ما حكم بخار النجاسة ودخانها؟ حيث وقعت نجاسة على ثيابي فقمتُ بغسلها بماءٍ ساخن؛ فهل يُعتبر البخار المتصاعد أثناء الغسيل طاهرًا أو نجسًا؟
حكم بخار النجاسة ودخانها
البخار الناتج عن غسل الثياب المتنجسة بالماء الساخن طاهر، وإذا أصاب شيئًا فلا ينجسه؛ وذلك لتغير عينها، وقياسًا على خروج الريح من الآدمي فإنه لا ينجس ما لاقاه من الثوب مطلقًا، ودفعًا للحرج وتعذُّر التَّحرُّز عنه.
التفاصيل ....المحتويات
- حث الشرع على الطهارة
- مفهوم البخار
- آراء المذاهب الفقهية الأربعة في حكم بخار النجاسة ودخانها
- المختار للفتوى في حكم بخار النجاسة ودخانها
- الخلاصة
حث الشرع على الطهارة
حثَّ الشرع الشريف على طهارة الثوب والبدن؛ فقال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّر﴾ [المدثر: ٤]؛ قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (30/ 698، ط. دار إحياء التراث): [﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّر﴾ عن تلك النجاسات والقاذورات] اهـ.
وروى الشيخان في "صحيحيهما" -واللفظ للبخاري- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبرين، فقال: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ».
وأثنى الله تبارك وتعالى على المتطهرين، فقال تعالى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: ١٠٨].
مفهوم البخار
البخار في اللغة: كل شيء يسطع من ماء حارٍّ أو من الندى، ومنه البخور: وهو دخنة يتبخَّر بها. ينظر: "العين" للخليل بن أحمد (4/ 259، ط. دار الهلال)، و"تهذيب اللغة" لأبي منصور الهروي (7/ 158، ط. دار إحياء التراث).
واستعمله الفقهاء في الاصطلاح الشرعي بمعناه اللغوي. ينظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل" (1/ 22، ط. دار الكتب العلمية)، و"نهاية المحتاج" للإمام الرملي (1/ 247، ط. دار الفكر).
آراء المذاهب الفقهية الأربعة في حكم بخار النجاسة ودخانها
الفقهاء مختلفون في طهارة البخار المتصاعد من النجاسة؛ وكان خلافهم على النحو الآتي:
فذهب إلى طهارته مطلقًا الحنفية في الصحيح، والمالكية في المعتمد (اختاره ابن رشد الجد)، والحنابلة في مقابل ظاهر المذهب (وهو اختيار ابن تيمية)؛ قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (1/ 325، ط. دار الفكر): [نقل في "الحلية": ... وما يصيب الثوب من بخارات النجاسة، قيل: ينجسه، وقيل: لا، وهو الصحيح] اهـ.
وجاء في "الفتاوى الهندية" (1/ 47، ط. دار الفكر): [ما يصيب الثوب من بخارات النجاسات لا يتنجَّس بها، وهو الصحيح.. ودخان النجاسة إذا أصاب الثوب أو البدن الصحيح أنَّه لا ينجسه، هكذا في السراج الوهاج] اهـ.
وقال الشيخ الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (1/ 57-58، ط. دار الفكر): [(ورماد نجس) بفتح الجيم عين النجاسة وبكسرها المتنجس، ولفظه هنا يحتملهما بناءً على أنَّ النجاسة إذا تغيرت أعراضها لا تتغير عن الحكم الذي كانت عليه عملًا بالاستصحاب، والمعتمد أنَّه طاهر (ودخانه) ضعيف، والمعتمد طهارته أيضًا] اهـ. قال العلامة الدسوقي محشِّيًا عليه: [(قوله: والمعتمد أنَّه) أي: دخان النجس طاهر] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (21/ 71، ط. مجمع الملك فهد): [الدخان والبخار المستحيل عن النجاسة طاهر؛ لأنَّه أجزاء هوائية ونارية ومائية؛ وليس فيه شيء من وصف الخبث] اهـ.
وذهب إلى نجاسته الحنابلة في ظاهر المذهب -شريطة أن يتكثف منه ماء، ويُعفى عن اليسير منه-، وهو مقابل الصحيح عند الحنفية، وهو اختيار بعض المالكية، كاللخمي، والتونسي، والمازري، وأبي الحسن، وابن عرفة.
قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (1/ 243، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وما يصيب الثوب من بخارات النجاسات قيل: يتنجَّس الثوب بها] اهـ.
وقال العلامة الزرقاني المالكي في "شرح مختصر خليل" (1/ 57، ط. دار الكتب العلمية): [ظاهر المذهب: نجاسة دخان النجاسة، وهو الذي اختاره اللخمي، والتونسي، والمازري، وأبو الحسن، وابن عرفة، قال بعضهم: وهو المشهور، نعم ابن رشد اختار طهارته كالرماد] اهـ.
وقال العلامة شمس الدين ابن قدامة في "الشرح الكبير" (1/ 294، ط. دار الكتاب العربي): [ودخان النجاسة وغبارها نجس، فإن اجتمع منه شيء، أو لاقى جسمًا صقيلًا، فصار ماء، فهو نجس، إلا إذا قلنا: إن النجاسة تطهر بالاستحالة. وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة وغبارها فلم يجتمع منه شيء، ولا ظهرتْ له صفة، فهو طاهر؛ لعدم إمكان التحرز منه] اهـ.
وقال العلامة المرداوي في "الإنصاف" (1/ 333، ط. دار إحياء التراث العربي): [يسير دخان النجاسة وغبارها وبخارها يُعفَى عنه، ما لم تظهر له صفة على الصحيح من المذهب، جزم به في "الكافي"، و"ابن تميم"، و"النظم". قال في "الرعايتين"، و"الحاويين"، و"مجمع البحرين"، وابن عبيدان، وغيرهم: يعفى عن ذلك ما لم يتكاثف. زاد في "الرعاية الكبرى": وقيل ما لم يجتمع منه شيء ويظهر له صفة. وقيل: أو تعذر أو تعسَّر التحرز منه. وأطلق أبو المعالي العفو عن غبار النجاسة. ولم يقيده باليسير؛ لأن التحرز لا سبيل إليه. قال في "الفروع": وهذا متوجه. وقيل: لا يعفى عن يسير ذلك. وأطلقهما في الفروع] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (1/ 186، ط. عالم الكتب): [(ولا) تطهر نجاسة أيضًا بـ (نار فالقصر مل) أي: الرماد من الروث النجس نجس (وصابون عمل من زيت نجس، ودخان نجاسة، وغبارها) نجس (وما تصاعد من بخار ماء نجس إلى جسم صقيل أو غيره) نجس] اهـ.
وذهب الشافعية إلى القول بنجاسته مع العفو عن قليله؛ إلا أنهم يشترطون في نجاسته أن يكون التبخير ناتجًا عن النار، أما ما عداه فهو طاهر.
قال العلامة الشربيني في "مغني المحتاج" (1/ 236، ط. دار الكتب العلمية): [بخار النجاسة إن تصاعد بواسطة نار نجس؛ لأن أجزاء النجاسة تفصلها النار بقوتها فيعفى عن قليله وإلا بأن كان كالبخار الخارج من نجاسة الكنيف فطاهر كالريح الخارج من الدبر كالجشاء، وبهذا جمع بعضهم بين كلامي من أطلق الطهارة كبعض المتأخرين وبين من أطلق النجاسة] اهـ.
وقال الإمام الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (1/ 247، ط. دار الفكر): [ومن المحكوم بنجاسته: البخار الخارج من النجاسة المتصاعد عنها بواسطة نار، إذ هو من أجزائها تفصله النار منها لقوتها؛ لأنَّه رماد منتشر، لكن يعفى عن قليله، وشمل ذلك دخان الند المعجون بالخمر وإن جاز التبخر به؛ لأنَّ المتنجس هنا كالنجس، وما لو انفصل دخان من لهب شمعة وقودها نجس، أو من دخان خمر أغليت ولم يبق فيها شدة مطربة لنجاسة عينها، أو من دخان حطب أوقد بعد تنجسه بنحو بول] اهـ.
المختار للفتوى في حكم بخار النجاسة ودخانها
المختار للفتوى: طهارة البخار المتصاعد من النجاسة لتغير عينها، وقياسًا على خروج الريح من الآدمي فإنه لا ينجس ما لاقاه من الثوب مطلقًا، ودفعًا للحرج وتعذُّر التَّحرُّز عنه، كما أنَّ البخار -كما في واقعة السؤال-: تَولَّد عن ماء غسل به متنجس، فكان مُتولَّدًا من متولِّدٍ، مما خَفَّف النجاسة فيه؛ فكان تدعيمًا للقول بطهارته.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن البخار الناتج عن غسل الثياب المتنجسة بالماء الساخن طاهرٌ، وإذا أصاب شيئًا فلا ينجسه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.