ما حكم الإفطار في رمضان لمرضى الشيخوخة وأصحاب الأمراض المزمنة في ظل ظروف انتشار الوباء؟
حكم إفطار أصحاب الأمراض المزمنة في ظروف انتشار الوباء
لكلٍّ من مرضى الشيخوخة وذوي الأمراض المزمنة حالته الصحية وظروفُه المرَضيَّة التي يُقدِّرها الأطباء المتخصصون، وللتعامل العلاجي معهم طرق متنوعة حسب حالاتهم، فإنْ رأى الأطباء احتياجهم للإفطار، وتناول الطعام دواءً أو غذاءً؛ لاستقرار ظروفهم الصحية، ومنع تفاقم حالاتهم المَرَضِيَّة، فإنَّ عليهم أنْ يفطروا، وأنْ يطعموا عن كل يوم مسكينًا، والواجب عليهم الأخذُ بنصيحة الأطباء؛ لما يغلب عليهم من ضعف المناعة، ويتأكد الوجوب في مثل هذه الظروف الوبائية التي يتضاعف فيها الخطر، ويجب على المريض فيها توخِّي مزيد الحذر.
التفاصيل ....المحتويات:
- مظاهر تيسير الشريعة على المسلمين أثناء الصيام
- حكم صيام المريض
- صيام المريض إذا غلب على ظنه حصول مشقة بسببه
- المرض الذي يبيح للصائم الفطر في رمضان
- الخلاصة
مظاهر تيسير الشريعة على المسلمين أثناء الصيام
صوم رمضان ركنٌ من أركان الإسلام، وفريضةٌ فرضها الله تعالى على كل مسلم بالغ عاقل صحيح مقيم مستطيع خالٍ من الموانع؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 183-184].
ومن سعة الشريعة الإسلامية ورحمتها بالمكلفين أن رفعت عنهم الحرج؛ فقال سبحانه وتعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءِ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» متفق عليه.
حكم صيام المريض
من أجل ذلك عقَّب اللهُ تعالى فرضَ الصوم بالتيسير على مَن يشق عليه؛ فرَخَّص في الإفطار للمريضِ إذا كان الصوم يزيد من شِدَّةِ مرضه أو مُدَّتِه، وللمسافر سفرًا تُقصَرُ فيه الصلاة، مع وجوب القضاء بعد زوال العذر، كما يُرخَّص في الإفطار لمَن كان مريضًا مرضًا يمنعه من الصوم ولا يُرجَى بُرؤُه، وعليه فديةٌ عن كل يوم إطعامُ مسكين؛ فقال سبحانه: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 184].
ومرضى الشيخوخة وذوو الأمراض المزمنة حالتهم أشدُّ في المرض، ومناعتهم أضعفُ أمام العدوى، وضعفهم أجْلبُ للرخصة؛ ولذلك خُصُّوا في آية الصيام بمزيد اعتناء؛ رحمةً بهم وشفقةً عليهم؛ فقال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184].
والمقصود بذلك عند كثير من المفسرين: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم، والمريض الذي لا يُرْجَى برؤُه؛ فهؤلاء يُكَلَّفُونَ بالصوم ولا يطيقونه، فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم مسكينًا؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "رُخِّصَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعَجُوزِ الْكَبيرَةِ فِي ذَلِكَ وَهُمَا يُطِيقَانِ الصَّوْمَ؛ أَنْ يُفْطِرَا إِنْ شَاءَا، وَيُطْعِمَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]؛ فَثَبَتَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعَجُوزِ الْكَبِيرَةِ؛ إِذْا كَانَا لَا يُطِيقَانِ الصَّوْمَ، وَالْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ؛ إِذَا خَافَتَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا" أخرجه البيهقي -واللفظ له- والدارقطني في "السنن"، وصححه الحاكم في "المستدرك".
ومن المعلوم أنَّ المرضى أشدُّ ضعفًا وأكثرُ عرضةً للعدوى؛ نظرًا لما قد يعانونه من ضعْف المناعة، والاحتياج المستمر للغذاء والدواء، وللتعامل العلاجي معهم طرق حسب حالاتهم:
فقد يتمّ علاج المرضى بمجرَّد تنظيم الوجبات الغذائية مع ممارسة التدريبات البدنية، ولا خوف عليهم من الصوم، فعليهم أن يصوموا، خاصةً إذا كان مرضهم في الدرجات الأولى التي لا يضرّ بها الصيام، ولكن إذا رأى الطبيب الفطر لتضرّر المريض بالصيام، فعليه حينئذٍ الأخذ بالرخصة.
وقد يحتاج المرضى للدواء مع تنظيم برنامج الغذاء: فمنهم مَنْ يحتاج الدواء مرَّة واحدة في اليوم، فهذا لا إشكالَ في صومه؛ لإمكان أخذ الدواء قبل الفجر، ومنهم من يحتاج لتناول الحبوب مرتين أو ثلاثًا يوميًّا، فإن أمكنه أخذها قبل الفجر وبعد الإفطار دون ضرر يلحقه فعليه أن يصوم، وإن كان يضرّ به تأخير الحبوب فعليه أن يأخذها ويترك الصوم.
