هل الاستحالة تؤثر في تطهير الأشياء؟ لأني أمتنع عن شراء الأدوات المصنعة من المخلفات التي أعيد تدويرها، فكنت أظن نجاستها، فسمعت أن استخدامها جائز وأنها طاهرة، بناء على أنها تحولت من مادة إلى أخرى؛ فنرجو منكم توضيح ذلك من جهة الشرع.
الاستحالة وأثرها في تطهير الأشياء
المحتويات
- مشروعية تدوير المخلفات والنفايات
- مفهوم الاستحالة وأثرها في تطهير النجاسة
- نصوص الفقهاء في طهارة الأعيان النجسة بالاستحالة
مشروعية تدوير المخلفات والنفايات
تُعتَبَر عملية إعادة تدوير المخلفات من الأمور ذات النفع العام؛ لأنها تُخَلِّص البيئة من الملوثات والنفايات، كما أنها تَحُدّ من استنزاف الموارد الطبيعية والمواد الخام، بإيجاد بديل لها مستخرج من هذه المخلفات، بالإضافة لكونها تساعد على زيادة التنمية الاقتصادية، وتوفير فرص عمل جديدة للأيدي العاملة في هذا المجال.
ولكن هذه العملية لها جانب شرعي يتعلق بمدى مشروعية تدوير المخلفات والنفايات، ونستطيع أن نقول إنَّ ما ورد في السنة النبوية من الدعوة للاستفادة بجلود الميتة بعد دبغها فيه طلب لنوع من أنواع تدوير المخلفات والانتفاع بها؛ فقد روى البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: «هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟!» قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ! قَالَ: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا».
واشتمال هذه المخلفات على بعض النجاسات، أو تنجسها باختلاطها بأشياء نجسة، لا يمنع من مشروعية الاستفادة منها، وذلك بعد تدويرها وتحويلها إلى مواد جديدة مختلفة العناصر والتراكيب؛ وذلك بناءً على المختار للفتوى من أقوال العلماء من أن الأعيان النجسة تطهر بالاستحالة.
مفهوم الاستحالة وأثرها في تطهير النجاسة
الاستحالة: هي تَحَوُّل الأعيان وانقلاب الحقائق عن طبيعتها وأوصافها؛ بحيث تصير مواد أخرى لها مكونات أخرى مختلفة الأوصاف.
وقد أجمع العلماء على طهارة الخمر إذا تحولت إلى خَلٍّ بنفسها. انظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 236، ط. دار الكتب العلمية).
وذهب جمهور العلماء من فقهاء الحنفية والمالكية وهي رواية عن الإمام أحمد ومذهب الظاهرية إلى القول بطهارة الأعيان بالاستحالة فيما عَدَا ذلك أيضًا؛ وذلك بالنظر لانقلاب العين وتَغَيُّر الحقائق؛ حيث رَتَّب الشرع الشريف وَصْف النجاسة على حقيقةٍ بِعَيْنِها، وقد زالت هذه الحقيقة، فيزول الوَصْف بزوالها، وكذلك قياسًا على مسألة الخمر المُتَخَلِّلَة، ولهذا نَظائر أخرى؛ منها: طهارة دم الغزال بِتحوُّلِه لِمِسْك، وطهارة العَلَقَة عند تحوُّلِها لمُضْغَة.
فالنجاسة حكم شرعيٌّ وليست حقيقة كيميائية، وإنما جاءت النجاسة وحصل الاستقذار من التركيب المخصوص بالنِّسَب المخصوصة؛ وذلك لأنَّ الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، والحقيقة تنتفي بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فبالأولى تنتفي إذا انتفى الكل.
قال الإمام القرافي في "الذخيرة" (1/ 188، ط. دار الغرب الإسلامي): [الله تعالى إنما حكم بالنجاسة في أجسامٍ مخصوصةٍ، بشرط أن تكون موصوفة بأعراض مخصوصة مستقذرة، وإلا فالأجسام كلها متماثلة، واختلافها إنما وقع بالأعراض، فإذا ذهبت تلك الأعراض ذهابًا كليًّا ارتفع الحكم بالنجاسة إجماعًا] اهـ.
نصوص الفقهاء في طهارة الأعيان النجسة بالاستحالة
هذه بعض نصوصهم رحمهم الله تعالى:
قال العلامة الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق" (1/ 76، ط. الأميرية): [والأعيان النجسة تطهر بالاستحالة عندنا، وذلك مثل الميتة إذا وقعت في المملحة فاستَحَالت حتى صارت مِلحًا، والعَذِرَة إذا صارت ترابًا أو أحرقت بالنار وصارت رمادًا؛ فهي نظير الخمر إذا تخللت، أو جلد الميتة إذا دبغت؛ فإنه يحكم بطهارتها للاستحالة] اهـ.
وقال العلامة الحَطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (1/ 97، ط. دار الفكر) عند كلامه على فأرة المسك -وهي الوعاء الذي يكون فيه المسك، ويسمى أيضًا بالنافجة-: [وإنما حكم لها بالطهارة -والله أعلم-؛ لأنَّها استحالت عن جميع صفات الدم، وخرجت عن اسمه إلى صفاتٍ واسمٍ يختص بها، فطهرت لذلك، كما يستحيل الدم وسائر ما يتغذّى به الحيوان من النجاسات إلى اللحم، فيكون طاهرًا] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (1/ 318، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله -أي: ابن قدامة صاحب "المُقْنِع"-: (ولا يَطْهُر شيء من النجاسات بالاستحالة، ولا بنار أيضًا، إلا الخمرة)، هذا المذهب بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب، ونصروه. وعنه -أي: الإمام أحمد-: بل تطهر؛ وهي مُخَرَّجَةٌ من الخمرة إذا انقلبت بنفسها، خَرَّجَها المَجْدُ –يعني: ابن تيمية الجد-، واختاره الشيخ تقي الدين -يعني: ابن تيمية-، وصاحب "الفائق" -أي: ابن قاضي الجبل-] اهـ.
وقال الإمام ابن حزم الظاهري في "المحلى" (1/ 136، ط. دار الفكر): [إذا أحرقت العَذِرَة أو المَيتَة أو تغيرت فصارت رمادًا أو ترابًا، فكل ذلك طاهر، ويتيمم بذلك التراب، وبرهان ذلك: أن الأحكام إنما هي على ما حكم الله تعالى بها فيه ممَّا يقع عليه ذلك الاسم الذي به خاطَبَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فإذا سقط ذلك الاسم فقد سقط ذلك الحكم، وأنّه غير الذي حكم الله تعالى فيه، والعَذِرَة غير التراب وغير الرماد، وكذلك الخمر غير الخل، والإنسان غير الدم الذي منه خلق، والميتة غير التراب] اهـ. وممَّا ذُكِر يُعلَم الجواب عما جاء بالسؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم