ما حكم الاجتماع في ليالي رمضان للاستماع لقراءة القرآن من القراء الذين يحسنون أداءه، وإنشاد المدائح والقصائد الدينية؟ حيث اعتدنا في قريتنا أن نجتمع بعد صلاة التراويح للاستماع لقارئ يقرأ القرآن الكريم، وأحيانًا يتبعه شيء من المديح النبوي وإنشاد القصائد الدينية، ويصحب ذلك تقديم بعض المأكولات والحلويات والمشروبات، وأحيانًا تقديم وجبة السحور؛ فرحًا بالشهر الكريم من ناحية، وفرحًا لتجمع الأهل والأحباب والجيران كبارًا وأطفالا أغنياء وفقراء من ناحية أخرى، ونسمي ذلك "سهرات رمضان"، فهل هذا يعد من إحياء ليالي رمضان؟ وهل نثاب عليه؟ وهل هو موافق أو مخالف للسنة النبوية؟
حكم الاجتماع لسماع تلاوة القرآن الكريم في ليالي رمضان
الاجتماع في ليالي رمضان للاستماع لقراءة القرآن من القراء الذين يحسنون أداءه، وإنشاد المدائح والقصائد الدينية، أمرٌ مشروعٌ مستحبٌّ حَسَنٌ؛ بعموم الأدلة الدالَّة على استحباب قراءة القرآن واستماعه.
كما أن تقديم بعض المأكولات ونحوها أثناء الاجتماع من باب إطعام الطعام الذي تضافرت نصوص الشرع الشريف في الحثِّ عليه، وأنه من الأسباب التي يترجى بها الفوز بدخول الجنة. وهذا كله مع مراعاة أنَّه في حال إقامة هذه الأمور في الأماكن العامة أو المساجد يلزم التقيد باللوائح والتعليمات التي تقررها الجهات المختصة بهذا الشأن.
التفاصيل ....المحتويات
- فضل ختم وقراءة القرآن الكريم في رمضان
- الاجتماع لسماع تلاوة القرآن الكريم في ليالي رمضان
- بيان مدى مشروعية المديح والابتهالات النبوية والاجتماع لذلك
- بيان فضل إطعام الطعام في الإسلام
- الخلاصة
فضل ختم وقراءة القرآن الكريم في رمضان
أمر الشرع الحنيف عباده بقراءة القرآن الكريم وترتيله، فقال تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4]، ورتَّب على ذلك الأجر المضاعف، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر: 29]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ» أخرجه مسلم، وقال أيضًا صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: ﴿الٓمٓ﴾ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» أخرجه الترمذي في "سننه"، والطبراني في "المعجم الأوسط" و"المعجم الكبير"، والبيهقي في "شعب الإيمان"... إلى غير ذلك من النصوص الواردة في فضل تلاوة القرآن ومكانة المداوم على قراءته عامة.
ويتزايد هذا الفضل ويتضاعف الثواب بقراءة القرآن ومدارسته وختمه في شهر رمضان؛ للخصوصية والعلاقة الوثيقة بينهما، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185].
والأصل في هذا الفضل والثواب واستحباب تلاوة القرآن وختمه في رمضان عن غيره من الأوقات، ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» متفقٌ عليه، واللفظ للبخاري، وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ «يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ» أخرجه البخاري، وابن ماجه في "سننه"، واللفظ له.
قال العلَّامة ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف" (ص: 169، ط. دار ابن حزم): [ودلَّ الحديث أيضًا على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك وعَرْض القرآن على مَن هو أحفظ له، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان، وفي حديث فاطمة عليها السلام عن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم: أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كلَّ عامٍ مرةً، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين، وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه وبين جبريل كان ليلًا، يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلًا؛ فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 6]، وشهر رمضان له خصوصية بالقرآن؛ كما قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185]] اهـ.