وقد يحتاج المرضى للتداوي بالحقن أو بما لا ينفذ إلى الجوف؛ فصيامهم جائز شرعًا؛ لأن الدواء المفطر إنما هو ما وصل عمدًا إلى الجوف المنفتح أصالةً انفتاحًا ظاهرًا محسوسًا، وانفتاح المسام والشعيرات الدموية والأوردة والشرايين بالحَقْن الوريدي، أو الجلدي، أو العضلي، أو نحو ذلك ليس ظاهرًا ولا محسوسًا، فلا يَصْدُقُ على المادة المحقونة بها أنَّها وصلت إلى الجوف عن طريق مَنْفَذٍ طَبَعِي مفتوح، سواء أكانت في الوريد أم في العضل أم تحت الجلد، وسواء أكانت دواءً أم غذاءً.
صيام المريض إذا غلب على ظنه حصول مشقة بسببه
إن غلب على ظنّ المريض أنّه إنْ صام حصلت له مشقَّة، أو صام ثم حصلت له المشقة باشتداد وطأة المرض عليه، أو باحتياجه إلى الدواء؛ جاز له أن يفطر، بل ويجب عليه ذلك إذا خشي الهلاك؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].
ولا تحصل غلبة الظن هذه إلا بإخبار الطبيب الثقة المختص، وليس بمجرد الخوف المتوَهَّم؛ لأنَّ الناس في التحمل متفاوتون، فلكلّ طاقته واحتماله، وظروفه وأحواله في مدى الحاجة إلى الدواء والغذاء، وكون الطبيب هو المنوط بذلك؛ إنّما هو لعلمه بالتجربة الطبية، ومعرفته بحالة المريض بعد فحصه، وما تستدعيه من القدرة على تحمّل الصوم من عدمه، ومدى تأثير ذلك على اشتداد المرض عليه أو بُرْئِه، أمَّا مجرد شعور المريض بأوهام عالقة في الذهن، أو مخاوف مبناها على مجرد الظن؛ فلا ينبني عليه شيء؛ لأنَّ خوف المرض في حد ذاته قد يتحوّل إلى مرض يحتاج إلى علاج، خاصة إذا كان غيرَ مبرَّرٍ ولا شواهد عليه، فإن تمكن منه الخوف بالفعل أخذ بمشورة الطبيب في حالته، وهذا لا ينافي استعمال وسائل الوقاية، أو أسباب العلاج، بل على الإنسان فعل ذلك مع الثقة بالله واليقين، بعيدًا عن التهويل والتهوين، ويزداد وجوب الحرص وأخذ الحذر إذا كان المرضُ وباءً، لم يعرف له الطب دواءً، وكان الوباءُ مُعديًا؛ فإنَّ الخطورة فيه كبيرة؛ مع سريان العدوى وانتشار المرض على المستوى العالمي، فتزداد حينئذ أهمية استعمال إجراءات الوقاية، وتشتد الحاجة إلى تناول أغذيةِ تقويةِ المناعة، على مستوى الفرد والجماعة؛ كما يقرّرها الأطباء المختصون.
قال الإمام العيني الحنفي في "منحة السلوك في شرح تحفة الملوك" (ص: 270، ط. أوقاف قطر): [قوله: (المريض إذا خاف شدة مرضه أو تأخر برئه: أفطر)؛ لأن ذلك قد يفضي إلى الهلاك، فيجب الاحتراز عنه، وطريق معرفته: الاجتهاد، فإذا غلب على ظنه: أفطر، وكذا إذا أخبره طبيب حاذق عدل] اهـ.
وقال العلامة الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (1/ 535، ط. دار الفكر): [(و) جاز الفطر (بمرضٍ خاف) أي: ظن لقول طبيبٍ عارف أو تجربة أو لموافق في المزاج (زيادته أو تماديه) بأن يتأخر البرء، وكذا إن حصل للمريض بالصوم شدة وتعب، بخلاف الصحيح، (ووجب) الفطر لمريضٍ وصحيحٍ (إن خاف) على نفسه بصومه (هلاكًا أو شديدَ أذًى)؛ كتعطيل منفعةٍ من سمعٍ أو بصرٍ أو غيرهما؛ لوجوب حفظ النفس] اهـ.
وقال العلّامة الشَّبْرامَلِّسي الشافعي في حاشيته على "نهاية المحتاج" للإمام الرملي (3/ 194، ط. دار الفكر): [وينبغي في اعتماد الخوف المذكور: أنه لا بدَّ من إخبار طبيب مسلم عدل] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (1/ 501، ط. دار الكتب العلمية): [(ويكفي من الطبيبِ غلبةُ الظن)؛ لتعذر اليقين، (ونص) أحمد (أنه يفطر بقول) طبيب (واحد) أي: مسلم ثقة (إنَّ الصوم مما يُمَكِّنُ العِلَّةَ)] اهـ.
المرض الذي يبيح للصائم الفطر في رمضان
ما عليه المذاهب الفقهية المتبوعة: أنَّه ليس كلُّ مرضٍ يصيب المكلَّفَ مرخصًا له في الإفطار، بل نصوا على أنَّ مِن الأمراض ما ينفع معها الصومُ في شفاء مَرْضاها؛ فيكون الصوم خيرًا لهم من الإفطار، وإنما تكون رخصةُ الفطر في المرض الذي يزداد بالصوم شِدّةً أو مُدّةً منوطةً بإخبار الطبيب المختص الماهر، أو كان لا يستطيع المريض معه الصوم، أو يستطيعه بمشقة شديدة، وربما كان الإفطارُ في بعض الحالات واجبًا؛ إذا كان الضرر بالغًا، واحتمالُ حصوله غالبًا.
قال الإمام علاء الدين البخاري الحنفي في "كشف الأسرار" شرح أصول الإمام البزدوي (4/ 376، ط. دار الكتاب الإسلامي): [المرض لم تتعلق الرخصة بنفسه؛ لأنَّه متنوع إلى ما يضرّ به الصوم، وإلى ما لا يضرّ به بل ينفعه؛ فلذلك تعلقت الرخص بالمرض الذي يوجب المشقة بازدياد المرض لا بما لا يوجبها؛ ألا ترى أنَّه لو حدث به بَرَصٌ في حال الصوم لا يمكن أن يُرَخَّصَ له بالإفطار، مع أنَّه من الأمراض الصعبة؛ فعرفنا أنَّ الحكم غير متعلق بنفس المرض] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (2/ 261، ط. دار الفكر): [وجاز الفطر بسبب مرض خاف زيادته؛ ومنه: حدوث علة، أو تماديه بالصوم، وبعبارة أخرى: أي: زيادة نوعه بأن تحدث له علة أخرى، فإن خاف على نفسه الهلاك، أو أن يلحقه مشقة عظيمة: فإنه يجب عليه الإفطار؛ لأنَّ حفظ النفوس واجب ما أمكن] اهـ.
قال الإمام العدوي في "حاشيته عليه" (2/ 261): [(قوله: خاف زيادته) إما بقول طبيب عارف -ولو ذميًّا عند الضرورة- كما قاله البدر، أو علم ذلك في نفسه بتجربة، أو ممَّن هو موافق له في المزاج كما تقدم. واعلم أنَّ الصحيح إذا خاف بصومه الهلاك، أو شدة الأذى: يجب عليه الفطر، ويرجع في ذلك لأهل المعرفة] اهـ.
وقال العلامة الشمس الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (3/ 185، ط. دار الفكر): [(ويُباح تركُه للمريض إذا وجد به ضررًا) شديدًا.. وشمل الضررُ: ما لو زاد مرضُه أو خشي منه طولَ البُرء.. قال في "الأنوار": ولا أثر للمرض اليسير؛ كصداعٍ، ووجع الأذن والسن، إلا أن يخاف الزيادة بالصوم؛ فيفطر] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 156، ط. مكتبة القاهرة): [المرض لا ضابط له؛ فإنَّ الأمراض تختلف؛ منها: ما يضرّ صاحبَه الصومُ، ومنها: ما لا أثر للصوم فيه؛ كوجع الضرس، وجرح في الإصبع، والدمل، والقرحة اليسيرة، والجرب وأشباهِ ذلك؛ فلم يصلح المرض ضابطًا، وأمكن اعتبار الحكمة؛ وهو: ما يخاف منه الضرر؛ فوجب اعتباره] اهـ.
وقال الإمام ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (4/ 437، ط. مؤسسة الرسالة): [ولا يفطر مريض لا يتضرّر بالصوم "و" (أي: اتفقت المذاهب الثلاثة في ذلك مع الحنابلة) وجزم به في "الرعاية" في وجعِ رأسٍ، وحُمّى، ثم قال: قلتُ: إلَّا أن يتضرّر] اهـ.
الخلاصة
وبناءً على ذلك: فإنَّ مرضى الشيخوخة وذوي الأمراض المزمنة حالتهم أشدُّ، ومناعتهم أضعف، ممَّا يجعلهم أكثرَ عرضةً لعدوى الوباء، وفي احتياج مستمر للغذاء والدواء، وهم مخصوصون في آية الصيام بمزيد الاعتناء، ولكلٍّ منهم احتمالُه وظروفُه المرَضيَّة التي يُقدِّرها الأطباء المتخصصون، وللتعامل العلاجي معهم طرق متنوعة حسب حالاتهم، فإنْ رأى الأطباء احتياجهم للإفطار، وتناول الطعام دواءً أو غذاءً؛ لاستقرار ظروفهم الصحية، ومنع تفاقم حالاتهم المَرَضِيَّة، فإنَّ عليهم أن يفطروا، وأن يطعموا عن كل يوم مسكينًا، والواجب عليهم الأخذُ بنصيحة الأطباء؛ لما يغلب عليهم من ضعف المناعة، ويتأكد الوجوب في مثل هذه الظروف الوبائية التي يتضاعف فيها الخطر، ويجب على المريض فيها توخِّي مزيد الحذر.
والله سبحانه وتعالى أعلم.