هل تجوز الصلاة بعد الوتر؟ وإن جاز، فهل يلزمني أن أشفع هذا الوتر بركعة وأوتر في آخر صلاتي؟ أو ماذا أفعل؟ علما بأني صليت الوتر بعد صلاة العشاء في أول الليل، ثم استيقظت من ليلتي، وأردت أن أصلي شيئًا من قيام الليل.
حكم نقض الوتر وكيفية الصلاة بعده
متى استيقظ المسلم من ليلته وأرد أن يُصلِّي شيئًا من قيام الليل بعدما نام على وترٍ: فإنه يجوز له ذلك من غير حاجة إلى أن يشفع الوتر الذي أتي به أول الليل بركعة، ولا يلزم أن يأتي بوترٍ آخر بعد الانتهاء من الصلاة.
التفاصيل ....المحتويات
- حكم صلاة الوتر
- بيان اختلاف الفقهاء في حكم نقض الوتر وكيفية الصلاة بعده
- المختار للفتوى في كيفية الصلاة بعد نقض الوتر
- الخلاصة
حكم صلاة الوتر
صلاة الوتر سنةٌ مؤكدةٌ عند جمهور الفقهاء، وسمِّيت بـ"الوتر" لأنها تصلَّى بعددٍ وتر -أي: فردي- ركعةً واحدةً، أو ثلاثًا، أو أكثر، وتؤدى بين صلاة العشاء وطلوع الفجر.
بيان اختلاف الفقهاء في حكم نقض الوتر وكيفية الصلاة بعده
يرى جمهور الفقهاء من الحنفيّة، والمالكيّة، والشافعية في المشهور عندهم، والحنابلة، والظاهرية، أنَّ مَن صلى الوتر، ثم أراد أن يصلي مِن ليلته ما كُتب له، أنَّه يجوز له ذلك، مِن غير حاجة إلى أن يأتي بركعة منفردة يشفع بها وتره، وهو المروي عن جماعة من الصحابة؛ منهم: أبو بكر الصّديق، وأم المؤمنين عائشة، وابن عباس في المشهور عنه، وسعد بن وقاص، وعمّار بن ياسر، وعائذ بن عمرو رضوان الله عليهم أجمعين، وجماعة من التابعين؛ منهم: الأزواعيّ، والنخعيّ، وعلقمة، وطاووس، وأبو ثور.
فعَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ قَالَ: زَارَنَا أَبِي فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمْسَى عِنْدَنَا وَأَفْطَرَ، وَقَامَ بِنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَأَوْتَرَ بِنَا، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى مَسْجِدِهِ فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ، حَتَّى بَقِيَ الْوِتْرُ، ثُمَّ قَدَّمَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَوْتِرْ بِأَصْحَابِكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» أخرجه الأئمة: أبو داود والترمذي والنسائي في "السنن".
وعَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَ: ذُكِرَ لَهَا الرَّجُلُ يُوتِرُ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ فَيَشْفَعُ بِرَكْعَةٍ، قَالَتْ: "ذَاكَ الَّذِي يَلْعَبُ بِوِتْرِهِ" أخرجه البيهقي في "سننه"، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما".
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: "مَنْ أَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ ثُمَّ قَامَ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ" أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف".
وقد تواردت نصوص الفقهاء على عدم مطلوبية إعادة الوتر لمن أوتر ثمَّ أراد أن يصلي من ليلته بعد ذلك، قال العلَّامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (1/ 369، ط. دار الفكر): [(قوله: فإن فاق إلخ) أي: إذا أوتر قبل النوم، ثم استيقظ: يصلي ما كُتب له، ولا كراهة فيه، بل هو مندوب، ولا يعيد الوتر] اهـ.
وقال الشيخ الخرشي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 10، ط. دار الفكر): [وإذا قدَّم الوتر ثم صلى نافلة فإنه لا يعيد الوتر؛ لخبر: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ»] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الاستذكار" (2/ 118، ط. دار الكتب العلمية) موضحًا عدم تشفيع الوتر بركعة ثانية: [محال أن يشفع ركعة قد سلم منها، ونام مصليها، وتراخى الأمر فيها، وقد كتبها الملك الحافظ وترًا، فكيف تعود شفعًا؟! هذا ما لا يصح في قياس ولا نظر] اهـ.
وقال الإمام محيي الدين النووي الشافعي في "المجموع" (4/ 15، ط. دار الفكر): [إذا أوتر قبل أن ينام، ثم قام وتهجد: لم ينقض الوتر على الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور، بل يتهجد بما تيسر له شفعًا.. لحديث طلق بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» رواه أبو داود والترمذي والنسائي: قال الترمذي: "حديث حسن"] اهـ.
وقال الإمام موفق الدين ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 120، ط. مكتبة القاهرة): [ومَن أوتر مِن الليل، ثم قام للتهجد؛ فالمستحب: أن يصلي مثنى مثنى، ولا ينقض وتره. روي ذلك عن: أبي بكر الصديق، وعمار، وسعد بن أبي وقاص، وعائذ بن عمرو، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة. وكان علقمة لا يرى نقض الوتر. وبه قال: طاوس، وأبو مجلز. وبه قال: النخعي، ومالك، والأوزاعي، وأبو ثور] اهـ.
وذهب الشافعية في وجه إلى أن مَن صلَّى الوتر، ثم أراد أن يصلي مِن ليلته ما كُتب له، فإنه يأتي بركعة منفردة يشفع بها وتره، ثم يصلي بعد ذلك ما شاء من الصلوات، ثم يوتر ثانيًا حتى تكون آخر صلاته من ليله وترًا، وعبروا عن ذلك بـ"نقض الوتر".
قال الإمام محيي الدين النووي في "المجموع" (4/ 15): [إذا أوتر قبل أن ينام ثم قام وتهجد... فيه وجه حكاه إمام الحرمين وغيره من الخراسانيين أنه يصلي من أول قيامه ركعة يشفعه، ثم يتهجد ما شاء، ثم يوتر ثانيًا، ويسمى هذا نقض الوتر] اهـ.
المختار للفتوى في كيفية الصلاة بعد نقض الوتر
المختار للفتوى ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن مَن صلَّى الوتر في أول ليله ثم أراد أن يتنفل بعده؛ فإنه يصلي ما شاء من الصلوات من غير أن يأتي بركعة أخرى مع هذا الوتر يشفعه بها، وليس عليه أن يأتي في نهاية صلاته بوتر آخر؛ لكونه قد أداه سابقًا، ولأن نقضه مفضٍ لتعدد الأوتار وهو منهيٌّ عنه، فضلًا عن أن الوتر الأول قد مضى على الصحة فلا يتوجه إبطاله بعد تمامه صحيحًا، وهذا القول فيه جمع بين النصوص، والمقرر أن "الجمع أولى من الترجيح"، و"الإعمال أولى من الإهمال" كلٌّ عند الإمكان؛ كما في "إرشاد الفحول" للإمام الشوكاني (1/ 401، ط. دار الكتاب العربي)، و"الأشباه والنظائر" لتاج الدين السبكي (1/ 174، ط. دار الكتب العلمية).
قال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (1/ 214، ط. دار الحديث بالقاهرة): [ذهب أكثر العلماء إلى أن المرء إذا أوتر ثم نام فقام يتنفل: أنه لا يوتر ثانية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا وتران في ليلة». خرَّج ذلك أبو داود، وذهب بعضهم إلى أنه يشفع الوتر الأول بأن يضيف إليه ركعة ثانية، ويوتر أخرى بعد التنفل شفعًا، وهي المسألة التي يعرفونها بنقض الوتر، وفيه ضعف من وجهين: أحدهما: أن الوتر ليس ينقلب إلى النفل بتشفيعه. والثاني: أن التنفل بواحدة غير معروف من الشرع] اهـ.
وقال الإمام ابن رجب في "فتح الباري" (9/ 172، ط. مكتبة الغرباء الأثرية): [النقض يُفضِي إلى التطوع بالأوتار المعددة، وهو مكروهٌ أو محظور، وقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ذَاكَ الَّذِي يَلْعَبُ بِوِتْرِهِ، قال أحمد: كرهته عائشة، وأنا أكرهه] اهـ.
ولا تعارض بين هذا وبين ما جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» متفقٌ عليه؛ حيث إنَّ هذا الحديث جاء في بيان ما في التأخير مِن الاستحباب لا الإيجاب؛ فلا تُمنع الصلاة بعد الإتيان بالوتر.
فقد جاء عَنْ أمِّ المؤمنين السيدةِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَهُوَ جَالِسٌ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند" واللفظ له، والبيهقي في "السنن" عن عائشة، والطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة.
وَعَنْ أمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» أخرجه مسلم في "صحيحه".
قال الإمام ابن رجب في "فتح الباري" (9/ 172): [وهو عامٌّ في مَن كان أوتر قبل ذلك ومَن لم يوتر] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (1/ 369): [(قوله: وتأخير الوتر... إلخ) أي: يستحب تأخيره؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يُوتِرَ مِنْ آخِرِ الليْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَن يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ الليْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ الليْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ» رواه مسلم والترمذي وغيرهما، وتمامه في "الحلية"، وفي "الصحيحين": «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» والأمر للندب، بدليل ما قبله "بحر"... ولا يقال: إن مَن لا يثق بالانتباه فالتعجيل في حقه أفضل كما في "الخانية"، فإذا انتبه بعدما عجل: يتنفل ولا تفوته الأفضلية؛ لأنَّا نقول: المراد بالأفضلية في الحديث السابق هي المترتبة على ختم الصلاة بالوتر وقد فاتت، والتي حصلها هي أفضلية التعجيل عند خوف الفوات على التأخير فافهم وتأمل] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فمتى استيقظت من ليلتك وأردتَ أن تُصلِّي شيئًا من قيام الليل بعدما نمت على وترٍ: فإنه يجوز لك ذلك من غير حاجة إلى أن تشفع الوتر الذي أتيت به أول الليل بركعة، ولا يلزمك أن تأتي بوترٍ آخر بعد انتهاءك من صلاتك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.