ما كيفية توزيع مبلغ التأمين على الحياة في حالة تحديد المستفيدين أو عدم تحديدهم؟ فقد توفي رجلٌ وله مستحقات تأمينية لدى إحدى شركات التأمين على الحياة، وبمراجعة هذه الشركة لصرف مبلغ التأمين، وُجد أنه حَدَّد مستفيدين لهذا المبلغ، ولم يُحدِّد أنصِبَتَهم فيه، فكيف يُقسم بينهم؟ ومَن هو المستحق له إذا لم يُحدِّد مستفيدين؟
كيفية توزيع مبلغ التأمين على الحياة في حالة تحديد المستفيدين أو عدم تحديدهم
ما دامَ الشخص المتوفى (المؤمَّن له) قد حدَّد المستفيدين لمبلغ التأمين على الحياة مِن غير تحديد نصيب كلٍّ منهم، فإن حددهم بأسمائهم أو بأسمائهم وأوصافهم فإنه يُصرف إليهم مُقسَّمًا بينهم بالسَّوية، لا فرق في ذلك بين كون المستفيد ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، وارثًا أو غيرَ وارثٍ.
وإن حددهم بأوصافهم فقط فيُصرف مُقسَّمًا بينهم بالسَّوية ما دامت الصفة قائمة بالموصوف، فإن زالت الصفة عنه وزع نصيب صاحبها بالتساوي بين بقية المستفيدين الآخرين إن وجدوا، فإن لم يوجد مستفيد غيره فمرد مبلغ التأمين إلى لوائح المؤمِّن، فإن لم تنص على ذلك، فيكون التوزيع بالقسمة الشرعية على ورثة المؤمن له بعد وفاته.
وإن حدَّدهم باعتبار وصفهم ورثة شرعيين، فحينئذٍ يصرف لهم مبلغ التأمين، بنسبة ما يستحقه كل واحدٍ منهم في الميراث.
وأما بالنسبة لكيفية التوزيع عند عدم تحديد مستفيدين، فمرد توزيعه إلى لوائح المؤمِّن، فإن لم تنص على ذلك، فيكون التوزيع بالقسمة الشرعية على ورثة المؤمن له بعد وفاته.
التفاصيل ....المحتويات
- حث الشرع الشريف على التعاون بين أفراد المجتمع
- المقصود بالتأمين وبيان التكييف الفقهي للتأمين على الحياة
- الأدلة على جواز التأمين على الحياة
- نظام التأمين في الاستحقاق
- كيفية توزيع مبلغ تأمين الحياة في حالة تحديد المستفيدين أو عدم تحديدهم
- الخلاصة
حث الشرع الشريف على التعاون بين أفراد المجتمع
حثَّ الشرعُ الشريف المسلمينَ على التراحمِ والترابطِ والتعاون فيما بينهم، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا﴾ [المائدة: 2]، و"فائدة التعاون: تيسير العمل، وتوفير المصالح، وإظهار الاتحاد والتَّنَاصُر حتى يُصبح ذلك خُلُقًا للأُمَّة" كما قال العلامة الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (6/ 88، ط. الدار التونسية).
وقد وضعَ الشرعُ للناسِ نظامًا اجتماعيًّا قويمًا، يُسهِمُ في سدِّ حوائجِ المحتاجين وتفريجِ كرباتهم؛ فأوجبَ الزكاة وجعلَهَا مِن أركانِ الدِّين، وحثَّ على الصدقات وبيَّن أنها مِن أعظمِ أبوابِ الخيرِ وأفضل صور التكافل والتعاون.
المقصود بالتأمين وبيان التكييف الفقهي للتأمين على الحياة
من تلك الصور في عصرنا الحاضر: ما يُعرف بـ"التأمين"، والذي يُتعاقد عليه بين الشركات مِن جهة، وبين الأفراد الطبيعيين مِن جهةٍ أخرى، وهو عبارةٌ عن "عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمَّن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغًا من المال، أو إيرادًا مرتبًا، أو أي عِوَضٍ ماليٍّ آخر، في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المُبَيَّن بالعقد، وذلك في نظير قسطٍ أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمَّن له للمؤمِّن"، كما عَرَّفَتْهُ المادة (747) من القانون المدني المصري.
