حكم حرق الأسعار في البضائع من أجل الحصول على سيولة مالية

حكم حرق الأسعار في البضائع من أجل الحصول على سيولة مالية

ما حكم حرق البضاعة من أجل الحصول على المال؟ مثل شراء سلعة بالتقسيط وبيعها في نفس الوقت للحصول على سيولة مالية؟ حيث ظهر في هذه الأيام ما يسمّونه بـ"حرق البضائع" وهي طريقة بيع يلجأ إليها البعض للحصول على سيولة مالية، وصورته: أن يشتري من التاجر سلعة معينة بالتقسيط، ثم يبيعها لذات التاجر بسعر حالٍّ معجل، لكنه أقل؛ رغبة في توفير سيولة نقدية لقضاء بعض الحوائج الحياتية أو التجارية، فهل هذا جائز؟

وهل هذه المعاملة هي العِينَة التي ورد النهي عنها في السنة المشرفة؟

وهل يختلف الأمر لو كان المشتري للسلعة ثانيًا ليس هو بائعها الأول؟

ما يلجأ إليه بعض الناس من شراء سلعة معينة بالتقسيط، ثم يبيعها للتاجر ذاته بسعر حالٍّ معجل أقل، هو أمر جائز من حيث الأصل على المستوى الفردي من الطرفين، ما دام لم يترتب على ذلك محاذير ومفاسد أشد؛ كالغبن الفاحش، أو الإغراق في الديون المعجوز عن سدادها بما يحقق المفسدة للمحتاج أو الفقير ويزيد من أزماته، أو يحصل استعمال ذلك للتحيّل على أكل أموال الدائنين أو مماطلتهم بإجراءات التقاضي الطويلة.

وهذه المعاملة هي التي تسمى (بيع العينة)، ولم يرد نصٌّ أو إجماع يمنع منها، وهي داخلة في مسمى البيع؛ لأنها عبارة عن شراء السلعة دينًا ثم بيعها حالًا، وهو وإن كان الغالب فيه هو الخسارة عن الثمن الآجل، إلا أن هذه الخسارة معوضة بما حصل له فيها من تيسير أمره وقضاء حاجته.

وأما بيع هذه السلعة المعينة لغير مَن اشتراها منه أولًا بثمن حالٍّ أقل، فهي أولى بالجواز من الصورة الأولى؛ لأنه إن جاز البيع للبائع نفسه فإنه يجوز بيعها لغير البائع من باب أولى.

التفاصيل ....

المحتويات:

حكم البيع بالأجل

من المُقَرَّر شرعًا أنَّ الأصل في البيع الذي يحوز فيه المشتري المبيعَ المُعَيَّنَ ويؤجل أداء كُلِّ ثمنه أو بعضه على أقساط معلومة لأَجَلٍ معلوم هو أنه بيع صحيح جائز.

ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ البيعَ﴾ [البقرة: 275]، وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى طعامًا مِن يهوديٍّ إلى أَجَلٍ، ورهنه درعًا مِن حَديد.

قال ابنُ بَطّال في "شرح البخاري" (6/ 208، ط. مكتبة الرشد): [العلماء مُجْمِعون على جواز البيع بالنسيئة] اهـ.

ولو زاد البائع في ثمن المبيع المُعَيَّن نظير الأجل المعلوم فإن ذلك جائز شرعًا أيضًا؛ لأنه مِن قبيل المرابحة، وهي نوع من أنواع البيوع الجائزة شرعًا التي يجوز فيها اشتراط الزيادة في الثمن في مقابلة الأجل؛ لأن الأجل وإن لم يكن مالًا حقيقة إلا أنه في باب المرابحة يُزاد في الثمن لأجله إذا ذُكِر الأجل المعلوم في مقابلة زيادة الثمن؛ قصدًا لحصول التراضي بين الطرفين على ذلك، ولعدم وجود موجب للمنع، ولحاجة الناس الماسَّة إليه؛ بائعينَ كانوا أو مشترين. ولا يُعَدُّ ذلك مِن قبيل الربا؛ لأنه بَيعٌ مجرد؛ حصل فيه إيجابٌ وقَبولٌ وتَوَفَّر فيه الثَّمَن والمُثمَّن، وهذه هي أركان البيع، غاية أمره أنه قد تأجل فيه قبض الثمن إلى أجل، فدخل تحت عموم قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ البيعَ﴾ [البقرة: 275].

