هل استعمال بخاخة الربو للمريض عند الاحتياج إليها يُعدُّ من المُفطِّرات في الصوم؟
حكم استعمال بخاخة الربو للصائم المريض
بعد دراسةِ دار الإفتاء المصرية لواقعِ عملِ بخاخات الربو وشدة احتياج مرضى الجهاز التنفسي لها، والاستماعِ إلى الخبراء المتخصصين ارتأت أنَّ استخدام المريض بخاخات الربو أثناء الصيام لا يؤثر في صحة صومه؛ لأنَّ الهواء المستنشَق مِن خلالها إنما هو هواء ضروري للنفس عند حصول نوبة المرض، ولا يضر اختلاط الدواء به؛ لأنه صار بعد امتزاجه به -أي: بالهواء المستنشَق- مِن جنس عناصره اللازمة لحصول المقصود منه بإعادة عملية تنفس مريض الربو لحالتها الطبيعية، إضافة إلى أنه داخل في المعفوَّات التي نصَّ الفقهاء على أنها لا تفسد الصوم؛ كاستنشاق الصائم لـ"غبار الطريق"، و"غربلة الدقيق"، و"دخان الحريق"، و"حبوب اللقاح"، و"ما تحمله الرياح"، ومثله ممّا لا يُستَطاعُ الامتناع منه ولا يمكن التحرز عنه ممّا يمتزج بالهواء ولا يتميز عنه.
كما لا يؤثر في صحة الصوم بقاءُ شيءٍ مِن أثر هذا الدواء ممَّا لا يتميز عن اللعاب وإن وَجدَ طَعمه في حلقه أو بَلَعَ ريقه مِن بعد ذلك، ولا يكلَّف بالمضمضة.
التفاصيل ....المحتويات
- بيان أنواع أجهزة الاستنشاق المستخدمة لمرضى الربو
- حكم استخدام بخاخة الربو للصائم المريض
- أثر الهواء الممتزج بالدواء على صحة صيام مريض الربو
- بقاء طعم الدواء في حلق المريض وأثره على الصيام
- الخلاصة
بيان أنواع أجهزة الاستنشاق المستخدمة لمرضى الربو
تزداد أهمية تصوُّر المسألة إذا تعلقت بالمسائل الطبية المستحدثة؛ كما هي الحال في بخاخة الربو، وقد تبيَّن أن لهذا النوع مِن العلاج الوقائي والإسعافي تطورًا واسعَ المَدَى بَعد ازديادِ عددِ مرضى الجهاز التنفسي وكثرة شكواهم مِن الألم ومضاعفات المرض خاصةً بعد جائحة كورونا؛ ممَّا ترتب عليه إعادةُ النظر في خصوص استخدامها أثناء الصيام بمراعاة التطور التقني والتقدم الطبي لواقع هذه البخاخات، وذلك بعد الاستماع إلى الخبراء المتخصصين، وفي ضوء المقررات الفقهية المتعلقة بأحكام الصيام.
ومرضُ الربو (Asthma): هو أحد أمراض الجهاز التنفسي المزمنة، ومِن وسائل العلاج التي يمكن التحكم بها في هذا المرض بحيث يستطيع المريض أن يعيش معه حياة صحية مستقرة: استخدام جهاز الاستنشاق المشتمل على الأدوية اللازمة، والمشتهر باسم "بخاخة الربو".
وهناك نوعان رئيسيان مِن أجهزة الاستنشاق:
أحدهما: وقائي؛ وهو عبارة عن موسِّع للقصبات والشُّعَب الهوائية بحيث يفتح مسالك الهواء ويُخفف مِن حدة الأعراض.
والآخر: إسعافي؛ ويستخدم لعلاج الأعراض الحادة مِن التهاب المسالك الهوائية، ويَحُدُّ كذلك مِن احتمال الإصابة بنوبات ضيق التنفس؛ كما أفادت بذلك منظمة الصحة العالمية (WHO) عبر موقعها الرسمي على الإنترنت.
وتختلف هذه الأجهزة مِن حيث نوعية الدواء المستخدم بها وطريقة عملها إلى:
1- أجهزة البخار صغيرة الحجم (Nebulizer): وتقوم بتحويل الدواء السائل إلى رذاذٍ يستنشقه المريض بواسطة كمامة طبية مخصصة لهذا الغرض توضع على الأنف والفم، وتعمل بواسطة الهواء أو الأكسجين المضغوطَيْن أو الكهرباء.
2- بخاخات الجرعات المحددة (Metered dose inhaler): وهي أجهزة تحتوي على مزيج مِن الدواء ذاتيِّ المحتَوَى، وتقوم بتوزيع الجرعات المتعددة مِن خلال قِيَمٍ محددة، وتستخدم بوضع المريض فوَّهتها على فمه، ثم يقوم باستنشاق الهواء مِن فمه بعُمقٍ ويضغط في الوقت ذاته على البخاخة ليخرج منها الدواء السائل في صورة رذاذ يدخل إلى رئتيه مع الهواء المستنشق.
3- بخاخات المسحوق الجاف (Dry powder inhalers): ويكون الدواء فيها على شكل مسحوق جاف في كبسولة أو أقراص محكمة الغلق، وتتميز بأنَّ أَخْذَ المريض لنفسٍ عميقٍ مِن خلالها يكفي لإطلاق الدواء منها حتى يصل إلى الرئتين عبر الفم دون الحاجة إلى الضغط عليها بالتزامن مع أخذ النفس، وغالب استخدام هذا النوع مِن بخاخات الربو يكون لإيصال الأدوية طويلة المفعول، لا أدوية الإنقاذ سريعة المفعول.
والحاصل مِن واقعِ عملِ هذه الأجهزة على اختلاف صورها وكيفية استخدامها: أنها للتعامل مع الجهاز التنفسي وعلاجه، بُغية الوصول إلى تنظيم عمل أجزائه، وتوسعة الشُّعَبِ الهوائية للرئتَين، لتعود عملية التنفس إلى مسارها الطبيعي بعد الإحساس بضيق النفس والاختناق؛ حيث تقوم بتحويل جرعة الدواء إلى رذاذٍ يختلط بالهواء اللازم لضرورة التنفس بما يشتمل عليه هذا الهواء مِن عناصر وبخار الماء حتى يصير الدواءُ جزءًا منه لا ينفك عنه، ليصل هذا المحتوى كُلُّهُ أو غالبُهُ إلى الرئتين غيرَ قاصدٍ غيرَهما أصالةً؛ إذ يدخل إليهما مِن طريق الفم أو الأنف، لِيَمُرَّ بالحَلْقِ والبلعوم -وهو الممرّ الذي يسبق مَجْرَيَيِ الغذاء والنفس الأصليَّيْن الأساسيَّين ويشتركان فيه-، ومنه إلى الحنجرة التي هي أعلى مجرى التنفس، لا إلى المريء الذي هو أعلى مجرى الغذاء؛ حيث تكون فُوَّهَةُ المريء منقبضة تمامًا -أي: مغلقة-، ويكون لسان المِزْمار مرتخيًا؛ علامةً على أن الداخل إلى الجوف نَفَسٌ فقط، وفي أثناء عملية الزفير التالية للشهيق يترسب ما قد يبقي مِن هذا المحتوى المختلط بالهواء على جدار الحلق أو داخل جهاز التنفس أو يعود للتطاير إلى الخارج، ولا يدخل شيء مِن ذلك إلى المريء ومِن ثَمَّ إلى المعدة أبدًا إلا مِن خلال القيام بحركة البَلْع، لا بمجرد حركة التنفس بما تشتمل عليه مِن شهيق وزفير، ولو كان شيءٌ مِن هذا الداخل عبر الحلق غذاءً أو غيره ممَّا ينزل إلى المعدة لَانْغَلَق لسان المزمار، وإلا اخْتَنَق الإنسان؛ إذ إنَّ تهيُّؤ المريء بانبساط عضلة فُوَّهته وانفتاحه لاستقبال ما ينزل إلى المعدة مِن طعامٍ أو شرابٍ أو دواءٍ أو هواءٍ أو غير ذلك يترتب عليه غَلْقُ مجرى التنفس تمامًا بهذا اللسان مِن خلال القيام بحركة البلع. ينظر في ذلك كُلِّهِ: "دليل أجهزة توصيل الرذاذ لأخصائي العناية التنفسية"، وموقع "صحة الجهاز التنفسي Respira Arabia" المُختصّ بالجهاز التنفسي وأمراضه، وموقع "Web Md" الأمريكي، وموقع خدمات الصحة البريطانية "NHS".
حكم استخدام بخاخة الربو للصائم المريض
بتنزيلِ واقعِ عملِ هذه الأجهزة فيما يخص مريض الربو المكلَّف بالصيام: نَجِدُ أنَّه يجوز له استخدامها بما تشتمل عليه مِن دواءٍ يصل مع الهواء إلى الرئتين دون غيرهما بواسطة عملية التنفس مِن منفذٍ مفتوحٍ أصالةً محسوسٍ -الفم أو الأنف- عند حاجته إلى ذلك أثناء النهار حتى يستقر تنفسه دون أن يؤثِّر ذلك في صحة صومه.
ووجه ذلك: أنَّ الهواء المستنشَق مِن هذه الأجهزة عند حصول نوبة الربو إنما هو هواء ضروري لإتمام عملية التنفس الطبيعية؛ فالغرض منه هو توسيع الشعب الهوائية وفتح الممرات الرئوية وتنظيف المخاط المتراكم في الرئة حتى تعود عملية التنفس للمريض إلى حالتها الطبيعية، فمريض الربو حين تصيبه نوبة المرض؛ يضيق صدره حتى كأنه يرى الموت بأمِّ عينَيه، ولا يصلح الهواء بتكوينه المعتاد لتنفسه إلا بإضافة عنصر الدواء إليه؛ فصار الدواء حينئذٍ بمثابة عنصر مِن عناصر الهواء المستَنشَق اللازمة لحصول المقصود منه، علاوة على صيروته مِن جنس الهواء عند اختلاطه به؛ بمعنى أنه لا يمكن تمييزه عنه ولا يعمل إلا عمله فصار كجزئه، وهو بذلك داخلٌ فيما نَصَّ عليه الفقهاءُ مِن عدم فسادِ الصومِ بتنفُّس الهواء الذي اختلط بـ"غبار الطريق"، و"غربلة الدقيق"، و"دخان الحريق"، و"حبوب اللقاح"، و"ما تحمله الرياح" وما لا يُستَطاعُ الامتناع منه ولا يمكن التحرز عنه ولو كان هذا الامتزاج ناتجًا عن فعل الصائم بممارسته صنعته؛ كالخباز والبنَّاء ونحوهما؛ وذلك لضرورة التنفس.
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (3/ 98، ط. دار المعرفة): [وإذا دخل الغبار أو الدخان حلق الصائم: لم يضره؛ لأن هذا لا يستطاع الامتناع منه، فالتنفس لا بد منه للصائم، والتكليف بحسب الوسع] اهـ.
وقال الإمام الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (2/ 258، ط. دار الفكر): [وغُبارِ طَريقٍ (ش) يَعنِي: أنَّ غُبارَ الطَّريقِ إذا دخل في حَلْقِ الصَّائمِ فلَا قضاءَ عليْهِ فيهِ؛ لِلمشقَّةِ، ولا خلافَ في ذلك. (ص) أو دقيق، أو كَيْل، أو جِبْسٍ لصَانِعهِ (ش) أيْ: وكذلكَ لا قضاءَ في غُبَارِ دَقِيقٍ، أو جِبْسٍ، أو دِبَاغٍ، أو كَتَّانٍ لِصَانِعٍ] اهـ.
قال الشيخ العدوي في "حاشيته عليه" (2/ 258): [(قَوْلُهُ: أو دِبَاغٍ، أو كَتَّانٍ) ظَاهرُ العبارةِ: أو غُبَارِ دِبَاغٍ أو كَتَّانٍ؛ وهو ظاهرٌ. وفي عبارةٍ: وجعلَ بعضُهُم طَعْمَ الدِّباغِ كغبارِ الدَّقيقِ] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 327-328، ط. دار الفكر): [قال أصحابنا: ولا يُكَلَّفُ إطباقَ فَمِهِ عند الغبار والغربلة؛ لأنَّ فيه حرجًا، فلو فتح فَمَهُ عمدًا حتى دخله الغبار ووصل جوفه: فوجهان؛ حكاهما البغوي والمتولي وغيرهما، قال البغوي: أصحهما: لا يفطر؛ لأنه معفوٌّ عن جنسه] اهـ.
وقال شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (3/ 168، ط. دار الفكر): [(فلو وصلَ جَوفَهُ ذبابٌ أو بعوضةٌ أو غبارُ الطريقِ وغربلةُ الدقيقِ لمْ يُفْطِر) وإنْ أمكنه اجتناب ذلك بإطباقِ الفمِ أو غيره؛ لما فيه من المشقةِ الشديدةِ، بل لو فتحَ فاهُ عمدًا حتى دخل جوفه لم يُفْطِر أيضًا؛ لأنَّه معفوٌّ عن جِنْسِهِ] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "الكافي في فقه الإمام أحمد" (1/ 441، ط. دار الكتب العلمية): [وما لا يمكن التحرز منه؛ كابتلاع ريقه، وغربلة الدقيق، وغبار الطريق، والذبابة تدخل في حلقه: لا يفطره؛ لأن التحرز منه لا يدخل تحت الوسع، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها] اهـ.
أثر الهواء الممتزج بالدواء على صحة صيام مريض الربو
بل إنَّ الهواء الممتزج بذلك الدواء أَوْلَى مِن الممتزج بغيره مِن غبار الطريق ونحوه مما سبق ذكره وآكد في عدم إفساد الصوم؛ لأنه لازمٌ لحصول المقصود مِن الهواء في تمام عملية التنفس لمريض الربو عند تعرضه للنوبة الصدرية، بخلاف ما لا يَلزم لتمام عملية التنفس؛ كالتدخين ونحوه ممَّا يحصل المقصود مِن الهواء للتنفس بالتحرز عنه والامتناع منه، وقد تقرر في قواعد الفقه أنَّ "الْإِذْنَ فِي الشَّيْءِ إِذْنٌ فِي مُكَمِّلَاتِ مَقْصُودِهِ"؛ كما قال العلَّامة ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" (2/ 289، ط. مكتبة السنة المحمدية).
فإن قيل: إن الدواء مائعٌ أو جامدٌ يصل إلى الحلق في الحالتين؛ فيكون مِن المفطرات؛ لأن محل الجناية في الصوم هو الحلق!
فالجواب على ذلك: أنَّ الدواء الذي تشتمل عليه بخاخة الربو حين يختلط الهواء به لا يصح قياسه على المائع المفطر أصلًا؛ لأن مِن صفات المائع: الجريانُ وعدم الاستقرار، وهذا رذاذٌ دقيقُ الحجم جدًّا؛ فلا يتصور منه الجريان فضلًا عن أن يكون مائعًا، ولا يصح قياسُه كذلك على الجامد المفطر؛ لِلُحوقه بالمعفوَّات، بل الصواب: القول بأنه قد صار من جنس الهواء؛ كما سبق بيانه.
ومِن ثَمَّ فإنَّ أمر وصوله إلى الحلق لا يَرِدُ على قياسنا؛ فإنَّ محل الكلام عن الحلق وما يصل إليه إنما هو في المفطرات مِن جنس المطعومات والمائعات والجوامد وما يصح التعبير عنه بالأكل والشرب ولو كان دواءً ممَّا يغلب وصوله إلى باطن الجوف؛ استنادًا إلى أنَّ "الْمَظِنَّةَ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمَئِنَّةِ"، وأما محلّ كلامنا فإنّما هو هواء النفس المغاير لهذا كله، علاوة على ما قرّرته علوم الطب مِن أنَّ الحلق وإن كان ممرًّا مشتركًا مِن حيث الأصل بين ما يدخل إلى المريء وما يدخل إلى الرئة، إلا أنه مستقِلٌّ مِن حيث الواقع الفعلي لكلٍّ منهما؛ فحين يكون ممرًّا للتنفس لا يكون ممرًّا إلى المعدة، والعكس صحيح.
وهذا هو ما نصّ عليه جمهور الفقهاء مِن الحنفية والمالكية والحنابلة:
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (3/ 68): [أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: المفسد للصوم وصول المفطر إلى باطنه؛ فالعبرة للواصل لا للمسلك.. وفي ظاهر الرواية: فرَّق بين الدواء الرطب واليابس، وأكثر مشايخنا رضي الله عنهم: أن العبرة بالوصول؛ حتى إذا علم أن الدواء اليابس وصل إلى جوفه: فسد صومه، وإن علم أن الرطب لم يصل إلى جوفه: لا يفسد صومه] اهـ.
وقال العلامة السمرقندي الحنفي في "تحفة الفقهاء" (1/ 356): [فَأَبُو حنيفَة: اعْتبر ظَاهر الْوُصُول بوصول المغذي إِلَى الْجوف حَقِيقَةً، وهما -أي: الصاحبان-: يعتبران الْوُصُول بالمخارق الْأَصْلِيَّة لَا غير، ويقولان فِي الْمخَارِق الْأَصْلِيَّة: يتَيَقَّن الْوُصُول، فَأَما فِي الْمخَارِق الْعَارِضة: فَيحْتَمل الْوُصُول إِلَى الْجوف، وَيحْتَمل الْوُصُول إِلَى مَوضِع آخر لَا إِلَى مَحل الْغذَاء والدواء؛ فَلَا يفْسد الصَّوْم مَعَ الشَّك وَالِاحْتِمَال] اهـ.
وقال العلامة الدردير المالكي في "الشرح الصغير" (1/ 698): [وَاحْتُرِزَ بِالْمَائِعِ عَنْ غَيْرِهِ كَحَصَاةٍ وَدِرْهَمٍ؛ فَوُصُولُهُ لِلْحَلْقِ لَا يُفْسِدُ، بَلْ لِلْمَعِدَةِ] اهـ.
وقال أيضًا في "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه" (1/ 523) في شروط صحة الصوم: [(و) صحته بترك (إيصال متحلل) أي: مائع من منفذ عال أو سافل، والمراد: الوصول ولو لم يتعمد ذلك] اهـ.
قال العلَّامة الدسوقي في "حاشيته عليه" (1/ 523): [وعُلم مِن كلامه: أن ما وصل للمعدة؛ إن كان من منفذٍ عال: فهو مفسد للصوم؛ سواء كان مائعًا أو غير مائع.. فوصول المائع للمعدة مفسد مطلقًا كان المنفذ عاليًا أو سافلًا، ووصول الجامد لها لا يفسد إلا إذا كان المنفذ عاليًا] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 121): [يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوَّف في جسده كدماغه وحلقه، ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته، إذا وصل باختياره وكان مما يمكن التحرز منه؛ سواء وصل من الفم على العادة، أو غير العادة] اهـ.
وهو أيضًا مقتضى تطبيق ضابط المفطر عند الشافعية؛ فقد نصوا على ضابطين للداخل المفطر وإن اختلفوا في اعتبارهما؛ هما: أن يكون دخوله من ظاهر إلى باطن، وأنْ يَصِل إلى ما به قوة الإحالة أو إلى ما هو منفذٌ إليه.
قال الإمام النووي في "المجموع" (6/ 313): [وضبط الأصحابُ الداخلَ المفطرَ: بالعين الواصلة مِن الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصدٍ مع ذكر الصوم، وفيه قيودٌ؛ منها: الباطن الواصل إليه، وفيما يعتبر به وجهان: أحدهما: أنه ما يقع عليه اسم الجوف. والثاني: يعتبر معه أن يكون فيه قوةٌ تُحِيلُ الواصلَ إليه مِن دواءٍ أو غذاء] اهـ.
ومقتضى ما نصُّوا عليه عند بيان ضابط الجوف؛ قال الإمام البجيرمي في "حاشيته على شرح المنهج" (4/ 164) في تعريف "الجائفة" وبيان ضابط "الجوف" و"المنفذ إليه": [(وهي) أي الجائفة (جرح ينفذ لجوف) بقيدين زدتهما بقولي (باطن محيل) للغذاء أو الدواء (أو طريق له) أي للمحيل (كبطن وصدر وثغرةِ نحر وجبين) أي كداخلها.. وخرج بالباطنِ المذكورِ: غيرُهُ؛ كالفم، والأنف، والعين، وممر البول، وداخل الفخذ] اهـ.
ولا يعترض عليه: بأن المعفوَّات تصل إلى الحلق لا بفعل الصائم، بينما الدواء الذي تشتمل عليه بخاخة الربو يصل إليه بفعله؟ ذلك أنَّ المتأمل لحركة التنفس يجد أنَّ كل ذلك يصل إلى الحلق بفعل الصائم، ولو أراد الامتناع عن التنفس أو شيءٍ منه لأمكنه ذلك؛ بنحو أن يضع اللثام على وجهه، أو يطبق فمه، ولم يكلفه الشرع بشيءٍ من ذلك؛ لا على جهة الوجوب ولا على جهة الاستحباب، بل إنه لو أطبق فمه فإنَّ تنقية الأنف للهواء الداخل مِن خلالها إلى الرئتين هي تنقية جزئية لا كلية؛ فبان أنَّ ما كان داخلًا مع الهواء بقصد التنفس لا يفطر إذا صار مِن جنس الهواء وإن كان مما يُتَغَذَّى به أو يُتَدَاوَى بمادته؛ كغربلة الدقيق ونحوها مما سبق بيانه، وبان أيضًا أنَّ التوسع في معنى الجوف بأنه الحلق مطلقًا أو القصبة الهوائية هو توسُّعٌ في المعنى اللغوي لا في المعنى الاصطلاحي الذي بتحققه يفسد الصوم.
بقاء طعم الدواء في حلق المريض وأثره على الصيام
كما أنه لا يؤثر في صحة الصوم حينئذٍ بقاءُ شيءٍ مِن أثر الدواء المختلط بالهواء المستنشَق لضرورة التنفس مِن هذه الأجهزة على جدار الحلق أو داخل مجرى التنفس أو على اللسان مما لا يتميز عن اللعاب وإنْ وَجدَ طَعمه في حلقه أو بَلَعَ ريقه مِن بعد ذلك، ولا يكلَّف في هذه الحالة بالمضمضة؛ لأنها لإذهاب ما قد يبقى من الأثر إذا كان مما يتميَّز عن الريق، وهذا لا يتميز عنه فصار مستهلكًا، وقد تقرر في قواعد الفقه أنَّ "التَّابِعَ تَابِعٌ"، ويدخل في هذه القاعدة أنَّه "يُغْتَفَرُ فِي التَّوَابِعِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا"، وقريبٌ منها أنَّه "يُغْتَفَرُ فِي الشَّيْءِ ضِمْنًا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِيهِ قَصْدًا"؛ كما قال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 117، 120، ط. دار الكتب العلمية).
قال الإمام ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 49، ط. دار المسلم): [وأجمعوا على أنْ لَا شيءَ على الصائم فيما يَزْدَرِدُهُ مما يَجري مع الريق مما بين أسنانه فيما لا يَقدِرُ على الِامتناع مِنه] اهـ.
وقال الإمام ابن الرفعة في "كفاية النبيه" (6/ 324، ط. دار الكتب العلمية) فيما يفسد الصوم وما لا يفسده مما يختلط بالريق: [إن كان يتميز ما في فيه عن الريق: أبطل، وإن كان لا يتميز عنه: لم يبطل] اهـ.
بل صرَّح فقهاء الحنفية بأنَّ "طُعُوم الأدوية" التي يجدها الصائم في حلقه هي من المعفوَّات التي لا يفسد معها الصوم.
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (3/ 63): [مَن ذاق شيئًا من الأدوية المُرَّة يجد طعمه في حلقه: فهو قياسُ الغبار والدخان] اهـ.
وقال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 99، ط. دار الكتب العلمية): [ولو مص إهْلِيلَجَةً فدخل الماء حلقه؟ قال: لا يفسد صومه؛ ذكره في "الفتاوى"] اهـ. و"الإهليلجة": نوع نباتٍ يُستَعمل كدواء.
وقال الإمام برهان الدين ابن مازه الحنفي في "المحيط البرهاني" (2/ 384-385، ط. دار الكتب العلمية): [والغبار والدخان وطعم الأدوية وريح العطر؛ إذا وجد في حلقه: لم يفطِّره؛ لأن التحرز عنه غير ممكن.. وفي "البقالي": إذا أمسك في فمه شيئًا لا يؤكل فوصل إلى جوفه لا يفسد صومه] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك: فقد ارتأت دار الإفتاء المصرية -بعد دراسةِ واقعِ عملِ بخاخات الربو وشدة احتياج مرضى الجهاز التنفسي لها، والاستماعِ إلى الخبراء المتخصصين- أنَّ استخدامها أثناء الصيام لا يؤثر في صحة صومهم؛ لأنَّ الهواء المستنشَق مِن خلالها إنما هو هواء ضروري للنفس عند حصول نوبة المرض، ولا يضر اختلاط الدواء به؛ لأنه صار بعد امتزاجه به -أي: بالهواء المستنشَق- مِن جنس عناصره اللازمة لحصول المقصود منه بإعادة عملية تنفس مريض الربو لحالتها الطبيعية، علاوة على أنه داخل دخولًا أوليًّا في المعفوَّات التي نصَّ عليها الفقهاء؛ مِن مِثل استنشاق الصائم لـ"غبار الطريق"، و"غربلة الدقيق"، و"دخان الحريق"، و"حبوب اللقاح"، و"ما تحمله الرياح"، ونحو ذلك مما لا يُستَطاعُ الامتناع منه ولا يمكن التحرز عنه مما يمتزج بالهواء ولا يتميز عنه فلا يؤدي إلا وظيفته الضرورية للنفس. كما لا يؤثر في صحة الصوم بقاءُ شيءٍ مِن أثر هذا الدواء على جدار الحلق أو داخل مجرى التنفس أو على اللسان مما لا يتميز عن اللعاب وإن وَجدَ طَعمه في حلقه أو بَلَعَ ريقه مِن بعد ذلك، ولا يكلَّف بالمضمضة؛ كما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.