سائل يقول: حلفتُ يمينًا على ألَّا أفعل شيئًا معيَّنًا، لكنِّي نسيت وفعلته؛ فما الحكم؟ وهل تلزمني الكفارة؟
مدى وجوب الكفارة على من حلف ألا يفعل شيئًا وفعله ناسيًا
من حلف على فعل شيءٍ أو تركِهِ ثم فعل خلاف ما حلف عليه ناسيًا؛ فإنَّه لا يحنث ولا تلزمه الكفارة مطلقًا؛ وذلك لعموم الأدلة التي تؤكد رفع الإثم عن الناسي وأنَّه لا جناح علينا إلَّا فيما تعمَّدت قلوبنا، وهذا مذهب متأخِّري المالكية والشافعية في الأظهر، والحنابلة في رواية عندهم.
التفاصيل ....المحتويات
مدى وجوب الكفارة على من حلف ألا يفعل شيئًا وفعله ناسيًا
الحنث في اليمين هو: مخالفة ما حَلَف عليه بالفعل أو الترك. ينظر: "شرح مختصر خليل" للعلامة الخرشي (3/ 71، ط. دار الفكر).
فإن خالف الشخص ما حَلَف عليه عامدًا: فقد اتَّفق الفقهاء على أنَّه يحنث في يمينه، وتجب عليه الكفارة، وهي على المعمول به الآن: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فمَن عجز عن ذلك وجب عليه صيام ثلاثة أيام؛ لقوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89]. يُنظر: "المبسوط" للإمام السرخسي (8/ 144، ط. دار المعرفة) و"شرح مختصر خليل" للعلامة الخرشي (3/ 60) و"المجموع" للإمام النووي (18/ 113، ط. دار الفكر) و"المغني" للإمام ابن قدامة (9/ 538، ط. مكتبة القاهرة).
وإن خالف ما حلف عليه ناسيًا: فقد ذهب جمهور الفقهاء، من الحنفية والمالكية والشافعية في قولٍ، والحنابلة في روايةٍ إلى أنَّه يحنث.
قال الإمام ابن عابدين في حاشيته المسماة "رد المحتار" (3/ 369، ط. دار الفكر): [اعلم أنَّ المقرَّر عندنا أنَّه يحنث بفعل المحلوف عليه، ولو مُكرهًا، أو مُخطئًا، أو ذاهلًا، أو ناسيًا، أو ساهيًا، أو مغمى عليه، أو مجنونًا] اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله الموَّاق في "التاج والإكليل" (4/ 446، ط. دار الكتب العلمية): [مذهب مالك وأصحابه: أنَّ الناسي يحنث بنسيانه] اهـ.
وقال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (15/ 367، ط. دار الكتب العلمية): [من حلف لا يفعل شيئًا ففعله ناسيًا، أو جاهلًا، أو مُكرهًا، ففي حَنْثهِ قولان: أحدهما: يحنث به، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل] اهـ.
واستدلوا على ذلك بعموم قول الله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ [المائدة: 89]، ولم يفرق بين عامدٍ وناسٍ. يُنظر: "بداية المجتهد" للإمام ابن رشد (2/ 177، ط. دار الحديث).
وذهب متأخِّرو المالكية، والشافعية في الأظهر، وهو المذهب عند الحنابلة: إلى أنَّه لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيًا.
قال العلامة أبو عبد الله المواق في "التاج والإكليل" (4/ 446) في حكم مَن فعل المحلوف عليه ناسيًا: [ورأى بعض المتأخِّرين من محقِّقي الأشياخ نفي الحنث، كمذهب الشافعي، وقد أرادوا تخرجه من المذهب] اهـ.
وقال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (11/ 78-79، ط. المكتب الإسلامي): [فصل: في حنث الناسي والجاهل والمُكره، فإذا وُجِدَ القول أو الفعل المحلوف عليه على وجه الإكراه أو النسيان أو الجهل، سواء كان الحلف بالله تعالى أو بالطلاق، فهل يحنث؟ قولان، أظهرهما: لا يحنث] اهـ.
وقال العلامة المرداوي في "الإنصاف" (22/ 583، ط. دار هجر): [وإن حلف لا يفعل شيئًا، ففعله ناسيًا وكذا جاهلًا حنث في الطَّلاق والعتاق، ولم يحنث في اليمين المكفِّرة، في ظاهر المذهب، وهو المذهب.. وعنه: يحنث في الجميع.. وعنه: لا يحنث في الجميع، بل يمينه باقية، وقدمه في "الخلاصة"، وهو في "الإرشاد" عن بعض أصحابنا؛ قال في "الفروع": وهذا أظهر؛ قلت: وهو الصواب، واختاره الشيخ تقي الدين] اهـ.
واستدلوا على ما ذهبوا إليه بقول الله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 5] فكان رفع الجناح في الخطأ موجبًا لإسقاط الكفارة عن الناسي.
وبما رواه ابن عباس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» رواه الإمام ابن ماجه في "سننه".
فكان حُكم الأيمان داخلًا في عموم هذا التجاوز؛ ولأنَّ مطلق النواهي في الشرع محمول على العمد دون السهو، كالكلام في الصلاة والأكل في الصيام، كذلك في الأيمان. يُنظر: "الحاوي الكبير" للإمام الماوردي (15/ 367).
المختار للفتوى في هذه المسألة
المختار للفتوى: أنَّ مَن فعل المحلوف عليه ناسيًا لا يحنث ولا تلزمه الكفارة مطلقًا؛ وهو مذهب متأخِّري المالكية والشافعية في الأظهر، والحنابلة في رواية؛ وذلك لعموم الأدلة التي تؤكد رفع الإثم عن الناسي وأنَّه لا جناح علينا إلَّا فيما تعمَّدت قلوبنا، ولأنَّ النسيان لا حكم له في الشرع.
الخلاصة
بناءً على ذلك: فإنَّ مَن حلف على فعل شيءٍ أو تركِهِ ثم فعل خلاف ما حلف عليه ناسيًا؛ فإنَّه لا يحنث ولا تلزمه الكفارة مطلقًا لما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.