تسويد النبي ﷺ في الصلاة والأذان والإقامة

تسويد النبي ﷺ في الصلاة والأذان والإقامة

ما حكم تسويد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان والتشهد والإقامة؟ وما حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الأذان؟ 

ذهب جمهور العلماء والمحققين من أتباع المذاهب الفقهية المعتمدة إلى استحباب اقتران اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة في الأذان والإقامة والصلاة؛ إذ لا فرق في ذلك بين النداء والذِّكْر، ولا بين داخل الصلاة وخارجها، بل مراعاة الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم في النداء والصلاة أولى، وهذا ما عليه الفتوى؛ فالأدب مقدم دائمًا معه صلى الله عليه وآله وسلم.
وهناك من الفقهاء من قدّم الاتباع؛ بالالتزام بما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم من صيغة ليس فيها ذكر لفظ السيادة، وما دام في المسألة خلاف، فالأمر فيها واسع، والتنازعُ مِن أجل ذلك لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الأذان فسنةٌ ثابتةٌ في الأحاديث الصحيحة، ورد الأمر بها على إطلاقه، ولم يأت نص يوجب الجهر أو الإسرار بها، وإذا شرع الله سبحانه وتعالى أمرًا على جهة الإطلاق وكان يحتمل في فعله وكيفية إيقاعه أكثر من وجه فإنه يؤخذ على إطلاقه وسعته، ولا يصح تقييده بوجه دون وجه إلا بدليل.
وخير ما يقال في هذا المقام هو ترك الناس على سجاياهم؛ فمن شاء صلى بما شاء كما شاء، ومن شاء ترك الجهر أو اقتصر على الصيغة التي يريدها، والعبرة في ذلك حيث يجد المسلم قلبه، وليس لأحد أن ينكر على أحد في مثل ذلك ما دام الأمر فيه واسعًا. 

التفاصيل ....

 حكم تسويد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان والتشهد والإقامة: عَلَّمَنا الله تعالى الأدب مع سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين خاطب جميع النبيين بأسمائهم، أما هو فلم يخاطبه باسمه مجردًا بل قال له: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ﴾ [المائدة: 41] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ [الأنفال: 64]، وأمرنا بالأدب معه وتوقيره فقال: ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ۞ لِّتُؤۡمِنُواْ بِٱللهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُۚ وَتُسَبِّحُوهُ بُكۡرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفتح: 8-9]، ومِن توقيره تَسوِيدُه؛ كما قال السديُّ فيما ذكره القرطبي في "تفسيره"، وقال قتادةُ: أمر الله بتسويده وتفخيمه وتشريفه وتعظيمه. أخرجه عَبْدُ بنَ حُمَيدٍ، وابن جرير الطبري في "التفسير"، ونهانا أن نخاطبه صلى الله عليه وآله وسلم كما يخاطب بعضُنا بعضًا فقال سبحانه: ﴿لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضًا﴾ [النور: 63]، قال قتادة: أَمَرَ الله عَزَّ وَجَلّ أنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَنْ يُبَجَّلَ وَأَنْ يُعَظَّمَ وَأَنْ يُسَوَّدَ. أخرجه ابن أبي حاتم وغيره في التفسير.
فكان حقًّا علينا أن نمتثل لأمر الله، وأن نتعلم مع حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدبَ معه، ومن الأدب معه أن نُسَوِّدَه كلما ذُكِرَ، وأن نصلي عليه كما ذُكِر، وأن لا نخاطبه باسمه مجرَّدًا عن الإجلال والتبجيل، ولا فرق بين النداء والذِّكْر في ذلك؛ فكما يُشرَع استعمالُ الأدب والتوقير والتعظيم عند دعائه صلى الله عليه وآله وسلم يُشرَع كذلك عند ذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة عليه من غير فرق؛ لوجود العلة في كلا الأمرين، وهي النهي عن مساواته بغيره من المخلوقين، وذلك حاصل في الذكر كما هو حاصل في الخطاب والنداء، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
وقد أجمعت الأمة على ثبوت السيادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى عَلَمِيَّته في السيادة، قال الشرقاوي: فلفظ سيدنا عَلَمٌ عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وأما ما شذ به البعض للتمسك بظاهر بعض الأحاديث متوهمين تعارضها مع هذا الحكم فلا يُعتَد به، ولذلك أجمع العلماء على استحباب اقتران اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة في غير الألفاظ الواردة المتعبَّد بها من قِبَل الشرع، كما اتفقوا على عدم زيادتها في التلاوة والرواية:
أما التلاوة: فإن القرآن كلام الله تعالى لا يجوز أن يزاد فيه ولا أن ينقص منه، ولا يقاس كلام الله تعالى على كلام خلقه.
وأما الرواية: فإنها حكاية للمَرْوِيّ وشهادة عليه؛ فلا بُدَّ من نقلها كما هي. أما بالنسبة للوارد: فمذهب جمهور العلماء والمحققين من أتباع المذاهب الفقهية المعتمَدة وغيرهم أنه يُستحَبُّ اقترانُ الاسم الشريف بالسيادة أيضًا في الأذان والإقامة والصلاة؛ بناءً على أن الجمع بين الأدب والاتباع أولى من الاقتصار على الاتباع؛ لأن الجمع أولى من الترجيح، وفي الأدب اتِّباعٌ للأمر بتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم تُخَصَّ منه صلاةٌ ولا أذانٌ ولا إقامةٌ، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُمَّتَه الأدبَ معه؛ حيث أخبر بالسيادة عن نفسه الشريفة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»، وقال لمن خاطبوه بقولهم: أنت سيدنا: «قُولُوا قَوْلَكُمْ، وَلَا يَسْتَجِرَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» رواه الإمام أحمد -واللفظ له- وأبو داود وغيرهما، فأقر ذكر السيادة، ونبه على صحة المعنى بالتحذير من إهمال الفرق بين سيادة المخلوق والسيادة المطلَقة للخالق سبحانه من جهة أخرى.
وخوطب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بـ(يا سَيِّدِي) فأقر ذلك ولم ينكره؛ فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: «مررنا بسيل، فدخلت فاغتسلت فيه، فخرجت محمومًا، فَنُمِي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: مروا أبا ثابت يتعوذ، فقلت: يا سيدي! والرقى صالحة؟ فقال: لا رقية إلا في نفس أو حمة أو لدغة» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"، والحاكم في "المستدرك" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وفي إقراره صلى الله عليه وآله وسلم لذلك إِذْنٌ منه في خطابه وذِكْرِه بذلك وأنه أمر مشروع، ولا فرق في ذلك بين أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، بل ذلك في الصلاة أولى؛ لأن الشرع راعى الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة بصورة مؤكَّدة؛ فشرع للمصَلِّي مخاطبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم داخلَ الصلاة وجعلها تبطل بمخاطبة غيره، وأوجب الله تعالى على المصلِّي أن يجيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خاطبه أثناءها ولا تبطل بذلك صلاتُه؛ مبالغةً في الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم ومراعاةً لحرمته وجنابه الشريف، وهذا جارٍ أيضًا في الأذان والإقامة فتخصيصُهما من ذلك لا دليل عليه بل هو على عمومه.
وإذا قيل بالترجيح بينهما فالأدب مقدَّم على الاتباع، كما ظهر ذلك في موقف سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية؛ حيث رفض أن يمحو كلمة رسول الله عندما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحوها؛ تقديمًا للأدب على الاتباع، وظهر ذلك أيضًا في تقهقر سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الصلاة بعد أمرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يبقى مكانه وقال له بعد الصلاة: «ما كانَ لابنِ أبي قُحافةَ أن يَتَقَدَّمَ بينَ يَدَي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم».
وهذا هو المعتمد عند الشافعية -كما نص عليه الجلال المحلي، والشيخان: ابن حجر والرملي-، وعند الحنفية كما أفتى به العلامة القحفازي واعتمده البرهان الحلبي والإمام الحَصْكَفي والطحطاوي.
وعند المالكية -كما قال الإمام العارف ابن عطاء الله السكندري وجزم به القاضي ابن عبد السلام وأبو القاسم البرزلي واعتمده الإمام الحطّاب والأُبِّيُّ-، ونقله ابن المنذر عن الإمام إسحاق بن راهويه في صلاة الجنازة.
وفيما يلي بعض النصوص والفتاوى الفقهية في ذلك:
- فمن أهل الحديث: الإمام المجتهد إسحاق بن راهويه؛ كما نقله الإمام أبو بكر بن المنذر في كتابه "الأوسط" (5/ 443، ط. دار طيبة، الرياض) -من استحباب تسويد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة عليه في صلاة الجنازة- فقال: [وقال إسحاق: إذا كبر الثانية صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأحب الصلاة إلينا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما وصفه ابن مسعود؛ لأنه أجمل ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يقول: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاتَكَ وَبَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى إِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمِ النَّبِيِّينّ، مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مقامًا محمودًا، يغبطه الأولون والآخرون..] اهـ.
- ومن السادة الحنفية: العلّامة علاء الدين الحَصْكَفي؛ حيث يقول في "الدر المختار شرح تنوير الأبصار" (1/ 71، ط. دار الكتب العلمية): [ونُدِبَ السيادةُ؛ لأن زيادة الإخبار بالواقع عَينُ سلوك الأدب؛ فهو أفضل مِن تركه. ذكره الرملي الشافعي وغيره، وما نُقِل لا تُسَوِّدُونِي في الصَّلاةِ فكذِبٌ، وقولُهم: لا تُسَيِّدُوني بالياء لحنٌ أيضًا، والصواب بالواو] اهـ. وقرر ذلك العلامة ابن عابدين في "حاشيته" عليه، ورد اعتراض مَن ادَّعى مخالفة ذلك لمذهب الحنفية.
- ومن السادة المالكية: الإمام العارف بالله تعالى أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري؛ حيث يقول في "مفتاح الفلاح": [وإياك أن تترك لفظ السيادة؛ ففيها سرٌّ يظهر لمَن لازم هذه العبادة] اهـ.
وقال الإمام الأُبِّيُّ المالكي: وما يُستَعمَل من لفظ السيد والمَولَى حَسَنٌ وإن لم يَرِدْ، والمستَنَد فيه ما صح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ». واتفق أن طالبًا يُدعَى بابن غمرين قال: لا يُزاد في الصلاة على سيدنا، قال: لأنه لم يَرِد، وإنما يُقال: على محمد، فنقمها عليه الطلبة، وبلغ الأمر إلى القاضي ابن عبد السلام، فأرسل وراءه الأعوان، فتخفَّى مدةً ولم يخرج حتى شفع فيه حاجب الخليفة حينئذ فخلّى عنه، وكأنه رأى أن تغيُّبه تلك المدة هي عقوبته. اهـ. ينظر: "إكمال المُعلِم لفوائد كتاب مسلم".
وقال الإمام الحطّاب المالكي في أول شرحه "مواهب الجليل" (1/ 21، ط. دار الفكر): [بعد أن نقل ما سبق عن الأُبِّي: وذكر البرزلي عن بعضهم أنه أنكر أن يقولها -يعني لفظ السيد- أحدٌ، ثم قال: وهذا إن صح عنه غاية الجهل، قال: واختار شيخ شيوخنا المجد اللغوي صاحب القاموس ترك ذلك في الصلاة؛ اتِّباعًا لِلَفظ الحديث، والإتيانَ به في غير الصلاة، وذكر الحافظ السخاوي في القول البديع كلامَه، وذكر عن ابن مفلح الحنبلي نحو ذلك، وذَكَرَ عن الشَّيخِ عِزِّ الدِّينِ ابنِ عبدِ السَّلامِ أنَّ الإتيانَ بها في الصَّلاةِ يَنبَنِي على الخِلافِ: هل الأولَى امتِثالُ الأمرِ أو سُلُوكُ الأدَبِ؟ قُلت: وَالذي يَظهَرُ لي وَأفعَلُه في الصَّلاةِ وغيرِها الإتيانُ بلَفظِ السَّيِّدِ. وَاللهُ أعلَمُ] اهـ.
قال الإمام أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بردلة المالكي في "نوازله" تعقيبًا على ذلك: [والذي اختاره الشيخ الحطّاب هو ما عليه الناس] اهـ.
وقال الشيخ السملالي في "نوازله": [الأوْلى والمؤكَّد ذكر السيادة مطلقًا. والله أعلم، نص على ذلك الشيخ ابن عطاء الله والإمام الحطّاب، وَألّف القُسَنْطِيني على ذلك، وغيرهم ممن لا يُحصَى كثرةً، وهو المعَّول عليه] اهـ.
- ومن السادة الشافعية: قال العلامة الجلال المحلي: الأدب مع مَن ذُكِرَ مطلوبٌ شرعًا بذكر السيد؛ ففي حديث "الصحيحين": «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكم»؛ أي سعد بن معاذ، وسيادتُه بالعلم والدين، وقول المصلي: اللهم صَلِّ على سيدنا محمد فيه الإتيان بما أُمِرنا به، وزيادةُ الإخبار بالواقع الذي هو أدب، فهو أفضل مِن تركه فيما يظهر من الحديث السابق، وإن تردد في أفضليته الشيخ جمال الدين الإسنوي، وذَكَر أنّ في حفظه قديمًا أنّ الشيخ ابن عبد السلام بناه على أنّ الأفضل سلوك الأدب أو امتثال الأمر، وأما حديث «لا تُسَيِّدُوني في الصلاة» فباطل لا أصل له كما قاله بعض متأخري الحفاظ. اهـ. يراجع: "الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود" (ص: 134).
وقال العلامة شمس الدين محمد الرملي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (1/ 530، ط. دار الفكر، بيروت): [والأفضل الإتيان بلفظ السيادة، كما قاله ابن ظهيرة وصرَّح به جَمعٌ، وبه أفتى الشارح -يعني الجلال المحلي-؛ لأن فيه الإتيان بما أُمِرنا به وزيادةَ الإخبارِ بالواقع الذي هو أدب، فهو أفضل مِنْ تَرْكِه، وإن تردد في أفضليته الإسنوي] اهـ.
قال العلامة نور الدين علي الشَّبْرَامَلِّسِي في "حاشيته" عليه: [(قولُه: لأنَّ فيه الإتيانَ... إلَخ) يُؤخَذُ مِن هذا سَنُّ الإتيانِ بلَفظِ السِّيادةِ في الأذانِ، وهو ظاهِرٌ؛ لأنَّ المَقصُودَ تَعظِيمُه صلى الله عليه وآله وسلم بوَصفِ السِّيادَةِ حيثُ ذُكِرَ. لا يُقالُ: لم يَرِد وَصفُهُ بالسِّيادةِ في الأذانِ؛ لأنّا نَقُولُ: كذلكَ هنا، وإنَّما طُلِبَ وَصفَه بها للتَّشرِيفِ، وهو يَقتَضِي العُمُومَ في جَمِيعِ المَواضِعِ التي يُذكَرُ فيها اسمُه علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ] اهـ.
- ومن غير أصحاب المذاهب الفقهية: يقول العلامة محمد بن علي الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 336-337، ط. دار الحديث، مصر): [وقد رُوِيَ عن ابن عبد السلام أنه جعله من باب (سلوك الأدب)، وهو مبني على أن سلوك طريق الأدب أحب مِن الامتثال، ويؤيده حديث أبي بكر حين أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يثبت مكانه فلم يمتثل وقال: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، وكذلك امتناع علي رضي الله عنه عن محو اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن الصحيفة في صلح الحديبية بعد أن أمره بذلك، وقال: "لا أمحو اسمَك أبدًا"، وكلا الحديثين في "الصحيح"؛ فتقريره صلى الله عليه وآله وسلم لهما على الامتناع مِن امتثال الأمر تأدُّبًا مُشعِرٌ بَأولَوِيَّتِه] اهـ.
بينما يرى بعض العلماء أولوية الاقتصار في الألفاظ المتعبَّد بها على ما ورد؛ اتباعًا للّفظ الوارد وفِرارًا مِن الزيادة فيه، واحتجوا بعدم ورود ذلك عن الصحابة والتابعين والسلف الصالحين، وأن ذلك لو كان راجحًا لورد عنهم.
