ما حكم استخدام اللبوس أثناء الصيام؟ فقد يحتاج بعض المرضى إلى التداوي بـ(اللبوس الشرجي)، فهل استعماله أثناء الصيام يؤثر في صحة الصوم؟
حكم استخدام اللبوس أثناء الصيام
تداوي بعض المرضى بما يُعرف بـ(اللبوس الشرجي) أثناء الصيام لا يؤثر في صحة الصوم، وذلك لتيقُّن عدم وصول شيءٍ مِن ذلك إلى الجوف بحيث يحصل به الفطر.
التفاصيل ....المحتويات
- مفهوم اللبوس الشرجي وبعض المصطلحات الأخرى المتعلقة به
- تحرير ضابط الجوف عند الفقهاء وحكم الاحتقان في الدبر
- نصوص فقهاء المذاهب الفقهية في ذلك
- حكم استخدام اللبوس أثناء الصيام
- الخلاصة
مفهوم اللبوس الشرجي وبعض المصطلحات الأخرى المتعلقة به
التحاميل أو ما يُعرف بـ(اللبوس): عبارة عن حبوب دوائية شبه صلبة تأخذ شكلًا دائريًّا أو مخروطيًّا، خُصصت لتوضع عن طريق فتحة الشرج أسفل المستقيم، أو المهبل، أو الإحليل، وأكثر أنواع التحاميل شيوعًا واستخدامًا: التحاميل الشرجية، وتتكون المادة الخارجية لها من الجيلاتين أو زبدة الكاكاو، وحال إدخالها في المكان المخصص تتكفل حرارة الجسم بإذابة الطبقة الخارجية من التحميلة بـ"المستقيم" ليسري الدواء الذي كانت تحيط به هذه الطبقة إلى الأوعية الدموية بعد امتصاصها له عن طريق الغشاء المخاطي المبطن للمستقيم.
و"الشرج": قناة يبلغ طولها حوالي أربعة سنتيمترات (4سم)، تصل بين المستقيم والوسط الخارج، وتسير نحو الأسفل عبر حلقة مِن العضلات الطاردة تدعى "المصرة الشرجية" إلى الفوهة الشرجية التي يتم طرح الغائط مِن خلالها.
و"المستقيم" يبدأ من نهاية القولون السيني إلى القناة الشرجية؛ فهو الجزء الأخير من الأمعاء الغليظة (القولون)، ويعمل -وفق التشريح الوظيفي- كقناةِ نقلٍ أو مكانِ تخزينٍ في عملية البراز، مع مشاركةٍ بنسبةٍ يسيرةٍ جدًّا في امتصاص الماء وبعض المواد من محتويات الجهاز الهضمي. ينظر: "معجم المصطلحات الطبيَّة" لستيدمان تابر، و"النشاط الوظيفي للمستقيم: عضو قناة، أو جهاز تخزين، أو كلاهما؟" للدكتور أحمد شفيق وآخرين، مقال منشور باللغة الإنجليزية بالمجلة العالمية لأمراض الجهاز الهضمي (العدد: 28).
ومن المقرر طبيًّا أن ما يتم إدخاله مِن فتحة الشرج -سائلًا كان أو صلبًا- لا يمكن بحالٍ أن يصل بعينه إلى "المعدة"؛ نظرًا لحركة الأمعاء الغليظة، حيث تقوم بطبيعتها بدفع محتوياتها مِن الفضلات باتجاه المخرج السفلي (فتحة الشرج)، بالإضافة لوجود فوهة "الصمام اللفائفي الأعوري"، الذي يمنع نفاذ ما بـ"الأمعاء الغليظة" (القولون) إلى "الأمعاء الدقيقة" التي تسبق المعدة بصورة تصاعدية، ومن ثَمَّ فإن ما لا ينفذ إليها لا يصل بطبيعة الحال إلى المعدة التي هي أعلى منها. ينظر: "الموسوعة البريطانية"، و"الموسوعة الطبية المتخصصة- المجلد الأول- أمراض جهاز الهضم" (ص: 173-190، ط. هيئة الموسوعة العربية).
تحرير ضابط الجوف عند الفقهاء وحكم الاحتقان في الدبر
لبيان الحكم الشرعي في استخدام ما يُعرف بـ(اللبوس/ التحاميل) أثناء الصوم، لا بد من ذكر ما اشترطه الفقهاء لفساد الصوم، ذلك أنهم قد اتفقوا على أن العبرة في ذلك بتحقق وصول المفطِّر إلى الجوف أو غلبة ظن وصوله؛ بحيث إذا تُيُقِّن عدم الوصول لا يفسد الصوم.
وقد ضبط جمهور الفقهاء؛ من الحنفية، والمالكية، والشافعية في مقابل الأصح، والحنابلة هذا الجوف -على اختلاف عباراتهم في ذلك- بالباطن الذي هو "محل الغذاء والدواء" من جسم الإنسان، والذي "به قوة تحيل هذا الغذاء والدواء"، أي: تُحدث فيه (استحالة)، وهي تَحَوُّل الأعيان وتغيُّر حقائقها عن طبيعتها وأوصافها إلى شيء آخر. ينظر: "تحفة الفقهاء" لعلاء الدين السَّمَرْقَنْدِي الحنفي (1/ 356، ط. دار الكتب العلمية)، و"شرح مختصر خليل" للعلامة الخَرَشِي المالكي (2/ 249، ط. دار الفكر)، و"روضة الطالبين" للإمام النووي الشافعي (2/ 356، ط. المكتب الإسلامي)، و"الإنصاف" لعلاء الدين المَرْدَاوِي الحنبلي (3/ 299، ط. دار إحياء التراث العربي).
والجوف على هذا النحو لا يخرج عن المعدة وما يليها من الأمعاء الدقيقة فقط، أما المستقيم الذي يكون محلًّا للتحميلة وذوبانها فيه، فإنما هو عبارةٌ عن قناةِ نقلٍ لما تلفظه الأمعاء الغليظة (القولون) مما لا يحتاج الإنسان إليه من باقي الطعام -كما سبق بيانه-، ومن ثَمَّ فلا يقوم المستقيم بدور الإحالة لما يمر به أو يخزن فيه قبل عملية الإخراج.
وباستقراء نصوص جمهور الفقهاء وما وضعوه من ضوابط للتفرقة بين المفطر وغير المفطر في الداخل إلى الجوف، نجد أن المدرك عندهم في مسألة فساد الصوم بالداخل من الدبر إنما هو التصور الحاصل عندهم لوصول هذا الداخل إلى الجوف، حيث العبرة في فساد الصوم إنما هي بالوصول، "حتى إذا علم أن الدواء اليابس وصل إلى جوفه فسد صومه، وإن علم أن الرطب لم يصل إلى جوفه لا يفسد صومه"، كما قال شمس الأئمة السَّرَخْسِي في "المبسوط" (3/ 68، ط. دار المعرفة).
وقد تقرر في الشرع الشريف أنَّ معرفةَ وصول الداخل من الدُّبر (فتحة الشرج) إلى ذلك الجوف من عدمه "لَيْسَ مِنْ بَابِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالطِّبِّ"، كما قال زين الدين ابن نُجَيْم في "البحر الرائق" (2/ 301، ط. دار الكتاب الإسلامي)، فإذا ثبت وتأكد من جهة المعارف الطبية المستقرة أن هذا التصور غير صحيح، فإن علة فساد الصوم تنتفي بهذا التصور، ومن ثمَّ ينتفي الحكم، إذ مِن المقرر في علم الأصول أن "الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا"، كما في "أصول شمس الأئمة السَّرَخْسِي" (2/ 182، ط. دار المعرفة)، و"شرح الإمام الزَّرْكَشِي على مختصر الإمام الخِرَقِي" (3/ 504، ط. مكتبة العبيكان).
ولَمَّا كان الأمر كذلك، فإن عباراتهم في مثل هذه المسألة وما وضعوه من ضوابط لتمييز المفطر من غير المفطر، والتفرقة بين ما إذا كان الداخل يابسًا أو جامدًا أو مائعًا أو متحللًا أو رطبًا -على اختلاف عباراتهم في ذلك وتنوُّعها-، تقتضي القول بعدم فساد الصوم بدخول المائع ونحوه من الدبر، بل نص جماعة منهم على عدم الفطر به، كالمالكية في مقابل المشهور، وذهب طائفة من أئمتهم كابن حبيب، وابن الجلَّاب، وابن عبد البر، واللخمي، إلى أن القضاء منها إنما هو على جهة الاستحباب لا الإيجاب، بناءً على التردد بين وصول المحتقَن به إلى الجوف من عدمه، وقد زال هذا التردد كما بيَّنَّاه في ذكر ضابط الجوف عندهم وعدم إمكان وصول شيءٍ إليه من الدبر، وهو أيضًا قول القاضي حسين مِن الشافعية، والشيخ ابن تيمية مِن الحنابلة، والإمام ابن حزم الظاهري. ينظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" للإمام ابن عبد البَرِّ المالكي (1/ 345، ط. مكتبة الرياض)، و"مواهب الجليل" لشمس الدين الحَطَّاب المالكي (2/ 424، ط. دار الفكر)، و"المجموع" للإمام النووي الشافعي (6/ 313، ط. دار الفكر)، و"مجموع الفتاوى" للشيخ ابن تيمية الحنبلي (25/ 233-234، ط. مجمع الملك فهد)، و"المحلى بالآثار" للإمام ابن حَزْم الظاهري (4/ 348، ط. دار الفكر)، ويدخل في ذلك مِن باب أولى: (التحميلة) أو ما يُعرف بـ(اللبوسة) التي هي ليست بمائعة، بل يتم تحللها في المستقيم عن طريق حرارة الجسم ثم يمتصها بعد ذلك ولا تصل إلى الجوف المحيل السابق بيانه.
نصوص فقهاء المذاهب الفقهية في ذلك
قال شمس الأئمة السَّرَخْسِي الحنفي في "المبسوط" (3/ 68، ط. دار المعرفة) في بيان ما يفسد الصوم مِن الداخل إلى الجوف: [وأكثر مشايخنا رضي الله عنهم: أنَّ العبرة بالوصول، حتى إذا علم أن الدواء اليابس وَصَل إلى جوفه فسد صومه، وإن علم أن الرطب لَم يَصِل إلى جوفه لا يفسد صومه ذكر اليابس والرطب بناءً على العادة، فاليابس إنما يستعمل في الجراحة لِاستمساك رأسها به، فلا يتعدى إلى الباطن، والرطب يصل إلى الباطن عادةً؛ فلهذا فرق بينهما، والدليل على أن العبرة لما قلنا: أن اليابس يترطب برطوبة الجراحة] اهـ.
وقال العلامة زين الدين ابن نُجَيْم الحنفي في "البحر الرائق" (2/ 300، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وأطلق الدواء فشمل الرطب واليابس؛ لأن العبرة للوصول لا لكونه رطبًا أو يابسًا، وإنما شرطه القُدُورِي؛ لأن الرطب هو الذي يصل إلى الجوف عادةً، حتى لو علم أن الرطب لَم يصل لَم يفسد، ولو علم أن اليابس وَصَل فسد صومُه، كذا في "العناية"] اهـ.
وتقييدهم فساد الصوم بالوصول -وإن كان مَسُوقًا في الجروح والجائفة (المَنفذ العارض)- يَشمل المَنفذ الأصلي؛ لأن هذا القيد واردٌ في مقام العلة، فكان ضابطًا عامًّا يَشمل كلَّ مَنفذ، وعدم ذكره في سياق الكلام عن الداخل مِن المنفذ الأصلي مبنيٌّ على تصوُّرِهِمُ الوصولَ منه حتمًا، فإذا تُيُقِّنَ عدم الوصول لَم يفسد الصوم.
وقال الإمام ضياء الدين خليل المالكي في "التوضيح" (2/ 403، ط. مركز نجيبويه): [(وفي وُصُولِ ما يَنْمَاعُ من العين والإحليل والحقنة- ثالثها المشهور: يَقضي في الحقنة وفي العين إنْ وَصَلَ).. وقوله: (وفي وُصُولِ) يدل على أنه لو تحقق عدم الوصول لم يقض اتفاقًا] اهـ.
وقال العلامة الخَرَشِي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 249): [ص: (وإيصال متحلل أو غيره على المختار لمعدة بحقنة بمائع أو حلق) ش:.. واحترز بالمائع من الجامد فلا قضاء فيه ولو فتائل عليها دهن] اهـ.
وقال العلامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 523، ط. دار الفكر): [فوصول المائع للمعدة مفسد مطلقًا؛ كان المنفذ عاليًا أو سافلًا، ووصول الجامد لها: لا يفسد إلا إذا كان المنفذ عاليًا] اهـ.
وقال العلَّامة سليمان الجمل الشافعي في "حاشيته على شرح المنهج" (2/ 318، ط. دار الفكر): [وقوله: (أو الحقنة) أي: الاحتقان راجع للأمعاء، والمثانة، والتقطير في باطن الأذن وإن لم يصل إلى الدماغ، وباطن الإحليل وهو مخرج البول من الذكر، واللبن من الثدي، وإن لم يصل إلى المثانة ولم يجاوز الحلمة أو الحشفة، مفطرٌ في الأصح؛ لما مَرَّ من أن المدار على مسمى الجوف، والثاني: لا يفطر؛ اعتبارًا بالإحالة] اهـ.
وقال علاء الدين المَرْدَاوِي الحنبلي في "الإنصاف" (3/ 299): [قوله: (أو احتقن، أو داوى الجائفة بما يصل إلى جوفه) فسد صومه، وهذا المذهب، وعليه الأصحاب، واختار الشيخ تقي الدين عدم الإفطار بمداواة جائفة ومأمومة وبحقنة.
فائدتان: إحداهما مثل ذلك في الحكم: لو أدخل شيئًا إلى مجوف فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء من أيِّ موضع كان ولو كان خيطًا ابتلعه كله أو بعضه، أو طعن نفسه، أو طعنه غيره بإذنه بشيء في جوفه فغاب كله أو بعضه فيه. الثانية: يعتبر العلم بالواصل، على الصحيح من المذهب، وقطع المجد في "شرحه": بأنه يكفي الظن، قال في "الفروع": كذا قال] اهـ.
حكم استخدام اللبوس أثناء الصيام
أفادت هذه النصوص كلُّها عدم فساد الصوم باستدخال ما يُعرف بـ(اللبوس) من خلال فتحة الشرج؛ لتيقُّن عدم وصول شيءٍ مِن ذلك إلى الجوف بحيث يحصل به الفطر، وقد تقرر في قواعد الشرع أنه "لَا عِبْرَةَ بِالْمَظِنَّةِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَئِنَّةِ"، كما قال الإمام سعد الدين التَّفْتَازَانِي في "حاشيته على شرح مختصر المنتهى الأصولي" (3/ 320، ط. دار الكتب العلمية).
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن تداوي بعض المرضى بما يُعرف بـ(اللبوس الشرجي) أثناء الصيام لا يؤثر في صحة الصوم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.