ما حكم ترك الفقيه والمفتي للمستفتي حرية اختيار أحد الأقوال في المسألة المختلف فيها؟ حيث حدث نقاش بيني وبين أحد أصدقائي حول مسألة فقهية معينة، فاستفتيت أحد المفتين المتخصصين عن حكمها الشرعي، فأجابني، فلما أخبرت صديقي بالجواب، قال لي: إن المسألة خلافية بين الفقهاء، وإنه قد سمع أحد العلماء يقول: "إنه ينبغي للفقيه والمفتي أن يترك للمستفتي حرية اختيار أحد الأقوال في المسألة"؛ فهل هذا صحيح؟ وما التصرف إذا تعدد جواب المفتين، هل للمستفتي الاختيار منها أو ماذا؟
حكم ترك الفقيه والمفتي للمستفتي حرية اختيار أحد الأقوال في المسألة المختلف فيها
على المستفتي الرجوع في جميع مسائله ووقائعه إلى أهل الفتوى المُجاز لهم بالإفتاء؛ لاختصاصهم ولكثرة ممارستهم ومزاولتهم للعمل الإفتائي، ولا ينبغي في هذه الحالة عرض الأقوال الفقهية على المستفتي دون اختيار، بل يفتيه بما يناسب حاله، حتى يحصل المقصود من الفتوى، وأن يُبَصِّر المستفتي ويوجهه إلى ما ينفعه في دينه ودنياه، ويقدم النصح له.
وللمستفتي عند تعدد أقوال المفتين المؤهلين للإفتاء في مسألته أن يتخير ويعمل بأيها شاء، ما دام اختياره لا يخالف قانونًا أو عرفًا وليس مؤدِّيًا إلى فسادٍ خاصٍّ أو عامٍّ.
التفاصيل ....المحتويات
- بيان المراد بالفتوى والاستفتاء وبيان حكمه
- بيان أنه يجب على المستفتي طلب الفتوى من أهل العلم المختصين والمراد بهم
- موقف المستفتي من تعدد المفتين
- الخلاصة
بيان المراد بالفتوى والاستفتاء وبيان حكمه
الفتوى: هي تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه فيما نَزَلَ به من وقائع وأمور، أو فيما أُشْكِل عليه من أحكام الشرع؛ ولذلك قيل في الفتيا: إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى، كما أفاده الإمام ابن الصَّلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (ص: 72، ط. مكتبة العلوم والحكم).
والاستفتاء: طلب الجواب عن الأمر المشكل؛ قال العلامة الفيومي في "المصباح المنير" مادة (ف ت ي) (2/ 462، ط. المكتبة العلمية): [استفتيته فأفتاني، أي: سألته أن يفتيَني] اهـ.
والاستفتاء فرض على المكلف الذي لا يعلم حكم مسألته أو نازلته؛ لوجوب العمل عليه حسب حكم الشرع، ولأنه إذا أقدم على العمل من غير علم فقد يقع فيما ينبغي تركه أو يترك ما لا بد منه.
قال الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 372، ط. دار الكتب العلمية) في بيان حكم العامي وما يجب عليه من الاستفتاء واتِّباع العلماء: [الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال؛ لأنه يؤدي إلى أن ينقطع الحرث والنسل، وتتعطل الحرف والصنائع، ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بجملتهم بطلب العلم، وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش، ويؤدي إلى اندراس العلم بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم، وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء] اهـ.
بيان أنه يجب على المستفتي طلب الفتوى من أهل العلم المختصين والمراد بهم
إذا تقرر أن الاستفتاء واجب على المكلف فيما لا علم له به فإنه يجب عليه استفتاء أهل العلم والاختصاص لا أن يسأل أحدًا من العوام أو مجهولي الحال أو مدعي العلم أو الفتوى ممن يظهر بمظهر أهل العلم والعلماء؛ قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9].
وأهل العلم والاختصاص الذين يجب استفتاؤهم هم المؤهلون للفتوى المشتغلون بها والمتمكنون المتحققون منها؛ بالدربة والملكة الإفتائية التي تُمكِّنهم من تصوير المسألة المُستَفتى فيها تصويرًا صحيحًا، ودراسة واقعها دراسةً متأنية، ومن ثم تكييفها وتنزيل الحكم الشرعي الصحيح بما يحقق مقاصد الشرع وغاياته الكلية؛ قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
قال الإمام القُرْطُبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (11/ 272، ط. دار الكتب المصرية): [لم يختلف العلماء أنَّ العامة عليها تقليد علمائها، وأنَّهم المراد بقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾] اهـ.
وقال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (5/ 285، ط. دار ابن عفان) عمَّا يجب على المستفتي عند طلب الفتوى من مفتٍ: [السائل لا يصح له أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه؛ لأنه إسناد أمر إلى غير أهله، والإجماع على عدم صحة مثل هذا، بل لا يمكن في الواقع، لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه: أخبرني عما لا تدري، وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل به على سواء... فإذا تعين عليه -أي المستفتي- السؤال، فحق عليه ألَّا يسأل إلا مَن هو مِن أهل ذلك المعنى الذي يسأل عنه] اهـ.
وقال الإمام السيوطي في "الحاوي للفتاوي" (1/ 392، ط. دار الفكر): [لا شك أن المفتي حكمه حكم الطبيب، ينظر في الواقعة ويذكر فيها ما يليق بها بحسب مقتضى الحال والشخص والزمان، فالمفتي طبيب الأديان، وذلك طبيب الأبدان] اهـ.
وقال الإمام تقي الدين السبكي في "الدرة المضية" (ص: 20-23، ط. مطبعة الترقي): [الناس على قسمين: عالم مجتهد متمكن من استخراج الأحكام من الكتاب والسنة، أو عامي مقلد لأهل العلم، ووظيفة المجتهد إذا وقعت واقعة أن يستخرج الحكم فيها من الأدلة الشرعية، ووظيفة العامي أن يرجع إلى قول العلماء] اهـ.
والأصل في المفتي أن يكون مجتهدًا، سواء كان مستقلًّا وهو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيُّد بمذهب أحد، أو كان مجتهدًا مقيَّدًا في مذهب إمامه مستقلًّا بتقرير أصوله بالدليل من غير أن يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده. كما في "المجموع شرح المهذب" للإمام النووي" (1/ 43، ط. دار الفكر)، أو كان مجتهد مسألة بأن تحصَّل له في بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها. كما في "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول" للإمام الشَّوْكاني (2/ 216، ط. دار الكتاب العربي)، وحينئذ فإنه يفتي السائلَ بما أداه إليه اجتهادُه.
ويقوم مقام المجتهد في عصرنا الحاضر الاجتهاد الجماعي الذي تمثله مؤسسات وهيئات الفتوى كالمجامع الفقهية ودُور الإفتاء.
ولا ينبغي للمفتي عرض الأقوال الفقهية على المستفتي دون اختيار؛ إذ عرضه للأقوال دون اختيار لا يعد إفتاء، فغرض المستفتي من السؤال معرفة ما يعمل به، كما ذهب إليه غير واحد من المحققين من الفقهاء والعلماء.
قال الإمام ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (ص: 130): [إذا اقتصر في جوابه على حكاية الخلاف بأن قال: فيها قولان أو وجهان، أو نحو ذلك من غير أن يبين الأرجح، فحاصل أمره أنه لم يفتِ بشيء] اهـ.
وزاد أيضًا (ص: 130-131) بالمثال، حيث ذكر قصة حدثت له، فقال: [وأذكر أني حضرتُ بالموصل الشيخ الصدر المصنف أبا السعادات ابن الأثير الجَزَري رحمه الله، فذكر بعضُ الحاضرين عنده عن بعض المدرسين: أنه أفتى في مسألة، فقال: فيها قولان، وأخذ يُزْرِي عليه، فقال الشيخ ابن الأثير: كان الشيخ أبو القاسم ابن البَزْري، وهو علامة زمانه في المذهب، إذا كان في المسألة خلاف واستُفتِي عنها يذكر الخلافَ في الفتيا، ويقال له في ذلك، فيقول: لا أتقلد العهدة مختارًا لأحد الرأيين مقتصرًا عليه، وهذا حَيْد عن غرض الفتوى، وإذا لم يذكر شيئًا أصلًا فلم يتقلد العهدة أيضًا، ولكنه لم يأت بالمطلوب حيث لم يُخَلِّص السائل من عَمَايته] اهـ.
وقال الإمام النووي في "آداب الفتوى والمفتي والمستفتي" (ص: 43-43، ط. دار الفكر): [يَنْبَغِي أَلَّا يقتصر فِي فتواه على قَوْله: في المسألة خلاف، أو قولان، أو وجهان، أو روايتان، أو يُرجع إلى رأي القاضي، ونحو ذلك، فهذا ليس بجواب، ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به، فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح، فإن لم يعرفه توقف حتى يظهر أو يترك الإفتاء] اهـ.
وقال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (97/5): [وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات، والهوى لا يعدوهما، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي، فهو قائل له: أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق، فلا يمكن -والحال هذه- أن يقول له في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت، فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول: ما فعلت إلا بقول عالم؛ لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس، وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رميٌ في عماية، وجهلٌ بالشريعة، وغشٌّ في النصيحة] اهـ.
موقف المستفتي من تعدد المفتين
إذا تعدد سؤال المستفتي لأكثر من مفتٍ ممن توفرت فيه شروط الإفتاء وضوابطها، فله أن يتخير ويعمل بقول من شاء منهم؛ قال الإمام الزَّرْكَشِي في "البحر المحيط" (8/ 367، ط. دار الكتبي): [ففيه -أي: في حالة اختلاف مفتيين فأكثر في الحكم على المستفتي- أوجه: (أصحها): في "الرافعي": أنه يتخير ويعمل بقول من شاء منهما، ونقله المحاملي عن أكثر أصحابنا، وصححه الشيخ في "اللمع" والخطيب البغدادي، واختاره ابن الصباغ فيما إذا تساويا في نفسه، ونقل عن القاضي، واختاره الآمدي مستدلًّا بإجماع الصحابة، وأنهم لم ينكروا العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل، وأغرب الروياني فقال: إنه غلط.
قال ابن المُنَيِّر: لو لم أجد تخيير العامي عند اختلاف المفتين منصوصًا عليه في الحديث لما كان الهجوم على تقريره سائغًا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية إلى بني قريظة، وقال: لا تنزلوا حتى تأتوهم، فحانت صلاة العصر في أثناء الطريق فاختلفوا حينئذ، فمنهم من صلى العصر ثم توجه، ومنهم من تمادى وحمل قوله: "لا تنزلوا" على ظاهره، فلما عرضت القصة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُخطِّئ أحدًا منهم، ونحن نعلم أن السرية ما خلت عمن لا نظر له ولا مفزع إلا تقليد وجوه القوم وعلمائهم، وكان ذلك المقلد مخيَّرًا، وباختياره قلَّد ولم يلحقه عتبٌ ولا عيبٌ] اهـ.
وقال الإمام الطُّوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 669، ط. مؤسسة الرسالة): [قوله: "فإن استويا عنده"، أي: إن استوى المجتهدان عند المستفتي في الفضيلة، واختلفا عليه في الجواب، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يتبع أيهما شاء مُخيَّرًا لعدمِ المرجِّح] اهـ.
وعليه: فإن حالة اختلاف الفتوى بتعدد المفتين ممن هم أهل للفتوى في مسألة ما أمر جائز، ويصير المستفتي مخيرًا في العمل بقول من شاء منهم؛ وذلك لأن المفتين إذا تساووا في العلم والورع فقول أحدهم يساوي في القوة قول الآخرين، والقول بترجيح أحدهم بدون مرجح تحكم بغير وجه، وفرض المستفتي هو الاستفتاء إذا وقعت له حادثة؛ ليتسنى له معرفة حكم الشرع فيها، وقد حصل، فجاز له اختيار أي الأقوال شاء.
وهو مفهوم ما نصت عليه المادة (43) من مشروع "الميثاق العالمي للفتوى" الصادر عن الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، بأن: [اختلاف الفتوى بين أهل الفتوى المعتمَدين فيها هو بالنسبة لغير المتخصصين اختلاف تنوع مبناه على الرحمة والسعة لا على الفُرقة والشقاق، وما دام الاختلاف في إطار المرجعية الدينية الصحيحة فالأمر واسع في العمل] اهـ. أي: فله أن يختار أحد الأمرين.
هذا، وفي فتاوى واختيارات مؤسسات وهيئات الفتوى كالمجامع الفقهية ودُور الإفتاء ما يُعِين المفتي على الاختيار الفقهي في المسائل المستجدة وغيرها بخطاب مؤسسي إفتائي منضبط يتسم بالجودة والمعايير المقررة شرعًا، والتي منها الوسطية والاعتدال، مما يجعل الفتوى منطلقًا أصيلًا للأفراد والمجتمعات نحو تحقيق التنمية والاستقرار الديني والمجتمعي على كافة المستويات، وسلاحًا قويًّا يواجه ويعالج بحكمة إشكاليات التكفير والتطرف والإرهاب.
ولذلك فالواجب على المستفتي الرجوع في جميع مسائله ووقائعه شخصية كانت أو عامة إلى أهل الفتوى المُجاز لهم بالإفتاء؛ لكثرة ممارستهم ومزاولتهم للعمل الإفتائي، الذين أصبح لديهم الخبرة والملكة الإفتائية، التي تُمكِّنهم من تصوير المسألة المُستَفتى فيها تصويرًا صحيحًا، ودراسة واقعها دراسةً متأنية دقيقة؛ ومن ثم تكييفها وتنزيل الحكم الشرعي الصحيح في هذه المسألة بما يحقق مقاصد الشرع وغاياته الكلية، وذلك بصيغة مُحكَمة مُزيلة للإشكال، بعيدة عن الإبهام وإلقاء المستفتي في الحيرة والشك والارتياب.
الخلاصة
بناءً على ما سبق: فعلى المستفتي الرجوع في جميع مسائله ووقائعه إلى أهل الفتوى المُجاز لهم بالإفتاء؛ لاختصاصهم ولكثرة ممارستهم ومزاولتهم للعمل الإفتائي، ولا ينبغي في هذه الحالة عرض الأقوال الفقهية على المستفتي دون اختيار، بل يفتيه بما يناسب حاله، حتى يحصل المقصود من الفتوى، وأن يُبَصِّر المستفتي ويوجهه إلى ما ينفعه في دينه ودنياه، ويقدم النصح له.
وللمستفتي عند تعدد أقوال المفتين المؤهلين للإفتاء في مسألته أن يتخير ويعمل بأيها شاء، ما دام اختياره لا يخالف قانونًا أو عرفًا وليس مؤدِّيًا إلى فسادٍ خاصٍّ أو عامٍّ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.