ومن هؤلاء العلماء: ابن تيمية [ت728هـ]، وابن مفلح [ت763هـ] الحنبليان، والمجد الفيروزآبادي [ت817هـ] صاحب "القاموس"، والإمام الأذرعي وقال: إنه الأشبه، كما في "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع" للحافظ السخاوي (ص: 225-227، ط. مؤسسة الريان)، ورجحه الحافظ ابن حجر العسقلاني [ت852هـ].
وادَّعى بعض المتأخرين بِدعِيَّتَها وحرمتها كالسهسواني الهندي [ت1326هـ] في "صيانة الإنسان" (2/ 61، ط. المنار)، والشيخ جمال الدين القاسمي [ت1332هـ] في "إصلاح المساجد من البدع والعوائد" (ص: 138، ط. المكتب الإسلامي).
ومن الفقهاء المتأخرين مَن مال إلى أفضلية ذِكْرها في التشهد وتَرْكها في الأذان من غير تحريم كما هو رأي الشريف أحمد بن المأمون البُلغيثي [ت1348هـ]، والحافظ محمد بن جعفر الكتاني من المالكية رحمهما الله تعالى، كما في "تشنيف الآذان" (ص: 51-52) للحافظ أحمد بن الصديق الغماري.
والخلاف إنما هو في الأفضلية لا في الجواز؛ فإن الجميع متفقون على جواز كلا الأمرين. وأما مَن ادَّعى من المتأخرين تحريم زيادة السيادة فهو غير مسبوق في دعواه هذه، ومحجوجٌ بأن العلماء إنما اختلفوا في الأفضلية مع قطعهم بغلط من ادَّعى بطلان الصلاة بذكرها؛ وهذا المعنى واضح في عبارة الإمام الأذرعي حيث يقول في كتابه "التوسط": [الأشبه الاتباع؛ كما نقله الحافظ السخاوي في القول البديع (ص: 227)، وفي عبارة الحافظ ابن حجر حيث يقول في أول فتواه السابق إيرادُ بعضها: نعم؛ اتباع الألفاظ المأثورة أرجح] اهـ.
ومن المقرر في اللغة أن أفعل التفضيل يفيد الاشتراك بمادته والتفاضل بصيغته، أي: أنه يقتضي اشتراك المفضَّل والمفضَّل عليه في أصل الحدَث وزيادةَ المفضَّل على المفضَّل عليه فيه. وقد أجاب الجمهور عن ما احتج به مَنْ رجح ترك السيادة بأجوبة منها:
1- أن كثيرًا من العبادات الشرعية تؤخَذ أحكامها من الأدلة الشرعية المتعددة، منها ما يدل عليها بخصوصه، ومنها ما يدل بعمومه، ومنها ما يدل بمنطوقه، ومنها ما يدل بمفهومه، ولا توجد أحكامها مجموعةً في دليل واحد، فألفاظ التشهد والأذان جاءت في موضع، والأمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسويده اعتقادًا ونطقًا إذا خوطب أو ذُكِرَ جاء في موضع آخر، وليس في كلا الأمرين ما ينافي الآخر؛ فاستحباب التسويد خرج مخرج التعميم، ولم يَرِدْ في الشرع ما يُخرِج الأذانَ والإقامةَ والصلاةَ من ذلك، ولا يُلجَأ إلى الترجيح إلا عند تعذُّر الجمع، بل يُحمَل المطلَق على المقيَّد، والجمع بين الدليلين مقدَّم على العمل بأحدهما، فتعين العمل بالأمرين معًا.
2- أن غاية ما في الأمر أنّ ترك ذِكرِها في ألفاظ الأذان والإقامة والتشهد في السنة النبوية الشريفة قولًا وتقريرًا يدل على عدم وجوبها لا على عدم مشروعيتها؛ فلا يصح الاحتجاج بمجرد الترك على التحريم أو الكراهة أو البدعية، لا سيما فيما له أصل صحيح متقررٌ في الشرع لا مخصِّصَ له؛ كتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان ذلك الترك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من صحابته الكرام. يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السلف؛ لأن تركهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أو لِمَا هو أفضل منه، أو لعله لم يبلغ جميعَهم عِلْمٌ به. اهـ. نقلًا عن "حسن التفهم والدرك لمسألة الترك" للحافظ عبد الله بن الصِّدِّيق الغماري.
3- أن ذكر السيادة عند اسم الشخص المشرَّف والموقَّر من تمامه وكماله عادةً وعرفًا، سواءٌ في ذلك مخاطبتُه في حضورِه وذكرُه في غيبته، كما أن ترك ألقاب التوقير مما يُلام عليه بحيث قد يتهم فاعل ذلك بمخالفة الأدب، وخاصة في هذه العصور المتأخرة التي صار ذكر السيادة في عرف أهلها من لوازم التقدير والاحترام، وقد جاء الشرع الشريف باعتبار العرف فيما لا يخالف الشرع؛ فقال سبحانه وتعالى: ﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ﴾ [الأعراف: 199].
4- أن دعوى عدم الورود ليست صحيحة؛ فقد وردت السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَأحْسِنُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ"، فَقَالُوا لَهُ: فَعَلِّمْنَا، قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَاتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ وَإِمَامِ المُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الخَيْرِ وَقَائِدِ الخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ بِهِ الأوَّلُونَ وَالآخِرُونَ.." رواه ابن ماجه في "السنن"، وابن جرير في "تهذيب السنن والآثار"، وأبو يعلى في "مسنده"، والطبراني في "المعجم الكبير"، والدارقطني في "العِلَل"، وأبو نُعَيم في "الحِلْيَة"، والبيهقي في "الدعوات والشُّعَب"، كلهم من طريق المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن أبي فاختة مولى جعدة بن هبيرة المخزومي، عن الأسود بن يزيد، عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا، وحسّنه الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب"، والحافظ الهيثمي في "إتحاف الخِيَرَة"، وصححه الحافظ مُغْلَطَاي.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "الدر المنضود" (ص: 116): [وهو شامل للصلاة وخارجها] اهـ.
وقد سبق ذِكْر ما نقله الإمام ابن المنذر عن الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه من أن أحب صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه في صلاة الجنازة ما وَصَفَه به ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في هذا الأثر، وجعله أجمل ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يقتضي إثباته لهذه الرواية وصحة العمل بها. أما تضعيف الحافظ ابن حجر لهذا الرواية فهو راجع إلى اختلاط راويه المسعودي عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وهذا التضعيف متعقَّبٌ من وجهين:
الأول: أنهم إنما أخذوا على المسعودي غلطه فيما يرويه عن صغار شيوخه كعاصم بن بهدلة، وسلمة بن كُهيل، والأعمش، ولكن ذلك ليس عامًّا في كل رواياته، بل صححوا له رواياته عن كبار مشايخه من المسعودِيِّينَ كالقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وأخيه معن، وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود؛ ولذلك قال علي بن المديني: المسعودي ثقة، وقد كان يغلط فيما روى عن عاصم بن بهدلة، وسلمة، ويصحح فيما روى عن القاسم ومعن، وقال يحيى بن معين: أحاديثه عن عون وعن القاسم صحاح "تاريخ بغداد"، (10/ 220-221)، و"تهذيب الكمال"، (17/ 224)، وقال الإمام أبو زرعة الرازي في أجوبته على "سؤالات البرذعي" (2/ 419): [أحاديثه عن غير القاسم وعون مضطربة؛ يهم كثيرًا اهـ. وقال الإمام الدارقطني في أجوبته على "سؤالات السلمي" (ص: 255): [المسعودي إذا حدَّث عن أبي إسحاق وعمرو بن مرة والأعمش فإنه يغلط، وإذا حدث عن معن والقاسم وعون فهو صحيح، وهؤلاء هم أهل بيته] اهـ.
وهذا الحديث من رواية المسعودي عن عون بن عبد الله، فهو مما صح من رواياته.
الثاني: أنهم نصوا على أن المسعودي من أعلم الرواة بعلم ابن مسعود رضي الله عنه، قال مِسعَرٌ وابن عيينة: ما أعلم أحدًا أعلم بعلم ابن مسعود من المسعودي. اهـ. راجع: "تهذيب الكمال" (17/ 226).
وأن الضعف فيه إنما هو بعد اختلاطه لا قبل ذلك، قال الإمام أحمد: سماع وكيع من المسعودي بالكوفة قديم، أبو نعيم أيضًا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومَن سمع منه بالكوفة والبصرة فسماعه جيد. اهـ. "تهذيب الكمال" (17/ 222-223)، وهذا الحديث مما رُوِيَ عنه قبل الاختلاط؛ فقد سمعه منه جماعة من المحدِّثين الثقات منهم: وكيع بن الجرَّاح الكوفي -كما عند الدارقطني في "العِلَل" (5/ 15)-، وأبو نعيم الفضل بن دُكَين الكوفي، وعبد الله بن رجاء الغُدَاني البصري كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" (9/ 115)، والأعمش سليمان بن مِهْرَان الكوفي كما عند الدارقطني في "العلل" (5/ 15)، وجعفر بن عون الكوفي كما عند البيهقي في "الدعوات الكبير" (حديث: 148)، وزياد بن عبد الله البكائي الكوفي كما عند ابن ماجه في "السنن" (حديث: 906)، وزيد بن الحُباب الكوفي كما عند البيهقي في "الشعب" (2/ 208)، وأبو سعيد مولى بني هاشم البصري كما عند أبي يعلى في "مسنده" (9/ 175).
فهؤلاء ثمانية ليس فيهم بغدادي، كلهم سمعوا منه قبل الاختلاط، وممن نُصَّ على جهة الخصوص من هؤلاء أنه سمع منه قبل الاختلاط: وكيع، وأبو نعيم، وعبد الله بن رجاء، وجعفر بن عون. انظر: "تهذيب الكمال" (17/ 226)، و"تاريخ بغداد" (10/ 218).
وتضعيف أحاديث المسعودي جملةً من التشديد الذي لا يرضاه المحدثون؛ قال الحافظ العراقي في "التقييد والإيضاح" (ص: 454): [قد شدَّد بعضهم في أمر المسعودي وَرَدَّ حديثه كله؛ لأنَّه لا يتميَّز حديثه القديم من حديثه الأخير... والصحيح ما قدمناه: مِنْ أن مَنْ سمع منه بالكوفة والبصرة قبل أن يَقدم بغداد فسماعه صحيح] اهـ.
والرواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رواها أحمد بن منيع في "مسنده"، وإسماعيل بن إسحاق القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ صلاة ابن مسعود رضي الله عنه.
5- والجواب عمن قصر الأفضلية على التشهد دون الأذان: أن الدليل الشرعي الخارجي الذي دل على استحباب ذكر السيادة في التشهد -مع عدم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها فيه- دالٌّ أيضًا على استحباب ذكرها في الأذان والإقامة من غير فرق، كما أن المقصود الأعظم من الأذان الإعلامُ بدخول وقت الصلاة، وهذا المقصود لا ينافيه التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه بذكر سيادته الدالَّة على تعظيمه وشرف قدره صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد نص على خصوص استحباب ذكر السيادة في الأذان والإقامة المتأخرون من الشافعية؛ كالشيخ الشبرامَلِّسي والجمل والشرواني في حواشيهم الفقهية كما سبق النقل عنهم، وكذلك أفتى به شيخ المالكية في عصره الإمام أبو محمد عبد القادر الفاسي، وكان عليه العمل ببعض مدن الإسلام كالقدس ودِمياط وغيرهما، كما ذكره الحافظ أحمد بن الصديق الغماري في "تشنيف الآذان" (ص: 48، 212).
وقد ألَّف العلّامةُ شهاب الدين أحمد بن يونس الحِميَرِي القُسَنْطيني الجزائري المغربي المالكي رسالةً في ترجيح ذِكر السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وغيرها، كما ذكر الحافظ السخاوي في ترجمته مِن "الضوء اللامع".
وجاء العلامة الحافظ أبو الفيض أحمد بن الصِّدِّيق الغُمّاري الحَسَنِي رحمه الله فألف في هذه المسألة كتابًا حافلًا ماتعًا سماه "تشنيف الآذان بأدلة استحباب السيادة عند ذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والإقامة والأذان" جَمَع فيه كلَّ ما يتعلق باستحباب ذِكر الاسم الشريف مقترنًا بالسيادة، مقرِّرًا أنه لا تَنافيَ بين الأدب والاتباع؛ لأن في السيادة اتباعًا للأمر بتوقيره صلى الله عليه وآله وسلم والنهي عن مخاطبته كما يخاطِب الناسُ بعضُهم بعضًا، وليس في الشرع نهي عن تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان أو الصلاة، بل من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أنه هو وحده الذي يمكن أن يخاطبه المصلي دون أن يخرج من صلاته كما سبق.
ومما سبق ومِن النظر في كتب المذاهب الفقهية المعتمَدة يُعلَم أنه ذهب إلى استحباب تقديم لفظ سيدنا قبل اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم -في الصلاة والأذان والإقامة وغيرها من العبادات- جمهور فقهاء المذاهب الفقهية وغيرهم، وهذا هو ما عليه الفتوى؛ فالأدب مقدم دائمًا معه صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا عن الأفضلية.
أما عن الجواز فكلا الأمرين جائز، والأمر في ذلك واسع، وليس لفريق أن ينكر على الآخر في الأمور الخلافية التي وَسِع مَن قَبلَنا الخلافُ فيها، والتنازعُ مِن أجل ذلك لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى ذلك: فليس تسويدُه صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان والإقامة والتشهد مخالفًا للشرع، بل فاعل ذلك محمود ومثاب على فعله هذا، وقد استشكل بعضُهم زيادة السيادة في خصوص التشهد بأنه حكاية المناجاة بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في المعراج، ويُجاب عن ذلك: بأن هذا أمر ذوقيٌّ لم يَرِد فيه حديث صحيح، والأحكام الشرعية منوطة بالأسباب والعلل لا بالأذواق؛ فإن المصلِّي إنما يقول التشهد على جهة الإنشاء من نفسه؛ مُحَيِّيًا اللهَ تعالى ومُسَلِّمًا على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم على نفسه وعلى عباد الله الصالحين وشاهدًا بوحدانية الله تعالى ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقصد بتشهده الإخبار والحكاية عما وقع في معراجه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم مِن خطابه لربه سبحانه وخطاب ربه له صلى الله عليه وآله وسلم على فرض ورود ذلك وصحته، وهذا المعنى الإنشائي يقتضي مِن المصلي تسويده أيضًا عليه الصلاة والسلام في الشهادة له بالرسالة كما قد نُصَّ عليه أيضًا، مع ملاحظة أن ذلك كله على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحَتم والإيجاب. وأما حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الأذان: فالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الأذان سنة ثابتة في الأحاديث الصحيحة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة» رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
ولم يأت نص يوجب الجهر أو الإسرار بها؛ فالأمر فيه واسع، وإذا شرع الله سبحانه وتعالى أمرًا على جهة الإطلاق وكان يحتمل في فعله وكيفية إيقاعه أكثر من وجه فإنه يؤخذ على إطلاقه وسعته، ولا يصح تقييده بوجه دون وجه إلا بدليل.
على أنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على الجهر بالصلاة عليه بعد الأذان؛ فقد روى الطبراني في "معجمه الكبير" عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا سمع المؤذن: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَعْطِهِ سُؤْلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وكان يُسمِعُها من حوله ويحب أن يقولوا مثل ذلك إذا سمعوا المؤذن، قال: «مَنْ قَالَ ذَلِكَ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ وَجَبَتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وعلى كل حال: فالأمر في ذلك واسع، والصواب ترك الناس على سجاياهم، فمن شاء صلى بما شاء كما شاء، ومن شاء ترك الجهر بها أو اقتصر على الصيغة التي يريدها، والعبرة في ذلك حيث يجد المسلم قلبه، وليس لأحد أن ينكر على الآخر في مثل ذلك ما دام الأمر فيه واسعًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا