هل للمسافر في البحر لفترة طويلة أن يفطر؟ فرجلٌ يعمل على إحدى السفن التجارية، وقد يستمر سفرُه بالبحر مدةً طويلة، وأحيانًا يُدركه شهر رمضان المبارك وهو على مَتْنِهَا، فهل يجوز له الفطر؟
يجوز شرعًا للمسافر أن يترخص بالفطر ما دام مسافرًا، فإن لم يكن يشق عليه الصوم ولا يتضرر منه، فالأَوْلَى له والأفضلُ أن يصوم لِيُدْرِكَ فضيلةَ الشهر المبارك وثوابَه.
المحتويات
صوم رمضان المبارك مِن أعظم العبادات وأجلها، وأفضل القربات وأحسنها، وهو فرضٌ على كلِّ مكلَّف؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
ومع كونه واجبًا على المكلَّف، إلا أنَّ الشرع الحنيف قد رخَّص للمسافر أن يُفطر مَتَى كانت مسافةُ سَفَرِهِ تُقصَر في مثلها الصلاةُ، ثم يَقضي ما أفطره عدةً مِن أيامٍ أُخَر؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].
وهذا ما عليه جماهير الفقهاء مِن المذاهب الفقهية المتبوعة. ينظر: "البحر الرائق" للإمام زين الدين ابن نُجَيْم الحنفي (2/ 304، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"مواهب الجليل" للإمام شمس الدين الحَطَّاب المالكي (2/ 443، ط. دار الفكر)، و"الحاوي الكبير" للإمام المَاوَرْدِي الشافعي (3/ 445، ط. دار الكتب العلمية)، و"كشاف القناع" للإمام أبي السعادات البُهُوتِي الحنبلي (1/ 505، ط. دار الكتب العلمية).
ولا فرق في كون السفر برًّا أو بحرًا ما دام قد تحقق في السفر شروطُه المعتَبَرةُ شرعًا، مِن بلوغه مسافة القصر، وعدم وجود نِيَّةِ الإقامة؛ لقول الله عزَّ وجلَّ في كتابه الحكيم: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [يونس: 22].
قال الإمام ابن رُشْد الجد في "البيان والتحصيل" (2/ 319، ط. دار الغرب الإسلامي): [إنَّ المسافرَ في البحر والبَرِّ سواءٌ في جواز الفطر، ووجوب القصر.. وهذا ما لا اختلاف فيه أَحْفَظُهُ] اهـ.
قد أجمع العلماء على أنَّ المسافر له أن يترخَّص برُخَص السفرِ مُدَّةَ سفره ولو طالت وبَلَغَت شهورًا أو سِنِينَ ما دام لَم يَنْوِ الإقامة ولم يُجْمِعْ نِيَّتَهُ على ذلك.
قال الإمام الترمذي في "سننه" (2/ 434، ط. الحلبي): [أجمع أهلُ العلم على أنَّ المسافر يَقْصُرُ ما لَم يُجْمِعْ إقامةً، وإنْ أتى عليه سِنُونَ] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر في "الاستذكار" (2/ 242، ط. دار الكتب العلمية): [لا أعلم خلافًا فيمَن سافر سفرًا يقصرُ فيه الصلاة، لا يلزمُهُ أَنْ يُتِمَّ في سفره إلا أَنْ يَنْوِيَ الإقامةَ في مكانٍ مِن سفره وَيُجْمِعَ نِيَّتَهُ على ذلك] اهـ.
أجمع العلماء على أنَّ المسافر له أن يأخذ برخصة الفطر مطلقًا مِن غير تقييد بمشقةٍ ونحوها، إلا أنهم اختلفوا في الأفضلية بين الفطر والصوم لمن لَم يجد مشقةً في سفره.
قال الإمام ابن هبيرة في "اختلاف الأئمة العلماء" (1/ 249، ط. دار الكتب العلمية): [وأجمعوا على أن للمسافر أن يترخص بالفطر ويقضي، ثم اختلفوا هل الأفضل له الصوم أو الفطر؟] اهـ.
فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنَّ الصوم للمسافر أفضل إن لم يَضُرَّهُ؛ لقول الله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 184].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ، إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ" متفقٌ عليه.
وعن أمِّ المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: سَأَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» متفقٌ عليه.
فلو كان الفطرُ في السفر أفضلَ مِن الصوم لَأَفْطَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولَأَمَرَ عبدَ الله بن رواحة وحمزة الأسلمي رضي الله عنهما بالفِطْرِ، ولأنَّ رمضانَ أفضلُ الوقتَيْن مِن وقت الأداء ووقت القضاء، فكان الأداء فيه أَوْلَى؛ لِمَا فيه مِن تبرئة الذمة والمحافظة على فضيلة الوقت.
قال الإمام زين الدين ابن نُجَيْم الحنفي في "البحر الرائق" (2/ 304): [(قوله: وللمسافر، وصومُه أَحَبُّ إنْ لَم يَضُرَّه) أي: جاز للمسافر الفطر؛ لأنَّ السفر لا يَعْرَى عن المشقةِ، فَجُعِلَ في نفسه عذرًا، بخلاف المرض؛ لأنَّه قد يَخِفُّ بالصوم، فَشَرَطَ كَونَهُ مفضيًا إلى الحرج، وإنما كان الصومُ أفضلَ إنْ لم يَضُرَّهُ؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، ولأنَّ رمضانَ أفضلُ الوقتَيْن، فكان فيه الأداءُ أَوْلَى] اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله المَوَّاق المالكي في "التاج والإكليل" (3/ 376، ط. دار الكتب العلمية): [قال مالك: مَن سافر سفرًا مباحًا تُقْصَرُ في مِثله الصلاةُ، فإنْ شاء أَفْطَرَ، وإنْ شاءَ صَامَ، والصوم أَحَبُّ إِلَيَّ] اهـ.
وقال الإمام جلال الدين المَحَلِّي الشافعي في "كنز الراغبين" (1/ 277، ط. دار المنهاج): [صوم رمضان للمسافر سفرًا طويلًا (أفضل مِن الفطر إن لَم يتضرر به) أي: بالصوم؛ لما فيه مِن تَبْرِئَةِ الذِّمَّةِ، والمحافظة على فضيلة الوقت، فإنْ تضرر به فالفطر أفضل] اهـ.
وذهب الحنابلة والإمامان عبد الملك ابن الماجشون وابن حبيب مِن المالكية إلى أنَّ الفطرَ للمسافر أفضلُ وإن لَم يُجْهِدْهُ الصومُ -واستثنى الإمامُ ابن حبيبٍ سفرَ الجهاد-؛ لقول الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، فَقَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» متفقٌ عليه.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» أخرجه الأئمة: ابن خزيمة في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده"، والطبراني في "المعجم الأوسط".
قال الإمام شمس الدين الحَطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 401): [واستَحَبَّ ابنُ الماجشون الفطرَ.. وعن ابن حبيب: يُستَحَب الإفطار إلا في سفر الجهاد، وذكره ابنُ عرفة] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة الحنبلي في "المغني" (3/ 157-158، ط. مكتبة القاهرة): [والأفضل عند إمامنا رحمه الله الفطرُ في السفر، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والأوزاعي، وإسحاق] اهـ.
القول بأن الصوم أفضل للقادر عليه بلا مشقة هو الأَوْلَى بالاتباع، و"أما الآية والحديث فمحمولان على مَن كان يحصل له مِن الصوم مشقةٌ شديدةٌ، بدليلِ أنَّ في صَدْرِ الحديث: أنه رأى رجلًا يُظَلَّلُ عليه، فقال عليه الصلاة والسلام ذلك"، كما قال الإمام شمس الدين الحَطَّاب في "مواهب الجليل" (2/ 401)، "ولأن الفطر رخصةٌ، والصوم عزيمةٌ، وفِعْلُ العزيمة أفضلُ مِن فِعْلِ الرخصة، فأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصَهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ» فضعيفٌ عند أهل النقل، وإنْ صحَّ فلا دليل فيه؛ لأنَّهُ أَحَبَّ الأخذَ بالرخصة والعزيمة، وإذا أَحَبَّهُمَا معًا، وكان إحداهما مُسْقِطًا لِمَا تَعَلَّق بالذمة، فهو أَوْلَى"، كما قال الإمام المَاوَرْدِي في "الحاوي الكبير" (3/ 446).
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز شرعًا للرجل المذكور أن يترخص بالفطر ما دام مسافرًا، فإن لم يكن يشق عليه الصوم ولا يتضرر منه، فالأَوْلَى له والأفضلُ أن يصوم لِيُدْرِكَ فضيلةَ الشهر المبارك وثوابَه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما حكم تأخير الصائم غُسل الجنابة إلى ما بعد المغرب؛ خشية دخول الماء إلى حلقه؟
ما حكم عقد نية الصوم أثناء الصلاة؟ حيث قمتُ للصلاة قبيل الفجر في أَوَّل ليلةٍ من رمضان، وتذكرتُ أنني لم أنوِ الصوم، والوقت ضاق بحيث إنَّه لو انصرفت من الصلاة لكي أنوي الصوم خرج الوقتُ بطلوع الفجر، فهل يصح مني عقد نية الصوم في هذه الحالة وأنا في أثناء الصلاة؟ علمًا بأني قد نويت صوم الشهر كله بعد إعلان رؤية الهلال وثبوت دخول الشهر.
ما فضائل شهر المحرم؟ فإني أودّ الاعتناء فيه بمزيد من العبادات، وقد سمعتُ في بعض الدروس الدينية أنَّه لا يصح صومه كاملًا، فهل هذا صحيح؟
ما حكم صيام من أصابها ورم في الرحم فهي تنزف طيلة شهر رمضان؟ فقد أصاب امرأة ورمٌ في الرحم فهي تنزف طيلة أيام الشهر، فكيف تصوم في رمضان؟
ما حكم الصيام لمرضى السكر على اختلاف درجاتهم، حيث تم تقسيمهم طبيًّا إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: المرضى ذوو الاحتمالات الكبيرةِ جدًّا للمضاعفات الخطيرة بصورةٍ شبه مؤكدةٍ طبيًّا، وهذه الفئة يقول المتخصصون بأنها معرضة لحصول ضررٍ بالغٍ عند الصيام.
الفئة الثانية: المرضى ذوو الاحتمالات الكبيرة للمضاعفات نتيجة الصيام، وهذه الفئة يغلب على ظن الأطباء المتخصصين وقوع ضررٍ بالغٍ عليهم عند الصيام.
الفئة الثالثة: المرضى ذوو الاحتمالات المتوسطة أو المنخفضة للتعرض لمضاعفاتٍ نتيجة الصيام.
فما حكم الصيام لهذه الفئات على اختلاف درجاتهم؟
ما عدد الرمضانات التي صامها النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم؟