ومن هنا كان حرص الصحابة والسلف الصالح على تلاوة القرآن وختمه في رمضان زيادة عن عادتهم في سائر شهور السنة؛ تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورغبة في اغتنام ثواب هذا الشهر الفضيل؛ فقد ورد عن إبراهيم النخعي، أنه: «كان يختم القرآن في شهر رمضان في كلِّ ثلاثٍ، فإذا دخلت العشر ختم في ليلتين» أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه".
وعن قتادة أنه كان «يختم القرآن في كلِّ سبع ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختم في كلِّ ثلاث ليال مرة، فإذا دخل العشر ختم كلَّ ليلة مرة» أخرجه المَرْوَزِي في "مختصر قيام رمضان" وأبو نُعيم الأصبهاني في "حلية الأولياء".
الاجتماع لسماع تلاوة القرآن الكريم في ليالي رمضان
من المقرر أن قراءة القرآن مشروعةٌ مُطْلَقًا بعموم الأدلة الشرعية التي جاءت في الحَثِّ على قراءة كتاب الله واستماعه والإنصات إليه؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204]، كما أن الاجتماع لها أمرٌ مشروعٌ بعموم الأدلة التي جاءت في الحَثِّ على الاجتماع على الذِّكر والقرآن؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» أخرجه مسلمٌ.
وقد نص الفقهاء على استحباب الاستماع إلى القرآن الكريم؛ لحبه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسمع القرآن من أصحابه رضي الله عنهم، ولكون الاستماع إلى قراءة القرآن أقوى في التدبر، كما أنه أثوب في الأجر، فضلًا عن أن قراءة القرآن مستحبة، غير أن الإنصات إليه واجب.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اقْرَأْ عَلَيَّ»، فقلت: يا رسول الله، أَقْرأُ عليك وعليك أُنْزِل؟! قال: «فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41] قال: «حَسْبُكَ الآنَ»، فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان" متفق عليه.
قال العلامة ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (10/ 277، ط. مكتبة الرشد): [معنى استماعه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن من غيره والله أعلم: ليكون عرضُ القرآن سُنَّةً، ويحتمل أن يكون كي يتدبره ويفهمه؛ وذلك أن المستمع أقوى على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط من نفس القارئ؛ لأنه في شغل بالقراءة وأحكامها] اهـ.
وقال الحافظ ابن الجوزي في "كشف المشكل" (1/ 291-292، ط. دار الوطن): [هذا الحديث يحث على استماع القارئ القرآن من غيره، والمذكر التذكير من سواه؛ لأنه حالة تلاوته وتذكيره يشتغل بإصلاح النطق، فإذا سمع من غيره جمع همه في الإنصات] اهـ.
وقال العلامة مظهر الدين الزَّيْداني في "المفاتيح في شرح المصابيح" (3/ 101، ط. دار النوادر): [قوله: "اقرأ عليَّ"؛ يعني: اقرأ حتى أستمع إليك، فإني أحب أن أسمعَ القرآنَ من غيري، وهذا دليلٌ على أن استماعَ القرآن سُنةٌ] اهـ.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» متفق عليه.
قال العلامة ابن علان في "دليل الفالحين" (7/ 23، ط. دار المعرفة): [قوله: (لَوْ رَأَيْتَنِي) أي: أبصرتني (وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ) جملة حالية، وجواب «لَوْ» محذوف: أي لسَرَّك ذلك، فقال أبو موسى: يا رسول الله، لو أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرًا] اهـ.
وهو ما يفيد أن قراءة مَن يحسن قراءة القرآن الكريم واستماع الباقين له -كما هي مسألتنا- أمر جائز بلا خلاف، بل هو أمرٌ مستحبٌّ، ثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم؛ لكونه أقوى في التدبر وأثوب في الأجر.
قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "الأشباه والنظائر" (ص: 248، ط. دار الكتب العلمية): [استماعُ القرآنِ أَثوبُ من قِرَاءتِهِ، كذا في "منظومة ابن وهبان"] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "التبيان في آداب حملة القرآن" (ص: 113، ط. دار ابن حزم): [اعلم أن جماعات من السلف رضوان الله عليهم كانوا يطلبون من أصحاب القراءة بالأصوات الحسنة أن يقرؤوا وهم يستمعون، وهذا متفقٌ على استحبابه، وهو من عادة الأخيار المتعبدين وعباد الله الصالحين، وهو سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (5/ 345، ط. دار الكتب العلمية): [وأما قراءة واحد والباقون يستمعون له، فلا يكره بغير خلاف، وهي مستحبة، وهي التي كان الصحابة يفعلونها: كأبي موسى وغيره] اهـ.
فالنصوص المطلقة الدالة على استحباب قراءة القرآن والاجتماع عليه والاستماع إليه تقتضي مشروعية ذلك في جميع الأوقات؛ إذ من المقرر في علم الأصول أن الأمر المطلق يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فإذا شرع الله سبحانه وتعالى أمرًا على جهة الإطلاق، وكان يحتمل في فعله وكيفية إيقاعه أكثرَ من وجه، فإنه يؤخذ على إطلاقه وسعته، ولا يصح تقييده بوجه دون وجه إلا بدليل.
فتخصيص وقتٍ من ليل أو نهار، أو يوم من الأسبوع أو الشهر أو السَّنَة، أو مناسبة أو احتفال أو موسمٍ أو ذِكرى، أو تخصيص موضع أو مجلس أو غير ذلك لقراءة القرآن الكريم والاستماع إليه هو من الأمور المستحبة المشروعة بعموم الأدلة، حتى ولو لم يكن ذلك بخصوصه واردًا في السُّنَّة، وعلى ذلك جرى عمل السلف الصالح وعلماء الأمة وفقهائها ومحدثيها؛ حتى نصوا على استحباب استفتاح مجالس التحديث واختتامها بقراءة القرآن، وأنه يستحبُّ حينئذٍ الإتيانُ بذوي الأصوات الحسنة، وأن يتخيروا من الآيات ما يناسب الحال ويليق بالمقام.
فعن أبي نضرة قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا اجتمعوا تذاكروا العلم وقرؤوا سورة" أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع".
وقال الإمام النووي في "التبيان" (ص: 113): [وقد استحب العلماء أن يستفتح مجلس حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويختم بقراءة قارئ حسن الصوت ما تيسر من القرآن، ثم إنه ينبغي للقارئ في هذه المواطن أن يقرأ ما يليق بالمجلس ويناسبه] اهـ.
بيان مدى مشروعية المديح والابتهالات النبوية والاجتماع لذلك
كذلك الحال في المدائح وإنشاد القصائد الدينية فإنه أمر مباح؛ حيث إن مدح الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم من أجلِّ القربـات، ومن أعظم ما يُثَبَّتُ به حب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في القلوب.
وقد صحت الأحاديث بأنه لا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى؛ ففي حديث الأسود بن سَرِيعٍ رضي الله عنه أنه قال: قلت: "يا رسول الله، مدحتُ الله تعالى بمِدحة ومدحتك بمِدحة"، قال: «هَاتِ، وَابْدَأْ بِمِدْحَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والطبراني في "المعجم الكبير"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، ولم يزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعجبه الشعر ويُمدَح به فيثيب عليه، وقد سمع مدحه بأذنه من حسان بن ثابت، وعمه العباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن زهير، وغيرهم، رضي الله عنهم، ولم ينكر منه شيئًا.
وتغنَّى المتغنون بين يديه بمديحه صلى الله عليه وآله وسلم فرادى؛ كالثابت عن ابن رواحة وأنس رضي الله عنهما في الحُداء، والثابت عن عائشة رضي الله عنها في حكمها بأحقيته صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء من المدح في بعض شعر الشاعرين.
كما تغنى المتغنون بين يديه بمديحه صلى الله عليه وآله وسلم جماعات؛ كما حدث في استقبال الأنصار له، ولم يُحفَظ عنه صلى الله عليه وآله وسلم إنكارٌ لهذا أو نسخٌ له.
بيان فضل إطعام الطعام في الإسلام
كذلك الحال في تقديم بعض المأكولات والمشروبات أثناء الاجتماع للتلاوة، فإنه أمر مشروع يثاب عليه؛ لعموم الأدلة الواردة في إطعام الطعام، وأنه من أحبِّ الأعمال إلى الله تعالى وأرجاها للقبول؛ حتى جعله سبحانه وتعالى من أسباب الفوز بدخول الجنة؛ فقال تعالى -مادحًا عباده المؤمنين-: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان: 8]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الإسلام خير؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» متفق عليه.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا»، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» أخرجه أحمد في "المسند"، والطبراني في "مكارم الأخلاق"، والبيهقي في "البعث والنشور"، والحاكم في "المستدرك" وصححه.
وعن صهيب بن سنان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ» أخرجه أحمد في "المسند"، والطبراني في "مكارم الأخلاق"، والأصبهاني في "حلية الأولياء".
قال الإمام ابن رشد المالكي في "البيان والتحصيل" (13/ 375، ط. دار الغرب الإسلامي): [وسئل مالكٌ عن إطعام الطعام؛ أهو أفضل، أم الصدقة بالدراهم؟ فقال: كلُّ ذلك حسنٌ] اهـ.
وقال أيضًا (18/ 196): [إطعام الطعام من أفعال الأبرار] اهـ.
وقال الشيخ الحسن اليوسي في "المحاضرات في اللغة والأدب" (ص: 320-321، ط. دار الغرب الإسلامي): [ويحكى عن الشيخ أبي محمد عبد الخالق بن ياسين الدغوغي أنه كان يقول: "طلبنا التوفيق زمانًا فأخطأناه، فإذا هو في إطعام الطعام"] اهـ.
ففي ذلك تأكيدٌ على أن إطعام الطعام من أفضل الأعمال وأجل القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه عزَّ وجلَّ؛ لما فيها من الثواب العظيم والأجر الكبير، وكذا المعاني الاجتماعية التي تبرزها تلك الأعمال من التعاون والتكافل وسد الحاجة والمؤازرة بين الناس جميعًا.
ويزداد أجر إطعام الطعام فضلًا وثوابًا عندما يكون تقديمه للناس في أوقات معينة؛ كالأعياد والمناسبات وبعض الشهور؛ كشهر رمضان، ويكون تقديمه لذوي الحاجة من الفقراء والمساكين؛ فعن الزهري أنه "كان إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام" كما في "لطائف المعارف" (ص: 171).
ويجدر التنبيه على أن إقامة هذه الأمور في الأماكن العامة والمساجد لا بد أن يتقيد باللوائح المنظمة لها ولنظائرها، وبتعليمات الجهات المسئولة عن هذه الأماكن.
الخلاصة
بناء على ذلك: فإن الاجتماع في ليالي رمضان للاستماع لقراءة القرآن من القراء الذين يحسنون أداءه، وإنشاد المدائح والقصائد الدينية، أمرٌ مشروعٌ مستحبٌّ حَسَنٌ؛ بعموم الأدلة الدالَّة على استحباب قراءة القرآن واستماعه.
كما أن تقديم بعض المأكولات ونحوها أثناء الاجتماع من باب إطعام الطعام الذي تضافرت نصوص الشرع الشريف في الحثِّ عليه، وأنه من الأسباب التي يترجى بها الفوز بدخول الجنة. وهذا كله مع مراعاة أنَّه في حال إقامة هذه الأمور في الأماكن العامة أو المساجد يلزم التقيد باللوائح والتعليمات التي تقررها الجهات المختصة بهذا الشأن.
والله سبحانه وتعالى أعلم.