والقول بجواز الزيادة في الثمن نظير الأجل هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وهو المنقول عن طاووس والحَكَم وحَمّاد والأَوزاعي من فقهاء السلف. انظر: "بدائع الصنائع" للإمام الكاساني (5/ 224، ط. دار الكتب العلمية)، "الشرح الكبير" لسيدي الدردير (3/ 58 -مع "حاشية الدسوقي"-، ط. دار إحياء الكتب العربية)، "المهذب" للإمام الشيرازي (1/ 289، ط. دار الفكر)، "المُبدِع شرح المُقنِع" للعلامة ابن مفلح (4/ 103، ط. دار الكتب العلمية)، "معالم السُّنَن" لأبي سليمان الخَطَّابي (3/ 123، ط. المطبعة العلمية بحلب).

صور مسألة حرق البضائع

وأما شراء الإنسان لسلعة معينة نسيئة، ثم بيعها بعد ذلك بثمن حالٍّ أقل، كنوع من أنواع التحيّل للحصول على النقد فله صورتان:

الأولى: أن يبيعها للبائع الأول.

الثانية: أن يبيعها لغير من اشتراها منه أولًا.

الصورة الأولى: أن يبيعها للبائع الأول

أما الصورة الأولى؛ وهي أن يشتري الإنسان سلعة معيّنة نسيئة، ثم يبيعها بعد ذلك ثانية لذات مَن اشتراها منه أولًا بثمن حالٍّ أقل، للحصول على النقد؛ وهي المسماة في كتب الفقه بـ"العِينة"، قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (1/ 313، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [سميت عينة لحصول العين -أي: النقد- فيها] اهـ.

اختلاف الفقهاء في حكم الصورة الأولى

بيع العينة من البيوع المختلف في حكمها بين الفقهاء، فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى المنع منها.

قال العلامة الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق" (4/ 53، ط. دار الكتاب الإسلامي): [لو باع شيئًا وقبضه المشتري ولم يقبض البائع الثمن فاشتراه بأقل من الثمن الأول لا يجوز] اهـ.

وقال العلامة ابن رشد المالكي في "المقدمات الممهدات" (2/ 53، ط. دار الغرب الإسلامي): [إذا باع الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها منه بأقل من ذلك الثمن نقدًا، فسخت البيعتان جميعًا عند ابن الماجشون، وهو الصحيح في النظر] اهـ.

وقال الإمام البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (3/ 185، ط. دار الكتب العلمية): [ومَن باع سلعة بنسيئة؛ أي بثمن مؤجل (أو بثمن) حالٍّ (لم يقبضه صح) الشراء حيث لا مانع (وحرم عليه) أي: على بائعها (شراؤها، ولم يصح) منه شراؤها (نصًّا بنفسه أو بوكيله بـ) نقد من جنس الأول (أقل ممَّا باعها) به (بنقد)، أي: حالّ (أو نسيئة، ولو بعد حل أجله) أي: أجل الثمن الأول (نصًّا)] اهـ.

ورأس استدلالهم: ما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».

قال العلامة المناوي في "فيض القدير" (1/ 397، ط. المكتبة التجارية الكبرى-مصر): [وهذا من أقوى أدلة مَن حَرَّم بيع العِينة] اهـ.

وأما الشافعية والقاضي أبو يوسف من الحنفية فقد ذهبوا إلى أنَّها معاملة جائزة، بل إن أبا يوسف يقول: "مأجور مَن عمل بها" اهـ. انظر: "حاشية ابن عابدين" (5/ 273، ط. دار الكتب العلمية).

ونقله عنه العلامة الخادمي في "بريقة محمودية" (4/ 194، ط. دار إحياء الكتب العربية) ثم عَلَّلَ رأي أبي يوسف بأن مرتكب العينة مأجور بأنه وسيلة للفرار من الحرام؛ قال: [وذكر الزاهدي الاحتيال للفرار من الحرام مندوب] اهـ.

ونَقَل عن "الفتاوى البزازية": [طلب من آخر قرضًا بالربح فباع المستقرض المقرض عرضًا بعشرة قيمته عشرة وسلم إليه، ثم باعه المقرض منه باثني عشر وسلمه إليه يجوز] اهـ.

ونقل كذلك عن مشايخ بَلْخ أنهم قالوا: [بيع العينة في زماننا خير من البيوع التي تجري في أسواقنا] اهـ.

وعن "النقاية": [كل حيلة لا تؤدي إلى ضرر تجوز؛ تخلصًا من الربا، ولا يأثم بذلك، وإن كانت تؤدي إلى الضرر لا تجوز في الديانة، وإن جازت في الفتوى] اهـ.

ونقل كذلك عن قاضي خان أنه قال بعد تعداد صورة العينة: [ومثل هذا مروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بذلك -ولعله يقصد حديث مسلم في بيع تمر خيبر الذي يأتي قريبًا-] اهـ.

قال الخادمي (4/ 194): [لعل الرجحان في جانب قاضي خان؛ إذ سمعت إطلاق الرواية عن محمد، ومع المأجورية عن أبي يوسف، ومع الخيرية عن مشايخ بلخ وغيرها، وكونه مرويًّا ومأمورًا منه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، والجواز المطلق من "البزازية"، وعدم الإثمية من منقوله عن "النقاية"، والحديث رواه، وأيضًا وقع بإطلاق الجواز عن "السراجية" في الثالث عشر من حيل التتارخاني. ولا يخفى أن قاضي خان لا يتأخر في القوة والرتبة عن "الهداية"، لا سيما وقد وقع في حجته صاحب المذهب كأبي يوسف ومحمد] اهـ.

وقال الفقيه داماد أفندي في "مجمع الأنهر" (2/ 139-140، ط. دار إحياء التراث العربي) بعد أن ذكر كلام بعض علماء الحنفية في تحريم العينة وصورها: [لكن هذا مخالف لما في "الخانية"؛ حيث قال بعد تصويرها بقوله: رجل له على رجل عشرة دراهم فأراد أن يجعلها ثلاثة عشر إلى أجل. قالوا: يشتري من المديون شيئًا بتلك العشرة فيقبض، ثم يبيع من المديون بثلاثة عشر إلى سنة، فيقع التحرز عن الحرام، ومثل هذا مروي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم قال بعد تعداد الصور الأُخَر: وهذه الحيل هي العينة التي ذكرها محمد، قال مشايخ بلخ: بيع العينة في زماننا خير من البيوع التي في أسواقنا. انتهى، لكن التحرز أولى] اهـ.

وأما الشافعية: فقد قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (3/ 418-419، ط. المكتب الإسلامي): [فصل: ليس من المناهي بيع العينة -بكسر العين المهملة، وبعد الياء نون-، وهو أن يبيع غيرَه شيئًا بثمن مؤجل، ويسلمه إليه، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدًا، وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقدًا ويشتري بأكثر منه إلى أجل؛ سواء قبض الثمن الأول أم لا، وسواء صارت العينة عادة له غالبة في البلد أم لا، هذا هو الصحيح المعروف في كتب الأصحاب] اهـ.

ويدل للجواز: قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282].

والبيع في الآية الكريمة الأولى لفظ مفرد محلى بالألف واللام، وهو يقتضي العموم واستغراق الجنس، ما لم يتحقق معه عهد ذهني أو ذكري –"جمع الجوامع" مع "شرح المحلي" و"حاشية العطار" (2/ 7-8، ط. دار الكتب العلمية)-، وكذلك الآية، وعليه فهي دالة على إباحة كل ما يَصدُق عليه أنه بيع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما استثناه الشرع.

قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (3/ 356، ط. دار عالم الكتب بالرياض) عند الكلام على هذه الآية الكريمة: [هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد؛ إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه.. وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصَّص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نهي عنه ومنع العقد عليه؛ كالخمر والميتة وحبل الحبلة وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة النهي عنه.. وهذا مذهب أكثر الفقهاء] اهـ.

والعِينة لم يرد نص أو إجماع يمنع منها، وهي داخلة في مسمى البيع؛ لأنها عبارة عن شراء السلعة دينًا ثم بيعها حالًا، وهو وإن كان الغالب فيه هو الخسارة عن الثمن الآجل، إلا أن هذه الخسارة معوضة بما حصل له فيها من تيسير أمره وقضاء حاجته، فعموم الآية الكريمة متناول لها، والأصل في المعاملات الإذن حتى يدل الدليل على خلافه؛ لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد.

وما يقال في العموم في هذه الآية يقال في الثانية، فإن العِينة حقيقتها بيع ومداينة، وهي -أي: المداينة- داخلة في عموم الآية الثانية، وكلا العقدين -البيع والمداينة- يتحقق فيهما أركان المتاجرة المعتبرة شرعًا؛ من التراضي وكونه فيما أحل الله تعالى، وإذا توافر ذلك فهو كاف للقول بالصحة.

ومن الأدلة: قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].

قال العلامة البيضاوي في "تفسيره" (2/ 70، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾؛ بما لم يبحه الشرع؛ كالغصب والربا والقمار، ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ استثناء منقطع؛ أي: ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه] اهـ.

وكذلك ما رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّمَا البَيعُ عَنْ تَرَاضٍ»؛ أي إنما البيع الشرعي الصحيح المعتبر عند الشارع الذي يترتب عليه صحة الملك هو الصادر عن تراض من البائع بإخراج السلعة عن ملكه ومن المشتري بإدخاله في ملكه. انظر: "التنوير شرح الجامع الصغير" للأمير الصنعاني (4/ 167، ط. دار السلام بالرياض).

العينة ليست إلا بيعًا تامّ الأركان حصل بالتراضي بين طرفيه.

ويدل للجواز أيضًا: ما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل رجلًا على خَيبَر فجاءه بتَمرٍ جَنيبٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا».

ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرشد الصحابي إلى مخرج للابتعاد عن الربا إلى وسيلة تحقق مقصود صاحب التمر الرديء من حصوله على تمر جيد مع تفاضل بينهما في المقدار دون أن يكون وسيلة هذا القصد محرَّمة، وذلك بعقدي بيع مستقلين بعيدين تمامًا عما يفسدهما، ولا يشبهان الربا في شيء، وإن كانت نتيجة هذا التعامل تؤول في النهاية إلى نفس النتيجة التي كان التعامل يتم فيها بالربا (الصاع بالصاعين)، فدلّ ذلك على جواز البيوع التي يتوصل بها إلى تحقيق الغاية منها إذا كانت بصيغ شرعية بعيدة عن كنه الصور المحرَّمة.

فالتعامل بالعينة طلبًا للحصول على السيولة النقدية جائز، وكون النتيجة التي آلت إليها المعاملة مماثلة لنفس النتيجة التي كان التعامل يتم بها من شراء الصاع بالصاعين، لا يكون مؤثِّرًا في جواز هذا وإباحته؛ لكون ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصل بعقدين مستقلين مشروعين لا علاقة لأحدهما بالآخر من حيث الاشتراط، فتبين أن مجرد مشابهة عقد مشروع لآخر ممنوع لا يكفي للقول بتحريم المشروع.

وهذا الحديث مُطلقٌ لم يُفرّق فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين صورة دخول شخص ثالث في الصفقة، وصورة أن يتم البيع والشراء بين اثنين دون توسط ثالث، والقاعدة أنَّ المطلق يجري على إطلاقه حتى يرد ما يُقيّده.

قال الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (11/ 21، ط. دار إحياء التراث العربي): [واحتج بهذا الحديث أصحابنا وموافقوهم في أن مسألة العينة ليست بحرام، وهي الحيلة التي يعملها بعض الناس توصلًا إلى مقصود الربا بأن يريد أن يعطيه مائة درهم بمائتين، فيبيعه ثوبًا بمائتين ثم يشتريه منه بمائة، وموضع الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري أو من غيره، فدلَّ على أنَّه لا فرق، وهذا كله ليس بحرام عند الشافعي وآخرين] اهـ.

والشافعية وإن أجازوا هذه المعاملة مع الكراهة، إلا أنَّ هذه الكراهة تنتفي إن كان هناك حاجة إلى تلك المعاملة، لأن القاعدة أنَّ الكراهة تزول بالحاجة. انظر: "غذاء الألباب" للسَّفّاريني (1/ 323، ط. مؤسسة قرطبة).

وأما ما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»: فلا يثبت؛ ففي إسناده أبو عبد الرحمن الخراساني إسحاق بن أسيد، قال فيه أبو حاتم: شيخ ليس بالمشهور ولا يشغل به، وقال ابن عدي: مجهول، وقال ابن حبان: يخطئ، وذكر النباتي في ذيل الكامل أن الأزدي قال فيه: منكر الحديث تركوه. انظر: "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر (1/ 198، ط. دار الفكر)، وقد عَدّ الذهبي في "ميزان الاعتدال" (4/ 547، ط. دار المعرفة) هذا الحديث من مناكيره. وضعفه كذلك الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام" (ص: 321، ط. دار القبس).

على أنَّ الحديث لو صحّ فليس بصريح في الدلالة على المطلوب، ويمكن تأويله بأنّ المنع حيث كان الانشغال بما ذكر مفضيًا إلى ترك الجهاد، وليس لأنه ممنوع في نفسه.

يقول العلامة الخادمي في "بريقة محمودية" (4/ 194): [يجوز كون المنع لمصلحة الجهاد لقلة الإسلام، فإذا ارتفع المنع في حق المزارعة لكثرة الإسلام فليرتفع في حق العينة؛ توفيقًا للروايات] اهـ.

الصورة الثانية: أن يبيعها لغير من اشتراها منه أولًا

وأما الصورة الثانية؛ وهي أن يشتري الإنسان سلعة معينة نسيئة، ثم يبيعها بعد ذلك لغير من اشتراها منه أولًا بثمن حالٍّ أقل، للحصول على النقد؛ وهي المسماة في كتب الفقه بـ"التورق"، فهي جائزة.

والقول بالجواز هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، وهو مندرج تحت بيوع الآجال عند المالكية.

قال الإمام ابن الهمام في "فتح القدير" (7/ 213، ط. دار الفكر): [الذي يقع في قلبي أن ما يخرجه الدافع إن فعلت صورةٌ يعود فيها إليه هو أو بعضه.. فمكروه، وإلا فلا كراهة إلا خلاف الأُولى على بعض الاحتمالات؛ كأن يحتاج المديون فيأبى المسؤول أن يقرض، بل أن يبيع ما يساوي عشرة بخمسة عشر إلى أجل، فيشتريه المديون ويبيعه في السوق بعشرة حالّة، ولا بأس في هذا؛ فإنَّ الأجل قابله قسط من الثمن والقرض غير واجب عليه دائمًا، بل هو مندوب] اهـ.

ولم ينص المالكية صراحة على مسألة التورق، لكن ما يَقْرُب منها عندهم يندرج تحت بيوع الآجال.

قال الشيخ الدردير في "شرحه الكبير لمختصر خليل": [(فصل) في بيوع الآجال وهي بيوع ظاهرها الجواز لكنها تؤدي إلى ممنوع، ولذا قال: (ومنع) عند مالك ومَن تبعه؛ (للتهمة)؛ أي: لأجل ظن قصد ما منع شرعًا؛ سدًّا للذريعة] اهـ.

قال الشيخ الدسوقي في "حاشيته": [شروط بيوع الآجال المتطرق إليها التهمة خمسة: أن تكون البيعة الأولى لأجل، فلو كانت نقدًا كانت الثانية نقدًا، أو لأجل فليستا من هذا الباب، وأن يكون المشترى ثانيًا هو المبيع أولًا، وأن يكون البائع ثانيًا هو المشتري أولًا أو مَن تنزل منزلته، والبائع أولًا هو المشتري ثانيًا أو مَن تنزل منزلته، والمنزل منزلة كل واحد وكيله، سواء علم الوكيل ببيع الآخر أو شرائه أو جهله، وأن يكون صنف ثمن الشراء الثاني من صنف ثمنه الأول الذي باع به أولًا] اهـ.

وقال الشيخ الدردير فيه أيضًا: [والضابط: أنه إن تساوى الأجلان أو الثمنان فالجواز، وإن اختلف الأجلان أو الثمنان فانظر إلى اليد السابقة بالعطاء، فإن دفعت قليلًا عاد إليها كثيرًا فالمنع، وإلا فالجواز] اهـ. انظر: "الشرح الكبير على مختصر خليل" للشيخ الدردير –بحاشية الدسوقي عليه- (3/ 76-78)، فالظاهر من ذلك جواز صورة التورّق في مذهب المالكية.

والشافعية يرون عدم حرمة بيع العينة، ويذكرونها في جملة البيوع المكروهة -كما سبق بيانه-، فمن باب أولى صورة التورق؛ وذلك لأن بيع العينة يبيع فيه المشتري بالآجل للبائع نفسه عاجلًا، أما صورة التورق فإن المشتري يبيع فيها لغير البائع؛ فلأن يجوز البيع لغير البائع أولى من البيع للبائع نفسه.

وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 26، ط. عالم الكتب): [ومَن احتاج لنقد فاشترى ما يساوي ألفًا بأكثر؛ ليتوسع بثمنه فلا بأس نصًّا، ويسمى التورق] اهـ.

ونحن إذ نجيز هذه المعاملة فنحن نجيزها على المستوى الفردي لا على وجه أن تصبح ظاهرة مجتمعية تؤدي إلى الإضرار بالسوق أو إضعاف الاقتصاد أو اتخاذ بعض الناس ذلك ستارًا لغسيل الأموال أو للنصب والاحتيال.

وقد ذكر العلماء أن الأحكام المتعلقة بالعموم قد تختلف في بعض الأحيان عن تلك المتعلقة بالأفراد، وقد يزيد هذا الاختلاف إذا زادت درجة العموم الذي ترتبط به الفتوى، في تدرج يبدأ من الفتوى المتعلقة بالفرد، ويمر بالفتوى المتعلقة بالجماعة، وينتهي بالفتوى المتعلقة بالأمة.

ولذلك نجد أنَّ علماء المسلمين وأئمتهم كانت لهم آراء مختلفة في بعض المسائل عن تلك التي قد يتبادر أنها هي الجواب الذي تقتضيه الصناعة الفقهية بالنظرة الأولية الساذَجة، وليس ذلك إلا لأن هذه المسائل لها آثار تتعلق بالجماعة أو بالأمة، وكان الأمر قد يكون مختلفًا إذا كانت تلك المسائل قد جاءت باعتبارٍ مختلف أو بنحوٍ فردي.

وأصل هذا ما ورد في السنة النبوية من النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ مع أن الأصل هو إباحة الانتفاع بها على أي وجه مناسب للمُضَحّي، ولكن لما أصيبت بعض قبائل العرب في سنة تسع من الهجرة بالمجاعة العامة، وقدم إلى المدينة قوم جياع يلتمسون الطعام والقوت، نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الادخار المذكور؛ ليُتَصَدَّق بما بقي منه على المحتاجين من المسلمين؛ فروى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قَالَ: لاَ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ»، ثم لما زالت المجاعة وارتفع الموجب للحكم عاد الأمر إلى أصله من جواز التصرف والادخار دون قيد الثلاثة أيام؛ فروى الشيخان -واللفظ للبخاري- عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلاَ يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَفِى بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»، فلما كان العام المقبل، قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا عام الماضي؟ قال: «كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا».

وهكذا يختلف الحكم فيصبح المباح في حق الفرد محظورًا لأجل المصلحة العليا للمسلمين، فإذا اندفعت الحاجة، عاد الأمر إلى أصل الإباحة.

قال الإمام جمال الدين الإسنوي: [الصحيح أن النهي كان مخصوصًا بحالة الضيق، والصحيح أيضًا أنه إذا حدث ذلك في زماننا أن يعود المنع] اهـ. بواسطة: طرح التثريب لولي الدين العراقي (5/ 198، ط. دار إحياء الكتب العربية).

ومن القواعد الشرعية أن "مراعاة المصلحة العامة مقدم على مراعاة المصلحة الخاصة".

وحفظ المال من مقاصد الشريعة العليا التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها، فلولي الأمر إذا رأى أن التصرف بما عُرِف عند الناس بـ"حرق البضائع" يؤدي إلى الإخلال بهذا المقصد على المستوى العام أن يتدخل بالتقييد أو المنع متى ما رأى المصلحة في ذلك، والقاعدة الفقهية أن "تصرف ولي الأمر منوط بالمصلحة"، وأن "له أن يقيد المباح تحقيقًا للمصلحة".

ولذلك قال العلامة الخادمي الحنفي في "بريقة محمودية" (4/ 194) بعد أن أظهر ميله إلى جواز بيع العينة وقواه من ناحية المذهب ومن ناحية الدليل: [لكن ينبغي أن لا يفتى بجواز رتبة الغبن الفاحش؛ صيانة للفقراء، إذ أكثر مَن يُبتلى به ليس إلا الفقراء، وهم مضطرون يشترون بالغالي. لعل لهذا ورد النهي السلطاني أن يزاد على واحد ونصف في العشرة، وورد عليه فتاوى مشايخ المسلمين، وأفتي أنَّ مَن لم ينته بهذا النهي ولم يعمل بهذه الفتوى يعزر شديدًا ويحبس مديدًا إلى أن يظهر صلاحه وتوبته ويسترد الزيادة التي أخذ ولو بالتراضي.. وأما الزيادة على واحد ونصف في العشرة فلا يسمع دعواه؛ للمنع السلطاني الواقع لمصلحة الرعية الواجب اتباعه، وإن كان مباحًا في الأصل، والله أعلم] اهـ.

الخلاصة

وعليه: فما يلجأ إليه البعض هذه الأيام من شرائه سلعة معينة بالتقسيط، ثم يبيعها للتاجر ذاته أو لغيره بسعر حالٍّ مُعجَّل أقل، هو أمر جائز من حيث الأصل على المستوى الفردي من الطرفين، ما دام لم يؤد ذلك إلى محاذير ومفاسد أشد؛ كالغبن الفاحش، أو الإغراق في الديون المعجوز عن سدادها بما يحقق المفسدة للمحتاج أو الفقير ويزيد من ورطاته، أو يحصل استعمال ذلك للتحيّل على أكل أموال الدائنين أو مماطلتهم بإجراءات التقاضي الطويلة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا