.
حكم صلاة الجنازة على الغائب
الأصل في صلاة الجنازة أن تكون على ميت حاضر، غير أنَّه يُشرَعُ الصلاة على الغائب عن البلدة؛ جماعةً كانت أو فُرادى، ولا تؤثر غيبته في إسقاط الصلاة عليه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعى النجاشيَّ للناس في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلَّى، فصفَّ بهم، وكبَّر أربع تكبيرات" متفقٌ عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل له: لو صليت على أم سعد؟ فصَّلى عليها، وقد أتى لها شهر، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غائبًا" أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى".
نصوص الفقهاء في صلاة الجنازة على الغائب
قد نصَّ على مشروعيتها جمهور الفقهاء؛ في قولٍ عند المالكية واختاره بعضهم، وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة والظاهرية، مستدلين على ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبعموم أقواله في الصلاة على الجنازة، والأصل أنَّ العامَّ باقٍ على عمومه، ولا يُخصَّصُ إلَّا بدليل:
قال القاضي عياض المالكي في "إكمال المُعلم" (3/ 415، ط. دار الوفاء): [أجازَ ابن حبيب الصلاة عليه. قال الإمام: يَحتَجُّ بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي مَن قال مِن أصحابنا: إنَّ الغائب والغريق يُصَلَّى عليهِمَا] اهـ.
وقال العلامة أبو الطاهر بن بشير المالكي في "التنبيه على مبادئ التوجيه" (2/ 670، ط. دار ابن حزم): [وإذا فُقِدَ جازت الصلاة وإن كان غائبًا؛ كما فعله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته على النجاشي، وفي المذهب في الصلاة على الغائب قولان أيضًا] اهـ.
وقال العلامة ابن ناجي التنوخي المالكي في "شرح متن الرسالة" (1/ 269، ط. دار الكتب العلمية): [وحكى ابنُ القصار عن مالكٍ جوازها، وبه قال ابن وهب وغيره، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى على النجاشي بالمدينة] اهـ.
وقال إمام الحرمين الجويني الشافعي في "نهاية المطلب" (3/ 52، ط. دار المنهاج): [الصلاة على الغائب مشروعة عند الشافعي، والأصل فيه: "أنَّ النجاشي لما مات، وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبقيع، وصفّ الأصحاب وراءه، وصلَّوا على النجاشي بالحبشة"، ومعنى المذهب: أنَّ الغرض من الصلاة الابتهال إلى الله تعالى في التجاوز عن المتوفى، وهذا لا يختلف بالغيبة والشهود] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "شرح مسلم" (7/ 21، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيه -أي حديث النجاشي السابق- دليلٌ للشافعي ومُوَافِقِيهِ في الصلاة على الميت الغائب] اهـ.
وقال العلامة القسطلاني الشافعي في "إرشاد الساري" (2/ 422، ط. الأميرية): [واستدلّ به على مشروعية الصلاة على الغائب، وبه قال الشافعي رحمه الله، وأحمد، وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحدٍ من الصحابة منعه] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 382، ط. مكتبة القاهرة): [وتجوز الصلاة على الغائب في بلدٍ آخر بالنية؛ فيستقبل القبلة، ويُصَلِّي عليه كصلاته على حاضر، وسواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن، وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أو لم يكن، وبهذا قال الشافعي] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 533، ط. إحياء التراث العربي): [الصلاة على الغائب عن البلد؛ سواء كان قريبًا أو بعيدًا، وهو صحيح، وهو المذهب، وعليه الأصحاب] اهـ.
فالصلاة على الغائب جاء به نصٌّ قاطع، أغنى عن النظر، وإن كان النظر أنه تجب به الصلاة عليه؛ لأنَّ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلُّوا عَلىَ صَاحِبْكُمْ» عمومٌ يدخل فيه الغائب والحاضر، ولا يجوز أن يُخَصَّ به أحدُهُما، بل فرضٌ في كل مسلم دفن بغير صلاةٍ أن يُصَلّي عليه مَن بلغه ذلك من المسلمين، لأنها فرضٌ على الكفاية، وهو أمرُ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وَعَمَلُهُ، وعملُ جميعِ أصحابه، فلا إجماعَ أصحّ من هذا؛ كما في "المحلى بالآثار" للإمام ابن حزم الظاهري (3/ 363، ط. دار الفكر)، ثم قال: [فإن قالوا: هل فعَلَ هذا أحدٌ من الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلنا لهم: وهل جاء قطُّ عن أحدٍ من الصحابة أنه زجر عن هذا أو أنكره؟] اهـ.
ومَنْ لا يقول بالصلاة على الغائب: يَحمل الحديث -أي: حديث النجاشي- على الخصوص، أو على حضور الجنازة عنده صلى الله عليه وآله وسلم، ومَن يقول بها: ينازعه بأنَّ كلًّا منها محتاج إلى دليل؛ كما قال العلامة السندي في "حاشيته" (1/ 467، ط. دار الجيل).
وقد نصَّ جمهور الفقهاء على أنَّ ذلك لم يكن مخصوصًا به صلى الله عليه وآله وسلم دون أُمَّته، وإلَّا لأَبَانَ ذلك لهم، ولم يكن ليتركهم على فعل ما لا يجوز، فترْكه إياهم مع ظاهرِ فعله: دليلٌ على أنه أجاز فعله لهم، ولم يكن مخصوصًا بالنجاشي؛ حيث لم يكن بالحبشة مَن يصلي عليه؛ لأن النجاشي ملك الحبشة، وقد أسلم وظهر إسلامه، فيَبعُدُ أن يكون لم يوافقه أحدٌ يصلي عليه.
قال الإمام اللخمي المالكي في "التبصرة" (2/ 674، ط. أوقاف قطر): [القول بجواز الصلاة على الغائب أحسن؛ للحديث في النجاشي، ولو كان ممنوعًا لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان جائزًا له خاصةً لأبانه لأمته؛ لأنه عالمٌ أنَّ أمَّته تقتدي بأفعاله، ولم يكن ليتركهم على فعل ما لا يجوز، فتركه إياهم مع ظاهرِ فعله دليلٌ على أنه أجاز فعل ذلك لهم، ولا يعترض هذا بأنه رُفِعَ له؛ لأنه لم يأت بذلك حديث] اهـ.
وقال الإمام المُحقِّق ابن دقيق العيد المالكي في "إحكام الأحكام" (1/ 364، ط. السنة المحمدية): [ويحتاجون إلى الاعتذار عن الحديث. ولهم في ذلك أعذار؛ منها: ما أشرنا إليه من قولهم: إنَّ فرض الصلاة لم يسقط ببلاد الحبشة حيث مات؛ فلا بد من إقامة فرضها. ومنها: ما قيل: إنه رُفِعَ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فرآه، فتكون حينئذ الصلاة عليه كَمَيِّتٍ يراه الإمام ولا يراه المأمومون، وهذا يحتاج إلى نقلٍ يُثْبِتُهُ، ولا يُكْتَفَى فيه بمجرد الاحتمال] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (5/ 253، ط. دار الفكر): [مذهبنا جوازه، ومنعها أبو حنيفة. دليلنا: حديث النجاشي، وهو صحيحٌ لا مطعن فيه، وليس لهم عنه جوابٌ صحيح، بل ذكروا فيه خيالات أجاب عنها أصحابنا بأجوبة مشهورة؛ (منها): قولهم: إنه طويت الأرض فصار بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (وجوابه): أنه لو فُتِح هذا الباب لم يبقَ وثُوقٌ بشيءٍ مِنْ ظواهر الشرع؛ لاحتمال انحراف العادة في تلك القضية، مَعَ أنه لو كان شيءٌ من ذلك لتوفَّرت الدواعي بنقله] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 382): [ولنا: ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أنه نعى النجاشي صاحب الحبشة".. فإن قيل: فيحتمل أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم زويت له الأرض، فأُرِيَ الجنازةَ. قلنا: هذا لم يُنْقَلْ، ولو كانَ لأخْبَرَ به. ولنا: أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يثبت ما يقتضي اختصاصه، ولأن الميت مع البعد لا تجوز الصلاة عليه وإن رُئي، ثم لو رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاختصت الصلاة به، وقد صفَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فصَلَّى بهم. فإن قيل: لم يكن بالحبشة مَن يصلي عليه. قلنا: ليس هذا مذهبكم؛ فإنكم لا تجيزون الصلاة على الغريق والأسير ومن مات بالبوادي، وإن كان لم يصلَّ عليه، ولأن هذا بعيد؛ لأن النجاشي ملك الحبشة، وقد أسلم وظهر إسلامه، فيبعد أن يكون لم يوافقه أحدٌ يصلي عليه] اهـ.
فالحاصلُ: أنَّه لم يأت المانعون من الصلاة على الغائب بشيءٍ يُعْتَدُّ به سوى الاعتذار بأن ذلك مختصٌّ بمَن كان في أرضٍ لا يُصَلَّى عليه فيها، وهو أيضًا جمودٌ على قصة النجاشي يدفعه الأثر والنظر؛ كما في "نيل الأوطار" للإمام الشوكاني (4/ 63، ط. دار الحديث).
وقد أجمع كلُّ من أجاز الصلاة على الغائب أنَّ ذلك يُسْقِط فرض الكفاية، إلا ما حكي عن ابن القطان -أحدِ أصحاب الوجوه من الشافعية- أنه قال: يجوز ذلك ولا يسقط الفرض؛ كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في "فتح الباري" (3/ 189، ط. دار المعرفة).
الخلاصة
بناءً على ذلك: فالأصلُ في صلاة الجنازة أن تكونَ على ميتٍ حاضر، غير أنَّ غيبته عن البلدة لا تُؤَثِّر في مشروعية الصلاة عليه؛ فيجوز لمَن لمْ يتمكّن من الصلاة عليه حاضرًا أن يصلّي عليه غائبًا؛ جماعةً كانت الصلاة أو فُرادى، وسواء أكان قد صلِّي عليه أم لا، ويسقط ذلك فرض الصلاة عليه؛ نَصَّ على ذلك جمهور الفقهاء من السلف والخلف، وهو فعلُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام من بعده.
والله سبحانه وتعالى أعلم.