والتأمين تختلف صوره باختلاف أنواعه، وفي خصوص التأمين على الحياة نصَّ القانون المدني المصري في المادة رقم (754) على أنَّ: [المبالغ التي يلتزم المؤمِّن في التأمين على الحياة بدفْعِها إلى المؤمَّن له أو إلى المستفيد عند وقوع الحادث المؤمَّن منه أو حُلُول الأجَل المنصوص عليه في وثيقة التأمين، تُصبح مستَحَقة مِن وقت وقوع الحادث أو وقت حُلُول الأجَل دون حاجة إلى إثباتِ ضررٍ أصاب المؤمَّن له أو أصاب المستفيد] اهـ.
والتكييف المختار في الفتوى للتأمين على الحياة أنه: عقدٌ قائمٌ على التكافل الاجتماعي والتعاون على البِرِّ وأنه تبرع في الأصل وليس معاوضة؛ حيث يتبرع المُؤَمَّن له بالقسط المدفوع، في مقابل تبرع المؤمِّن بقيمة التأمين، وذلك على سبيل التعاون والتكافل.
والتأمين على الحياة ليس من عقود الغرر المحرمة؛ لأنَّ مبناه على التبرع ابتداءً وانتهاءً، فلا يفسده الغرر؛ إذ الغرر فيه لا يفضي إلى نزاعٍ بين أطرافه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَحِلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا بِطِيبِ نَفْسِهِ» أخرجه أبو يعلى في "مسنده"، والدارقطني في "السنن"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
فالمؤمَّن له يتبرع ابتداءً بالأقساط التي يدفعها وقد لا يستردها انتهاءً، والمؤمِّن يتبرع انتهاء بقيمة مبلغ التأمين الذي ارتضاه بالعقد ابتداءً، ويترتب على ذلك ثبوت حقِّ الوفاء بالالتزام على المؤمِّن تجاه المؤمَّن له، والمُؤَمَّن له تجاه المُؤَمِّن؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِم» أخرجه الحاكم في "المستدرك"، والدارقطني في "السنن"، والبيهقي في "السنن الكبرى" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والتأمين بهذا جارٍ على أصول مكارم الأخلاق التي تتلاقى معانيها ومقاصدها معَ ما وردت به السُّنَّة النبوية المطهرة من مواقف تَجلَّى فيها التعاون والمواساة عند توقع الخطر والتماس طرق الوقاية منه، كأن يُجمع ما لدى الرفقاء من مالٍ أو طعامٍ من أجل إباحة بعضهم بعضًا بموجوده، وإنفاقه بينهم شراكةً وقَسْمًا، كلٌّ بحسب حاجته وكفايته، على الرغم من أنَّ في هذه الرُّفقة من لم تكن له بقية طعام وليس لديه مالٌ، فيما يُعرف بالتَّناهد، وهو تخارج الطَّعَام وَالشرَاب على قدرٍ فِي الرُّفْقَة، كما أفاده العلامة ابن سيده في "المحكم والمحيط الأعظم" (4/ 266، ط. دار الكتب العلمية).
قال العلامة محمد أنور الكشميري في "فيض الباري" (4/ 4، ط. دار الكتب العلمية): [النَّهدُ: أن يَنْثُرَ الرُّفقةُ زادَهم على سُفْرةٍ واحدةٍ ليأكلوا جميعًا بدون تقسيم، ففيه شَرِكةٌ أوَّلًا، وتقسيمٌ آخِرًا، ولا ريبَ أنه تقسيمٌ على المجازفةِ لا غير، مع التَّفاوُتِ في الأَكلِ... وقد مَرَّ معنا الجواب أنها ليست من باب المعاوضات التي تجري فيها المماكسةُ، أو تدخلُ تحت الحُكْم، وإنَّما هي من باب التسامح والتعامل] اهـ.
الأدلة على جواز التأمين على الحياة
من جملة ما جاءت به السُّنَّةُ النبوية المطهرة في ذلك:
- ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوا بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، وَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» متفقٌ عليه.
قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (16/ 62، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي هذا الحديث: فضيلة الأشعريين، وفضيلة الإيثار والمواساة، وفضيلة خلط الأزواد في السَّفَر، وفضيلة جمعها في شيء عند قِلتها في الحضر ثم يُقسم، وليس المراد بهذا القسمة المعروفة في كتب الفقه بشروطها ومَنْعها في الربويات، واشتراط المواساة وغيرها، وإنما المراد هنا: إباحة بعضهم بعضًا ومواساتهم بالموجود] اهـ.
- وما جاء عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد رضي الله عنهما -شك الأعمش- قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، قالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا، فأكلنا وادهنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «افْعَلُوا»، قال: فجاء عمر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، إن فعلت قل الظَّهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نَعَم»، قال: فدعا بِنِطَعٍ، فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرجل يجيء بكفِّ ذرة، قال: ويجيء الآخر بكفِّ تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النِّطَعِ من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه بالبركة، ثم قال: «خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ»، قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقالَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ، فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ» رواه الإمام مسلم في "الصحيح".
- وما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثًا قِبَل السَّاحل، فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة، وأنا فيهم، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزادُ، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، فكان يقوتنا كلَّ يومٍ قليلًا قليلًا حتى فَنِيَ، فلم يكن يصيبنا إلَّا تمرة تمرة، فقلت: وما تغني تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيتْ» أخرجه الشيخان.
قال الإمام الْقُرْطُبِيُّ -فيما نقله العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (13/ 42، ط. دار إحياء التراث العربي)-: [جَمعُ أبي عُبيدة الأزواد وقسمتها بِالسَّوِيَّةِ إِمَّا أن يكون حكمًا حكم بِهِ لِما شَاهد من الضَّرُورَة وخوفه من تلف من لم يبْق مَعَه زَاد، فَظهر لَهُ أَنه وَجب على من مَعَه أَن يواسي من لَيْسَ لَهُ زَاد، أَو يكون عَن رضًا مِنْهُم، وَقد فعل مثل ذَلِك غير مرَّة سيدُنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وآله وَسلم] اهـ.
نظام التأمين في الاستحقاق
يجري نظام التأمين في الاستحقاق على مقتضيات وأحكام القاعدة العامة "الاشتراط أو التعاقد لمصلحة الغير"، والتي تنظم أحكامها المادة رقم (154) من القانون المدني المصري، حيث نصت على أنَّه: [يجوز للشخص أن يتعاقد باسمه على التزامات يشترطها لمصلحة الغير، إذا كان له في تنفيذ هذه الالتزامات مصلحة شخصية مادية كانت أو أدبية. ويترتب على هذا الاشتراط أن يُكسب الغير حقًّا مباشرًا قِبَل المتعهد بتنفيذ الاشتراط يستطيع أن يطالبه بوفائه، ما لم يتفق على خلاف ذلك. ويكون لهذا المتعهد أن يتمسك قِبَل المنتفع بالدفوع التي تنشأ عن العقد. ويجوز كذلك للمشترط أن يُطالب بتنفيذ ما اشترط لمصلحة المنتفع، إلَّا إذا تبين من العقد أن المنتفع وحده هو الذي يجوز له ذلك] اهـ.
ومن ثَمَّ، فتعيين المستفيد في عقد التأمين مِن قِبل المُؤَمَّن له ينشئ له حقًّا مباشرًا قِبل المُؤَمِّن (شركة التأمين) ما دام تعيينه صحيحًا ولم يُنقَض أو يُفسَخ بأيِّ إجراءٍ آخر، وحينئذٍ يتم صَرْفُهُ مِن قِبَل المُؤَمَّن له أو مَن يقوم بتحديد اسمه مستفيدًا مِن هذا المال بعد وفاته، بعد إلزام نَفْسِهِ بذلك حال حياته ليصير كما لو كان حقًّا عليه، ومِن جهة أخرى يُلزِم المؤمِّنُ (شركة التأمين) نفسَه بإعطاء المال للمُؤَمَّن له عند استحقاقه، أو لِمَن يُرَشِّحُهم ويَنُصُّ عليهم في وثيقة التأمين، كما جاء في الفقرة الأولى من المادة (758) من القانون المدني المصري، والتي نصت على أنه: [يجوز في التأمين على الحياة الاتفاق على أن يُدفع مبلغ التأمين، إما إلى أشخاصٍ مُعَينين، وإما إلى أشخاصٍ يُعينهم المؤَمَّن له فيما بَعْدُ] اهـ.
كيفية توزيع مبلغ التأمين على الحياة في حالة تحديد المستفيدين أو عدم تحديدهم
أما توزيع هذا المال على المستفيدين وتحديد أنصبتهم فيه، فعلى صورتين:
الصورة الأولى: أن يختص المؤمِّن وحده بتحديد كيفية توزيع هذه المبالغ التأمينية على حسب اللوائح المعمول بها لديه، فلا يُمنح المؤمَّنُ له حقَّ تحديد توزيع هذا المال. ويكون التوزيع حينئذ على حسب لوائح المؤمِّن، باعتباره هو المتبرع بمبلغ التأمين انتهاءً فله حقُّ تحديد المستفيدين.
والصورة الثانية: أن يُمنح المؤمَّن له حقَّ تحديد المستفيدين، وأنصبتهم، ولذلك حالتان:
الحالة الأولى: ألَّا يحدد المؤمَّن له المستفيدين لمبلغ التأمين، وهنا يكون مرده إلى لوائح المؤمِّن، فإن لم تنص على ذلك، فيكون التوزيع بالقسمة الشرعية على ورثة المؤمن له بعد وفاته، باعتبار هذا المال -حيث خلا العقد عن مستفيدين به محددين- حقًّا منتقلًا لورثة المؤمن له بعد وفاته.
ووجه ذلك: أنَّه في حالة عدم تحديد (المؤَمَّن له) للمستفيد من مبلغ التأمين بعد وفاته، لا بالاسم الكامل ولا بالصفة المميزة، يصبح هو نفسه المستفيد (بعد وفاته)، ومِن ثَمَّ يدخل مبلغ التأمين في تَرِكَتِه، ثمَّ ينتقل إلى ورثته، لا باعتبارهم مستفيدين، بل باعتبارهم ورثة، فيُراعى فيه أحكام التَرِكَة وفقًا لقواعد الميراث.
وهو قريبٌ ممَّا نصَّ عليه فقهاء الشافعية والحنابلة فيمَن نَصَبَ شبَكةً للصيد في حياته، فسقط فيها صيد بعد موته، فإن هذا الصيد يدخل في تَرِكَتِه، باعتبار أنَّ نَصْبَ الشبَكة سببُ المِلك.
قال العلامة ابن حَجَر الهَيْتَمِي الشافعي في "تحفة المحتاج" (6/ 382، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [(تَرِكَة الميت) وهي ما يخلف من حقٍّ... وكذا ما وَقَعَ بشَبَكَةٍ نَصَبَهَا في حياته على ما قاله الزركشي، وفيه نظر؛ لانتقالها بعد الموت للورثة، فالواقع بها مِن زوائد التركة، وهي مِلْكُهُم، إلا أنْ يُجابَ بأنَّ سببَ المِلك نَصْبُهُ للشَّبَكَة، لا هي، وإذا استَند المِلكُ لِفِعلِهِ يكون تَرِكَةً] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (6/ 182، ط. مكتبة القاهرة): [ولو تَجَدَّدَ لِلْمَيِّتِ مالٌ بعد مَوْتِه، بأن يَسْقُطَ في شَبَكَتِه صَيْدٌ، لَوَرِثَهُ وَرَثَتُه، ولذلك قَضَيْنَا بثُبُوتِ الإِرْثِ في دِيَتِه، وهي تَتَحَدَّدُ بعد مَوْتِه، فجازَ أَنْ تُمْلَكَ بالوَصِيَّةِ] اهـ.
وقال العلامة السَّنْهُوري في "الوسيط" (7/ 1440، ط. دار إحياء التراث العربي): [وإذا مات قبل أن يستعمله، دخل مبلغ التأمين في تركته؛ لأنه لا يوجد مستفيدٌ، فيصبح هو المستفيد، ومِن ثمَّ ينتقل مبلغ التأمين إلى ورثته، لا باعتبارهم مستفيدين، بل باعتبارهم ورثة] اهـ.
ولا يعترض على ذلك بأن مبلغ التأمين مستفاد في كلِّ الأحوال بسبب المُؤَمَّن له، فينبغي أن يكون ضمن تركته في كلِّ الصور؛ وذلك لأنَّ التفريق بين كلِّ صورة جارٍ على تحديد المُؤَمَّن له للمستفيدين، فهو حينما يحدد مستفيدين فقد قصد بذلك التَّبَرُّع بمبلغ التأمين لشخص مَن حدَّدَه، بخلاف الصورة التي ليس فيها تحديد، ومن ثمَّ لم يوجد مستفيد، ولذا رجع مبلغُ التأمين إليه.
والحالة الثانية: أن يحدد المؤمَّن له المستفيدين لمبلغ التأمين، وهذه الحالة يندرج تحتها عدة صور، وبيانها على النحو الآتي:
الصورة الأولى: أن يحدد أسماءهم فقط -كفلانة- أو أسماءهم مع أوصافهم -كفلانة زوجتي-، فإن حدد نصيبهم كأن قال: لفلانة أو فلان مبلغ كذا، أو نصف مبلغ التأمين، أو لفلانة (زوجتي) مبلغ كذا فيأخذ كلُّ مستفيدٍ منهم نصيبَهُ المحدَّد له بعد وفاة المؤمَّن له.
وإن لم يحدد نصيبهم فيُصرف مبلغ التأمين إليهم مُقسَّمًا بينهم بالسَّوية، لا فرق في ذلك بين كون المستفيد ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا؛ لأنَّ مبلغ التأمين انتقل إليهم بصفتهم مستفيدين لا وارثين وهم جميعًا متساوون في سبب الاستحقاق -وهو العقد المُبْرَم فيه الاتفاق على تحديدهم دون تمييزٍ لأحدٍ-، فيثبت لهم الحقُّ فيه بالتساوي؛ لما تقرَّر أن "التساوي في سبب الاستحقاق يوجب التساوي في نفس الاستحقاق"، كما قال الإمام المرغيناني في "الهداية" (4/ 526، ط. دار إحياء التراث العربي).
وهو ما نصَّ عليه فقهاء الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة في الصور والنظائر التي تساوى فيها سبب الاستحقاق:
قال العلامة ابن مودود الحنفي في "الاختيار" (5/ 80، ط. الحلبي) في مسألة "التعميم في الوصية للأهل": [الاستحقاق بالعقد لا يتفضل فيه الذكر والأنثى، كالاستحقاق بالبيع] اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "الإشراف" (2/ 983، ط. دار ابن حزم) في "قسمة الدار في حالة تعارض البينة بين طرفي التداعي": [وجب إذا تعارضتا أن يقسم الشيء بينهما، أصله اليد، ولأنهما قد تساويا في سبب الاستحقاق، والشيء ممَّا يصحُّ فيه الاشتراك، فوجب القضاء به لهما كالأخوين الشقيقين] اهـ.
وقال الإمام المَاوَرْدِي الشافعي في "الحاوي الكبير" (7/ 256، ط. دار الكتب العلمية) في مسألة "اشتراك الشُّفعة بين العم والأخ": [لَمَّا تَسَاوَيَا في الاشتراك: وجب أن يَتَسَاوَيَا في الاستحقاق] اهـ.
وقال الإمام أبو حنيفة فيما نقله عنه العلامة ابن قُدَامة الحنبلي في "المغني" (10/ 318، ط. مكتبة القاهرة) في الكلام عن الوصايا: [تساوَوْا في سبب الاستحقاق، فيتساوُون في الاستحقاق] اهـ.
وهو ما جرى عليه شُرَّاح القانون المدني، قال العلامة السَّنْهُوري في "الوسيط" (7/ 1458): [الحقُّ المباشر يخوِّل للمستفيد عند الاستحقاق أن يطالِب المؤمِّن بمبلغ التأمين، فإذا تعدد المستفيدون ولم يوجد ما يحدد نصيبًا معيَّنًا لكلٍّ منهم: انقسم الحق بينهم بالتساوي] اهـ.
ولا يؤثر في ذلك عدم بقاء الصفة عند وفاة المؤمَّن له حال إضافتها إلى الأسماء المعينة، كما أفاده المختصون في مجال التأمين على الحياة؛ لأن إبقاء المؤمَّن له اسم المستفيد كما هو دون تغيير رغم زوال صفته مؤكدٌ لرغبته في استحقاقه في مبلغ التأمين، إذ لو لم يرغب في ذلك لبادر إلى تغيير الوثيقة بمجرد زوال الصفة، كما أن مجال الاعتداد بالصفة وقت وفاة المؤمن له أن يكون اسم المستفيد غير وارد بالوثيقة أو ملحقها، وهذا ما نص عليه قضاء محكمة النقض المصري. ينظر: (الطعن رقم 362، لسنة 47 ق، ج 12 من أبريل سنة 1979).
الصورة الثانية: أن يحدد أوصافهم دون أسمائهم، فإن حدد أنصبتهم، كلزوجتي مبلغ كذا، أو نصف مبلغ التأمين، فحينئذٍ يأخذ كلُّ مستفيدٍ منهم نصيبَهُ المحدَّد له بعد وفاة المؤمَّن له، وإن لم يحدد أنصبتهم فحينئذ يُصرف مبلغ التأمين إليهم مُقسَّمًا بينهم بالسَّوية، وكل ذلك ما دامت الصفة قائمة بالموصوف، فإن زالت الصفة عنه وزع نصيب صاحبها بالتساوي بين بقية المستفيدين الآخرين إن وجدوا، فإن لم يوجد مستفيد غيره، فمرد مبلغ التأمين إلى لوائح المؤمِّن، فإن لم تنص على ذلك، فيكون التوزيع بالقسمة الشرعية على ورثة المؤمَّن له بعد وفاته. ينظر: (الطعن رقم 362، لسنة 47 ق، ج 12 من أبريل سنة 1979).
الصورة الثالثة: أن يحدد نسبة الاستحقاق بالميراث الشرعي، كأن يقول: يوزع مبلغ التأمين بالقسمة الشرعيَّة، أو بالحساب الشَّرعي، فحينئذٍ توزع تلك المبالغ على المستفيدين باعتبار وصفهم ورثة شرعيين، فيصرف لهم مبلغ التأمين بنسبة ما يستحقه كل واحدٍ منهم في الميراث.
ووجه ذلك: أن المؤمَّن له جعل نصيبَ المستفيدين منوطًا بوَصْفِ الوِرَاثة، على أنَّ لكلِّ مستفيدٍ نصيبًا مماثِلًا لنصيبه في الميراث، وهنا يقوم الوصف مقام تحديد الشخص ومقدار نصيبه وإن لم يُسمِّه؛ لأنَّ اشتراطه وصف الوِرَاثة في العقد كناية عن مراده في أن يكون استحقاق مبلغ التأمين لكلِّ مستفيدٍ بنسبة نصيبه في الميراث، وهو نوعُ تحديد، ومن ثمَّ، فإنَّ وصفَ الوراثة إنَّما هو لكيفية توزيع مبلغ التأمين، لا لاعتباره سبب الاستحقاق.
فقد نصت المادة رقم (758- فقرة 2، 3) من القانون المدني المصري على: [يُعتبر التأمين معقودًا لمصلحةِ مستفيدينَ مُعَيَّنِينَ إذا ذكر المؤمَّن له في الوثيقة أنَّ التأمين معقودٌ لمصلحة زوجهِ أو أولادهِ أو فروعهِ، مَن وُلِد منهم ومَن لم يُولَد، أو لورثته دون ذكر أسمائهم، فإذا كان التأمين لصالح الورثة دون ذكر أسمائهم -كان لهؤلاء الحقُّ في مبلغ التأمين كلٌّ بنسبة نصيبه في الميراث، ويثبت لهم هذا الحقُّ ولو نزلوا عن الإرث.
ويقصد بالزوج: الشخص الذي يثبت له هذه الصفة وقت وفاة المؤمَّن له، ويقصد بالأولاد: الفروع الذين يثبت لهم في ذلك الوقت حقُّ الإرث] اهـ.
قال العلامة السَّنْهُوري في "الوسيط" (7/ 1446): [قد يقتصر المؤمَّن له في تعيين المستفيد على ذكر الورثة؛ فيجعل المستفيدَ ورثتَه دون ذكر أسمائهم، ودون أيِّ بيانٍ آخَر عنهم، فيكون المستفيد في هذه الحالة كلَّ مَن تَثبُت له صفة الوارث وقت وفاة المؤمَّن له؛ سواءٌ وُلِدَ قبل إبرام عقد التأمين، أو وُلِدَ بعد ذلك، فيستحق جميع الورثة مبلغ التأمين كلٌّ بنسبة نصيبه في الميراث، ما لم يعيِّن المؤمَّن له أنصبةً أخرى، ويستحقون هذا المبلغ بوصفهم مستفيدين لا بوصفهم ورثة، ويترتب على ذلك: أنهم يتقاضون هذا المبلغ لا مِن تركة مورثهم] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فما دامَ الشخص المتوفى (المؤمَّن له) قد حدَّد المستفيدين لمبلغ التأمين على الحياة مِن غير تحديد نصيب كلٍّ منهم، فإن حددهم بأسمائهم أو بأسمائهم وأوصافهم فإنه يُصرف إليهم مُقسَّمًا بينهم بالسَّوية، لا فرق في ذلك بين كون المستفيد ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، وارثًا أو غيرَ وارثٍ.
وإن حددهم بأوصافهم فقط فيُصرف مُقسَّمًا بينهم بالسَّوية ما دامت الصفة قائمة بالموصوف، فإن زالت الصفة عنه وزع نصيب صاحبها بالتساوي بين بقية المستفيدين الآخرين إن وجدوا، فإن لم يوجد مستفيد غيره فمرد مبلغ التأمين إلى لوائح المؤمِّن، فإن لم تنص على ذلك، فيكون التوزيع بالقسمة الشرعية على ورثة المؤمن له بعد وفاته.
وإن حدَّدهم باعتبار وصفهم ورثة شرعيين، فحينئذٍ يصرف لهم مبلغ التأمين، بنسبة ما يستحقه كل واحدٍ منهم في الميراث.
وأما بالنسبة لكيفية التوزيع عند عدم تحديد مستفيدين، فمرد توزيعه إلى لوائح المؤمِّن، فإن لم تنص على ذلك، فيكون التوزيع بالقسمة الشرعية على ورثة المؤمن له بعد وفاته.
والله سبحانه وتعالى أعلم.