الرئيسية >هذا ديننا >من جماع صفاته المعنوية ﷺ "وفور عقله" ﷺ

من جماع صفاته المعنوية ﷺ "وفور عقله" ﷺ

من جماع صفاته المعنوية ﷺ "وفور عقله" ﷺ

 لا شكَّ أنَّ العقلَ عنصرُ الأخلاق الشَّريفة، ومنه ينبعث العلم والمعرفة.
ومن المعلوم لكلِّ ذِي لُبٍّ أنَّ سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم من أعقَلِ خَلقِ اللهِ، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاقِ في نفس الأمر، فبحسبِ عقله صلى الله عليه وآله وسلم كانت علومُه ومعارفُه، وهو عليه الصَّلاة والسَّلام أحسنُ النَّاسِ خلقًا وعلمًا ومعرفةً وعقلًا، وذلك سجيَّةً فيه وطبعًا.
قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: "قَرَأْتُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ كِتَابًا، فَوَجَدْتُ فِي جَمِيعِهَا أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُعْطِ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ بَدْءِ الدُّنْيَا إِلَى انْقِضَائِهَا مِنَ الْعَقْلِ فِي جَنْبِ عَقْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ إِلَّا كَحَبَّةِ رَمْلٍ مِنْ بَيْنِ رِمَالِ جَمِيعِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلًا، وَأَفْضَلُهُمْ رَأْيًا" رواه الحكيم الترمذي وأبو نعيم، وابن عساكر رحمهم الله تعالى.
وروى داود بن المحبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رفعه: «أَفْضَلُ النَّاسِ أَعْقَلُ النَّاسِ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ.
ونقل عن العوارف عن بعض الأكابر قال: اللُّبُّ والعقلُ مائةُ جزءٍ: تسعة وتسعون في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجزء في سائر الناس.
قال القاضي رحمه الله تعالى: ومن تأمَّل تدبيرَهُ صلى الله عليه وآله وسلَّم أمْرَ بواطنِ الخلق وظواهرهِم، وسياسة الخاصَّةِ والعامَّةِ، مع عجيب شمائِله، وبديع سِيَرِهِ، فضلًا عمَّا أفاضَه من العِلمِ، وقرَّرَهُ من الشَّرعِ، دون تعلُّمٍ سَبَقَ، ولا ممارسَةٍ تقدَّمت، ولا مطالعةٍ للكتبِ، لم يمتر في رجحان عقله وثقوب فهمه لأول وهلة.
ومما يتفرَّع عن العقل ثقوب الرّأي وجودة الفطنة والإصابة، وصدق الظَّنِّ، والنَّظر للعواقب، ومصالح النفس، ومجاهدة الشَّهوة، وحسن السِّياسة، والتَّدبير، واقتفاء الفضائل، واجتناب الرذائل، وقد بلغ صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك الغايةَ التي لم يبلُغْهَا بشرٌ سواه صلى الله عليه وآله وسلَّم.
ومن تأمَّل حُسنَ تدبيرِه للعربِ الذين هم كالوحش الشارد، والطبع المتنافر المتباعد؛ كيف ساسهم، واحتمل جفاهم، وصبر على أذاهم، إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم؛ آباءهم، وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم وأحبابهم، من غير ممارسةٍ سبقت له، ولا مطالعةِ كتبٍ يتعلَّمُ منها سنن الماضين؛ فتحقَّقَ أنه صلى الله عليه وآله وسلم أعقلَ الناس.
ولما كان عقله صلى الله عليه وآله وسلَّم أوسعَ العقولِ لا جَرَمَ اتَّسعتْ أخلاقُ نفسِه الكريمة اتِّساعًا لا يضيق عن شيءٍ.
ويقول صاحب كتاب "خاتم النبيين": [منذ نشأ سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والعقل المكتمل حليتُه العُليا التي سَمَا بها على الغِلمان أَتْرابِهِ؛ فمنذُ استوى غلامًا، والعقل يزيِّنُه، ولقد بدا ذلك لجدِّه عبد المطلب الذي أخذه ليعوِّدَه أخلاقَ الرِّجال المكتملين.
ولمَّا ذهب إلى بيت عمه أبى طالبٍ بعد وفاة جَده القريب، كان الغلامَ الرَّزين المكتملَ وسطَ أولادِ أبي طالبٍ، لا يَسبق الأيدي إلى الطَّعام، ولا يدخل في زحمةِ الاغتراف، بل يتريَّث غيرَ نَهِمٍ ولا جَشعٍ ولا طَامعٍ، بل الهادئُ الرَّزينُ، قد يكتفي بالقليل، أو ما دونه حتى يتنبَّه إليه عمُّه الشَّفيق فيُقرِّب إليه ما يَبْعُدُ، ويخصه بما يكفيه مئونةَ المزَاحمة، حتى إذا بلغ قدرًا يستطيع فيه الاكتساب عَملَ على رَعيِ الأغنامِ؛ ليأْكُلَ من عَمَلِ يَدِهِ، ولِينال من خيرِ الدُّنيا بمقدارِ ما قدَّم فيها من نفعٍ غيرِ مؤثِلٍ ولا مُقَصِّرٍ.
وعقله المدركُ لمصيره بقابل حياته في قابلِ عُمُره، فهو يعدُّ نفسه للتِّجارة -عملِ قَوْمه، ومُكتسبِ أرزاقِهِم، ومنشِّطِ قواهم-، فألحَّ على عمِّه أبي طالبٍ أن يأخُذَهُ معه إلى الشَّام في قافلةِ تجارةِ قريشٍ، ليكون على خبرةٍ بالصَّفقِ في الأسواق، وليتعلَّمَ المصادرَ والموارِدَ، وذلك وهو في الثَّانية عشْرَةَ من عمره، حتى إذا عادَ من هذه الرِّحلة المباركةِ عادَ وقد امتلأَ عقلُه تجربةً، فيمارس التِّجارة صَغُرَتْ بضاعتُه أو كَبُرَتْ، وهو على بيِّنة من أمرها، عليمٍ بأسواقِها، والرائِجِ منها والكاسدِ.
ولكمال عقله كان الشَّابَّ التَّاجرَ يحضُر مجتمعاتِ قريشٍ؛ فهو يحضُر ندوتها فاحصًا ما يقال فيها من حقٍّ يرضاه، وباطلٍ يجفُوه ولا يُقِرُّه، ويحضُر حلْفَ الفَضَولِ، ويرى لعقلِه الكامِلَ المُدرِك أنَّه لا يسره به حمر النّعم، ولا يرى نصرةً للحقِّ أقوى منه، ولو دُعي به في الإسلام بعد أن عمَّ الحقُّ، لأجاب تكريمًا له وإعلاءً لقدره.
وهكذا نراه قد أُوتي ﷺ عقلًا مدرِكًا، وعمل على تغذيته بالتَّجارِبِ والاتِّصالِ بالمجتمَعِ ليعرفَ خيرَهُ وشرَّهُ، ويعمل على علاج أدوائِه، إنْ واتاه الله تعالى بفضلٍ من عنده.
وإننا ونحن نتكلم على قوَّته العقلية النافذة إلى الحقائق، لا إلى الظَّاهر نتعرَّض لنفوره من التَّقليد من غير دليلٍ، فهو قد نفرَ من عاداتِ الجاهليَّةِ التي كانت تُحرِّم وتُحلِّل من غير بيِّنة ولا علمٍ قائمٍ على الحقائق المقرَّرة الثَّابتَة. فلم نَرَه يسجد لصنمٍ قَطٌّ، لأنَّ حُكم العقل يتقاضاه ألا يسجد لمن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ويَكرهُ ذكر الأصنام، وعبادتها، فيستحلفُه الرَّاهبُ باللَّاتِ والعُزَّى، فيقول الغُلام ﷺ: «مَا كَرِهْتُ شَيْئًا كَمَا كَرِهْتُهُمَا».
ويختلف مع تاجرٍ، فيستحلفه التَّاجر باللَّاتِ والعُزَّى، فيمتنع، فيسلم له التَّاجر بحقِّه من غير حلفٍ؛ لِأَمَانَتِهِ.
وأيّ عقلٍ أكملَ من أن يرى قومه ينحرفون عن إبراهيم في حَجِّهِ، ويذهبُ فَرْطَ حرصهم واعتزازهم بالبيت ألا يقفوا بعرفات فيجيءُ الرَّجل العاقل المكتمل محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ويتعرف مناسك إبراهيم، فيقف بعرفاتٍ في ميقاته؟ إنَّ ذلك كلَّه لا يكون إلا من رجلٍ عاقلٍ يُعمل عقلَه في هَدَأَةٍ من غير مجادَلَةٍ؛ لأنَّ المجادَلة تُحدث المنازعة، وحيث كانت المنازَعَةُ كان الرّيب، وتبدَّدَتِ الحقائِق بين المتنازِعِين.
لقد علمت قريشٌ كلها بكمال عقله، وقوَّة إدراكه، فرضيت به حَكَمًا، ساعةَ أن احتدم الجَدَلُ، وكادت السُّيوف تمتَشق، والمعارك أن تُنْصَب، فلما نادَته القُرعَة: أنْ أَقْدِمْ، وافصِل بين النَّاس بالحقِّ، رضوا بحُكمه، لأنَّه سيكون حكم العقل والحقِّ، وأيُّ شخصٍ غير عاقل وحكيم كان يهتدى إلى الحكم الذي يرضيهم جميعًا، فيشركهم جميعًا في فضل حمل الحجر الأسود إلى موضعه من غير مشاحَّةٍ ولا خصومةٍ ولا تفاضل بينهم.
ويحمله هو بيده ابتداء فلا ينازعونه لفضل عقله، ثم يحمله هو وحده انتهاءً ويضعه في موضعه بيديه الكريمتين، فيرضون ما يفعل.
ولكمال عقله لم يَخُضْ مع الخائضين في العصبيَّةِ الجاهليَّة، فلم ينطق بها، ولم يجادل حولها، وكان يحب الوِئامَ والسَّلامَ، ولا يحبُّ الحربَ والخصامَ، ولذلك لم يشارك في حربِ الفُجَّارِ إلا بتنصيل السِّهام عن أعمامه؛ حمايةً لهم ورحمةً بهم بموجب الرَّحِمِ الواصلة، لا بموجب الحرب التي أُحِلَّت فيها الحُرُمات والأشهر الحُرُم.
وإنَّه من المؤكَّد أنَّ محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كبحَ جماحَ هواه طول حياته قبل البعثة، فلم يفعل ما يفعله الغِلمان وهو غُلام، ولا ما يفعله الشُّبَّان في باكورة شبابه ولا بعد أن صار رجلًا سويًّا.
اكتملت أخلاقه كما اكتمل جسمه، فكان القويَّ الذي يسيطر على أهوائه، فلا ينحرف مع هوى ولا تجمح به شهوة، وأنه إذا ضعف سلطان الهوى قوي سلطان الحقّ، وإذا قلَّت حدَّةُ الشَّهوَةِ، استقامَ حُكمُ العقل، فالعقل حكمه يناقض حكم الهوى والشَّهوة، والعاقل السيد هو الذي يسيطر على أهوائه وشهواته ويكون عقله هو المسيطر، وما تضلُّ العقول إلا إذا داخلت النفوس الأهواء وعكرت صفاءها، فمحمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان أعقلَ قريشٍ لأنَّه هو الذي لم يسيطر عليه هوًى كسائِرِ ساداتِ مكَّة] اهـ.
المصادر:
- "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي، المتوفى: (942هـ).
- "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض.
- "حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار" لمحمد بن عمر بن مبارك الحميري الحضرمي الشافعي، الشهير بـ«بَحْرَق»، المتوفى: (930هـ).
- "البداية والنهاية" لابن كثير.
- "خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم" لمحمد أبي زهرة، المتوفى: (1394هـ).

 

اقرأ أيضا
;